الخيُول وأصُولها العربيّة – البربريّة في أمريكا اللاّتينية
د. محمّد محمّد الخطّابي
القسم الثاني من مقالنا الأوّل الذي يحمل عنوان: (معرض الفرس في الجديدة ..غُرّة جماليّات الفلكلور المغربي)، الذي تفضل بنشره ممنوناً موقع (السّؤال الآن) الأغرّ بتاريخ 24/10/2022:
أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابحٍ / وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ..
قالها أبو الطيّب المتنبّي وأفاد، وأبلغ، وأقنع. فكلنا يعرف الدّور الكبير الذي يلعبه الحصان في حياتنا منذ أقدم العصور، و يتجلّى حبّ المغاربة وشغفهم بالخيول في العديد من المظاهر في تاريخهم وفي حفلات الفنتازيا، والتبوريدة في مختلف المواسم، والاستعراضات، والمسابقات، والتباريات وعروض القفز على الحواجز التي تقدمها الخيول المُسوّمة في الإحتفاليات الوطنية والدولية الكبرى التي تقام في المغرب على وجه الخصوص على امتداد الحوْل.
الحصان فى البيرو وأصوله المغربيّة – البربريّة
هناك كتاب كبير يحمل عنوان “حصان الخَطْو في البيرو” للباحث البيروفيّ “خوسّيه أنطونيو دابيلو بركاش” الذي كان قد طلب منّي خلال عملي في سفارة المغرب بالبيرو كتابة تقديم لكتابه على أساس أنه يبحث في الأساس عن أصول وجذور الحصان الحالي الذي يوجد في بلاده، حيث يؤكّد بالمراجع، والمصادر، والمظانّ الدقيقة” أنّ أصل هذا الحصان ينحدر من “الخيول العربية-البربرية- المغربية الاندلسية “التي استقدمها الإسبان منذ 500 سنة للقارّة الأميركية بما فيها البيرو “.
بعد قراءتي لهذا السِّفر الكبير شعرتُ بمتعة لا حدّ لها، بل انها كانت متعة مضاعفة، إذ يدور موضوع الكتاب حول تاريخ الحصان في أميركا اللاّتينية وبشكل خاص في البيرو، لقد قدّم لي هذا الكتاب في المقام الأوّل تاريخاً موفياً ومفصّلا عن تاريخ وصول الخيول الى هذا الشقّ النائي من العالم حيث أصبحت هذه الخيول فيما بعد من المفاخر التي تتباهىَ بها البيرو اليوم بعد ترويضها لها وتلقينها العديد من فنون الخطوٍ المُحكم في خيلاء على أنغام موسيقى معيّنة، فضلاً عن العروض التي تدرّبت عليها وألفتها وتقدّمها هذه الخيول بمهارة فائقة. هذا كما شعرتُ في المقام الثاني أنّ هذا الموضوع التاريخي الطريف عن الحصان غير غريب ولا بعيد عنّي، إذ معروف بما لا يترك مجالاً للرّيبة والشكّ أن الخيول التي يتحدّث عنها الكتاب تنحدر من أصول عربية – مغربيّة- بربرية – أندلسية بالفعل كما يؤكّد معظمُ الدارسين من الاسبان وغير الاسبان وفى طليعتهم صاحب الكتاب الذي نحن بصدده.
تجلّيات معارض الفرَس في المغرب
ومعروف أنّ المغرب – كما هو الشأن في معظم البلدان العربية- يُولي عنايةً كبرىَ للخيول وتربيتها وترويضها وتدريبها، وتُنظم على امتداد السنة العديد من المعارض، والمهرجانات، والاستعراضات في مختلف المدن المغربية بمشاركة العديد من الفوارس والفرسان من مختلف بلدان العالم الذين يبهرون الناظرين بمهارات فائقة في فنون الفروسية وركوب الخيل، فضلاً عن مشاركة ثلّة من الكتّاب، والمؤرّخين، والفنانين التّشكيلييّن في هذه المعارض بهدف تأصيل ونشر ثقافة الفرس وابراز رونقه وبهائه.كان الفرس في كلّ الأزمنة مرتبطاً بالفنّ، والثقافة، والشّعر، والابداع، ولذلك فإنّ هذا الفضاء يُمكّن الزوّار من الإبحار في رحلة مُمتعة لاكتشافِ عوالم تجتمع فيها مختلف الإبداعات وعلاقتها بعالم الفروسية. وعليه فإنّ حضور الفرس بشكل بارز في مختلف الأوساط المغربية في مناسبات الأعياد، والاحتفالات أمر معروف ومألوف لدى القاصي والداني، وذلك نظراً لما للفرس والفروسية من حمولة رمزية، وروحية، وتاريخية منذ عهود بعيدة. فقد برع المغاربة في تطوير فنون الفروسية وايلائها عناية كبرى مثل “التبوريدة “التي تتجلّى فيها أسمىَ مظاهر الأناقة، والرّشاقة، والشّجاعة، والشهامة، والجرأة، والخفّة والمرونة، فضلاً عن عنايتهم الفائقة بكلّ ما له صلة بالفرس والفروسية تربيةً، و تدريباً، وتبارياً، وركضاً، وركوباً، وترويضاً، وصيانةً. كان آخر هذه التظاهرات الكبرى التي تمّ تنظيمها في المغرب عن الحصان في الفترة المتراوحة ما بين 18 إلى 23 أكتوبر 2022: (معرض الفرس في الجديدة) الذي كان موضوع القسم الأول من هذه الدراسة ،ولقد حقق هذا المعرض نجاحات منقطعة انظير.
