كادحُون في الخارج… مسلُوبُون في الداخل
د. محمد الشرقاوي – واشنطن
أقمتُ في فندق هيلتون في إحدى العواصم التي تستقطب الزّوار، ونزلتُ إلى المطعم من أجل وجبة عشاء تنسيني عناء النهار. وأنا أستقرّ في جلستي، أرى في الجهة الأخرى وجهًا بشوشًا اقترب ليُحيّيني ويرحّب بي بدفء اجتماعي راقٍ ومودّة مغربية أصيلة. وبين عشية وأخرى خلال مقامي، أضحى صديقاً ودودًا يحرص على تقديم أفضل الوجبات لي وحتى بعض “الشهويات” التي يحضّر بيديه، وهو يقود فريقا من عشرات العمال من عدة دول في المطعم. وكل مساء، يقدم عشرات الوجبات المتنوعة حسب البرنامج الأسبوعي: ليلة المطبخ الإيطالي، ليلة المطبخ التركي، ليلة المطبخ الأسيوي.. وهكذا دواليك. فعلا، طاهيةُ تفاصيل الأذواق الدقيقة وزعيمُ مطبخ عالمي بكل استحقاق!
ليس مغزى هذا الحديث عن ألمعية هذا الرجل في مجال الضيافة، وقد عمل في فنادق راقية في الصين والسعودية والكويت والمغرب ودول أخرى، وإنما قصة الكفاح الطويلة لديه منذ أكثر من عشرين عاما. رجلٌ مناضلٌ اجتماعيًا على ثلاث جبهات متنافسة: إعالة أسرته وضمان مستقبل ولده وابنته بدراسة ثانوية وحاليا جامعية واعدة، وتوفير الدعم المادي والأسري لوالدته وأخته، فضلا عن تحمّل حياة الاغتراب والفردانية في عواصم بعيدة بعشرات الآلاف من الأميال.
لا تقف قصة هذا الرجل بشوشِ الملامح منشرحِ الصدر وإن كان يعاني في صمت عند هذا الحد، بل تنكشف أمور أخرى من هول التحديات الماثلة في طريقه. كان يحلم منذ سنين بأن يحقق لنفسه وأسرته سكنًا لائقًا، ومرّت سنوات وهو يجمع الدرهم الأبيض لهذا الحلم الكبير المشعّ في صدره والذي يأخذه بعيدا في تخيله سواء في أحلام اليقظة أو أحلام المنام. وفي عام 2011، ظنّ أن أبواب السماء قد انفتحت لتلبّي الدعاء: ودادية سكنية تسمى “ودادية الربيع السكنية” في فاس تعلن عزمها بناء مساكن جديدة لثلاثمئة وخمسين من المنخرطين من فئات اجتماعية مختلفة من داخل المغرب وخارجه: أطباء وأساتذة جامعيون ومحامون وعدد قليل من مغاربة العالم من بينهم صديقنا المرتبط نفسيا وذهنيا واجتماعيا بقرب تحقيق مشروع العمر.
وداديةٌ تعد بوعود وردية منعشة بتحقيق مشروع البناء في منطقة تشمل 18 هكتارا بقيمة 11 مليار درهم. ومثل بقية المنخرطين، لم يتوان صديقنا عن تقديم دفعتين ماليتين باتجاه تكاليف التجهيز، وثلاث دفوعات مقابل سعر البقعة الأرضية بمجموع 40 مليون سنتيم. هو مبلغ يسهل عدّه ورقًا على طاولة الدفع أو عند التحويل عبر البنك، لكن إمكانية جمعه سنتيما سنتيما يستغرق سنوات أو حتى عقودا من الكدّ والاجتهاد.
يمر أكثر من أحد عشر عاما وصديقنا يعود إلى المغرب سنويا في رحلة الشتاء والصيف، لكن حلم العمر عالقٌ بين الأرض والسماء: لا سكنًا لائقًا استلم مفتاحه، ولا أربعين مليون عادت إلى حسابه لينظر في خيارات أخرى. وعندما سئم هو وبقية المنخرطين من تماطل أعضاء المكتب المسيّر للودادية، نظموا مظاهرة احتجاج ومطالبة بردّ الحق إلى أصحابه. فجاء رد المكتب المسيّر بأن منطقة المشروع السكني أو الوعاء العقاري “تم تصنيفه ضمن المنطقة الخضراء عام 2016”.
ثمة أكثر من سؤال عن مسألةٍ مريبةٍ: كيف كانت البقعة الأرضية “حلالا” لتشييد المشروع السكني عام 2011، وكيف تدخلت التماسيح والعفاريت لتصبح “حراما” بفعل التصنيف في “المنطقة الخضراء” افتراضا إذا صحت الرواية عام 2016؟!
لا يحدث هذا “الإعجاز العقاري” ولا هذه “الصحوة الخضراء” المفاجئة إلاّ في مغرب العجائب، ولا يعيث بأحلام هذا الرجل وأسرته ومئات الأسر الأخرى إلاّ خفافيش مصّ الدماء في مغرب العجائب اللامتناهية. مثل كثيرين ممن تلقّوا لسعات بمثل هذه الوعود الكاذبة، لم يعد صديقنا المكافح من أجل لقمة عيش وسكن لائق يرى أملا واقعيا في هذا المغرب الذي دعا الملك محمد السادس في خطابه الأخير إلى تشجيع استثمارات أبناء الجالية المهاجرة في أرض الوطن، وإلى “الانفتاح على المستثمرين من أبناء الجالية، وذلك باعتماد آليات فعالة من الاحتضان والمواكبة والشراكة، بما يعود بالنفع على الجميع”.
لا يعلم صديقنا المناضل من أجل سكن لائق بعرق جبينه كيف سيتم تحقيق إرادة الملك بإزالة “معيقات الاستثمار وعراقيله بالمغرب”، وهو في الوقت ذاته لا يريد أن يفقد الأمل أو أن يقبل بواقع يسرح ويمرح فيه سماسرةُ التحايل والتوريط والضحك على الدقون في وضح النهار منذ أكثر من أحد عشر عاما.