مُصطلحات الفرَس ذات الأصول العربيّة
ليس من الغرابة في شئ أن يجد القارئ في كتاب أنطونيو دابيلو غيرَ قليلٍ من الكلمات، والمُسمّيات، والمصطلحات التي لها صلة مباشرة بالخيول التي تنحدر من أصول أو جذور عربية، وأمازيغية ونسوق فيما يلي على سبيل المثال وليس الحصر بعض هذه الكلمات التي يتضمّنها هذا الكتاب والتي استقرّت في اللغة الاسبانية على امتداد العصور وهي ما فتئت تُستعمَل الى اليوم في اسبانيا وفى بلدان أميركا اللاّتينية الناطقة بلغة سيرفانتيس وهي بالتوالي: الحِصان، Alazán الزّين، Zaino، الشكيمة، Jáquima، السّوط، Azote، العقرب، Alacrán الخِرقة، Jerga القميص، Camisa مسكين، Mezquino بطيح، Batea الآفة، Alifafes الشّال، Chal y Chalán الفارس، Alfrez، الزغّاية، Azagaya (التي تعنى الرّمح في الأمازيغية حسب المستشرق الهولاندي دوزي). هذه الكلمات وسواها نجدها في الكتاب حسب نطقها الحالي في اللغة الاسبانية والتي تعني نفس معانيها في لغتها الأصلية العربية. بالاضافة الى الكلمات المذكورة أعلاه نجد مصطلحات أخرى تنحدر من اللغة العربية التي لها صلة بالفرَس والفروسية يضيق المجال لذكرها في هذا المقال، ممّا يقدّم الدليل عن الأصول العربية والبربرية للحصان البيروفي.
صدر هذا الكتاب في ثوب قشيب، وهندام رفيع مزداناُ بروائع الصّور ذات الألوان الزاهية عن الخيول العربية والبربرية والاسبانية في البيرو، وفى مختلف بلدان أميركا اللاّتينية. والحقّ أن المؤلف بذل جهداً كبيراً في اخراج هذا السِّفر الرائع حيث أمتعنا وأغنانا بالعديد من المعلومات حول الحصان في القارة الأمريكية.
منزلة الحصان في الشّعر العربي
ومعروف أنّ الحصان قد احتلّ منذ القدم منزلة الصّدارة ونال الاهتمام الأكبر في حياة مختلف الشعوب العربية، ولهذا نجد الأدب العربي يزخر بتراث زاخر من الأشعار العربية التي قيلت في الخيول حيث تغنّى الشعراء منذ العهود القديمة بالحصان الذين كانوا يعتبرونه حيواناً نبيلاً ومحبوباً، وقد ورد ذكر الخيل في عدّة مواضع من القرآن الكريم”.
وتُعتبر الخيول العربية والمغربية والبربرية الأصيلة من أعرق الخيول في العالم وأجملها، وقد حاز العرب والأمازيغ شهرة واسعة في تربية الخيول ذات الدم الخالص حبث كانوا يرعونها ويحافظون عليها كشئ ثمين، ومعروف أنه في اللغة العربية هناك ما ينيف على مئة اسم أو نعت أوصفة للحصان، من التعابير الجميلة التي قيلت في الحصان قولهم : “يكاد أن يخرج من جلده من كثرة العدْو”، ويقال في نفس السّياق عن الخيول : ” كانت تتبارىَ مع الرّياح لخفّتها ومرونتها وسرعتها وقوّتها”. ولقد استُعيرت صفات الخيل للتغنّي بصفات الشعراء في مجال الاعتزاز بالنفس والأنفة والشموخ حيث نجدهم يصفون أنفسهم بالخيول الأصيلة، كما أنهم مدحوا أنفسهم بها وألبسوها صفات الجواد، وكانت الخيول عندهم رمزاً للأصالة، والبسالة، والاعتزاز بالنفس.
ومعروف أن الشعر العربي يحفل بالعديد من الأشعار التي قيلت في الخيول إعجاباً ومدحاً، كان الشعراء يحبّون الخيولَ حبّاً جمّاً ويتغنّون بها، كانوا يتألمون لجراحها، ويبكون عند موتها، وهكذا احتلّ الحصان مكاناً مرموقاً في الشعر العربي على امتداد العصور منذ أقدم العهود، وليس هناك شاعر عربي لم يذكر الحصان في شعره ولم يتغنّ به وبخصاله ومحامده، يقول أحمد أبو الطيّب المتنبي:(الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني.. والسّيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقلمُ). ويقول متغنياً بالحصان والكتاب: (أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ… وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ ). وهو القائل كذلك: (أصارع خيلاً من فوارسها الدهرُ… وحيداً وما قولي كذا ومعي الصّبرُ ). وهو القائل : أراقب فيه الشمس أيّان تغرب.. وعيني إلى أذني أغر كأنه.. من الليل باق بين عينيه كوكب.. له فضلة عن جسمه في إهابه.. تجيء على صدر رحيب وتذهب.. شققت به الظلماءَ أدنى عنانه.. فيطغى وأرخيه مرارا فيلعب.. وأصرع أي الوحش قفـّيته به..وأنزل عنه مثله حين أركب.. وما الخيل إلاّ كالصّديق قليلة.. وإن كثرت في عين من لا يجرب، وهو القائل كذلك : وقد اغتدى والطيرُ في وكناتهـا بمنجـرد قيـد الأوابـد هيـكـل..مِكـرٍّ مفـرٍّ مُقـبـلٍ مُـدبرٍ مـعـاً..كجملود صخر حطّه السيلُ من عل. ومن شعره في الحصان أيضاً : له اذنان يعرف العتق منهما.. كسامع مذعورة وسط ربرب.
وتعبير الشاعر حسّان بن ثابت عن عَدْو الحصان ليس له نظير في مختلف لغات العالم إنه يقول : عدمنا خيلنا إن لم تروها.. تثيرُ النقعَ موعدُها كداءُ.. يبارين الأسنّةَ مُصغياتٍ..على أكتافها الأسل الظماءُ. فالرّمح الذي يحمله الفارس في يده يقرّبه من عينيْ الفرس وهو يعدو فيظنّ أنه يتبارىَ معه ويريد تجاوزه فيبذل كلّ ما في وسعه وطافته في العدو. وكان لعنترة بن شدّاد فرس جميل يُطلق عليه (الأبجر) و(الأدهم ) وعنه يقول : كم مَهْمَهٍ قفرٍ بنفسي خضته…ومفاوز جاوزتُها بالأبْجر.وجُرِحَ فرسُه في إحدى المعارك الضارية جرحاً غائرا مؤلماً مميتاً فَحَزِنَ عليه حُزناً شديداً، وهو يصفُ ذلك في معلّقته فيقول: هلاّ سألتِ الخيلَ يا إبنة مالكٍ.. إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي… يُخبرْكِ مَنْ شهد الوقيعة أنني..أغشىَ الوغىَ وأعفّ عند المغنم..لمّا رأيتُ القومَ أقبل جمعُهم/ يتذامرون كررتُ غير مُذمّمِ.. يدعون عنتر والرّماح كأنها..أشطان بئرٍ في لبان الأدهمِ.. ما زلتُ أرميهم بثغرة نحره / ولبَانه حتّى تسربل بالدمِ…فازورّ من وقع القنا بلبانه وشكا إليّ بعَبْرةٍ وتحمْحُمِ..لوكان يدرى ما المحاورة إشتكيَ/ ولكان لو علم الكلامَ مُكلِّميِ.
خيُول الرّيف أين هي اليوم ؟
وفى سياق الحديث عن الخيول كان الأديب الباحث الصّديق عليّ الادريسيّ كتب معلقاً على مقال لي عن شاطئ “الصّفيحة” الكائن بأجدير(الحسيمة) وعن الخيول التي لعبت أدواراً أساسية في حرب الرّيف التحرّرية حيث كتب يقول: “تكلم الدكتور محمد الخطابي مشكوراً في مقاله القيّم عن سرّ تسمية شاطئ الصّفيحة، وتكرّم الفنان مصطفى بوزيد بوضع لوحة زيتية تترجم مكانة الخيول في المقاومة، ومكانتها كذلك كجزء من حياة ساكنة الرّيف قبل الاحتلال الإسباني. ويعلم الجميع، أو يجب أن يعلم، أنّ تسمية قرية “أربعاء سيدي بوعفيف” (القريبة من أجدبر) باسم بوكيدارن هو تخليد لانتصار الفرسان الريفييّن على فرسان جيش “بوحمارة “حيث غرقت خيولهم على باب سيدي بوعفيف في قصّة ليست بعيدة عمّا حكاه الأديب الدبلوماسي د.محمد محمد الخطابي عن معركة موقع الصّفيحة. كما أنّ أحاديث كثيرة تتناول دور الخيول الريفية في حرب التحرير زمن الشريف أمزيان وزمن أنوال بقيادة الأمير الخطابي, والسؤال: أين خيول الريف ؟ ومَنْ أخذها؟ ومن يمنع اليوم المطالبة باستعادتها من المستولين عليها؟ هل هي جزء من خطط القضاء على هويّة الريف في مجال الفروسية؟. رجائي من الدكتور الخطابي، الخبير بالعلاقات المغربية الإسبانية، ومن غيره من أهل الدراية بالمسألة أن يطرحوا هذا الموضوع. ولهم كل التقدير والعرفان”. كان لزاماً عليّ أن أزجي للصّديق الإدريسي خالص الشكر على إطرائه، وأسارع بإخباره بأنه هو الذي أوحى لي بكتابة هذا المقال الجديد عن الخيول ذات الأصول العربية والأمازيغية الموجودة حالياً في مختلف بلدان أميركا اللاتينية، وكذا عن خيول الريف ذلك أنّني عندما كنت أعمل بليما بالبيرو كتبتُ تقديماً ضافياً للكتاب الذي عالجناه آنفاً حول الحصان العربي- البربري الذي استقدمه الإسبان معهم للقارة الامريكية وهومن تأليف أنطونيو دابيلو بركاش، ويقع هذا الكتاب في 350 صفحة من القطع الكبير وقد أهدي عند صدوره إلى جميع ملوك ورؤساء بلدان العالم.
صفائح أو َحدْوَات الحصان كمين للغزاة
وأمّا قصّة ” الصّفيحة” أو “الحدوة ” إيّاها التي أشار اليها الأديب الادريسي فمفادُها أنّ الإسبان في إحدى غاراتهم على بلاد الريف اقتفوا آثارَ حوافر خيول ثلّة من المجاهدين الذين كانوا يمتطون صهوات جيادهم وعندما وصلوا الى مكان يُعرف اليوم ب ” الصّفيحة” وبجواره مكان آخر يُسمّى ” مَلْعَب” قبالة “جزيرة صخرة النكور” السّليبة، دخلوا في غابات كثيفة من أشجار الكينا أو الإوكاليبتوس، توقف المجاهدون تحت هذه الأشجار وأمر قائدهم الجميع بأن يقلبوا صفائح أو َحدْوَات حوافر خيولهم واندسّوا في غياهب الأجَمَة، فلمّا وصلت جيوش الإسبان مُقتفيةً آثار حوافر خيول الريفييّن ذهبوا في اتجاه معاكس فلم يعثروا لهم على أثر، واستدرجوا الإسبان لمكان نصبوا لهم فيه كميناً آخر في مكان يُقال له (الطايث أو الطاية)، وهكذا نجوا من موت مُحقّق، وبناءً على هذه الواقعة ما زال يُسمّي ذلك المكان ب”الصّفيحة” الى اليوم، وأمّا “ملعب” فهو سهل فسيح كان ساكنة أجدير يلعبون ويتسابقون فيه على خيولهم، ويتدرّبون على فنون الخيالة والفروسية والقتال على صهوات جيادهم، وكانوا معروفين بمهارتهم في ركوب الخيل والرّكض به في مختلف الاتجاهات، ولقد ورث الأبناء فنون الفروسية عن أجدادهم، وحتى زمنٍ قريب كان أحد أبطال المغرب في العديد من المناسبات الوطنية والدوليّة صهرنا المرحوم الصّديق الكولونيل ماجور اليزيد شرّاط ( من مواليد أجدير) الذي حصد العديد من الميداليات والكؤوس الرّفيعة داخل المغرب وخارجه حتى ألحق به آنذاك عن كل جدارة لقب ” فارس لقرن” .
أيّها السّهل الخِصيب على شاطئ “الصّفيحة ” الذي ما زالت رماله البركانيّة تذكر انتصارات سكانها على فلول الإستعمار الغاشم مع كلّ إشراقة شمس، وطلعة بدر، وإطلالة هلالٍ، واكتمال قمرٍ. هناك حيث ما زالت ذاكراتنا الوَهنة تذكّرنا كذلك بتباري سباق الفرسان الأشاوس وهم يمتطون صهوات خيولهم المُسوّمة الذين كانوا ينتصبون عليها كالأسَل الظَّمَاء .