وعد بلفور من السَّمَوْأَل إلى صَمْوِيل..!
د. محمّد محمّد الخطّابي
الشّقاق الداخلي، والتشرذم والخلافات، وتصدّع صرح الوحدة الوطنية المنشودة التي تتعثر وتكبو كلما همّت بالإنطلاق والخروج من القمقم الذي زجّت بداخله لأسباب لا تخفى على أحد، هذا التعثّر، أو هذه الكبوة قد تؤول فى بعض الأحيان لأسباب واهية مثل “مشادّات كلامية حادّة” قد تنشب بين شخصيّات وازنة ،أو قادة بارزين من مختلف الفصائل الفلسطينية.
الإعتقالات، والمواجهات والإضرابات الشاملة للفلسطينيين التي عمّت السّجون الإسرائيلية تزيد من تأجيج الوضع القائم على مختلف المستويات، هذه السجون التي لا تعرف معنىً للشّفقة والرحمة، حيث تُضرب بعرضَ الحائط كلّ العهود، والمواثيق الدّولية التي لها صلة بحقوق “الأسرى”المعترف بها دولياً .
بلفور وما بعده
القضيّة الفلسطينية ما فتئت تتغلغل فى أفئدة وقلوب كلّ المحبّين العاشقين للحريّة والمتعطّشين للكرامة، والإنعتاق فى كلّ مكان، من كلّ الجنسيات،والملل،والنحل، والإثنيات والأعراق منذ “وعد بلفور” المشؤوم، منذ الرسالة التي وجّهها وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر جيمس بلفور بتاريخ الثاني من شهر نوفمبرعام 1917 إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. مروراً بالتقسيم اللعين 1947، أو ما أصبح ينعت ب”النكبة” التي أفضت إلى قيام ” (دولة إسرائيل) عام 1948، ووصولاً إلى “النكسة ” عام 1967. وأخيراً الفُرْقة ،والشقاق، والشتات، ووو..
إنّها أحداث تاريخية مؤلمة تترى نصب أعيننا، ومفاجآت مؤلمة خبّأها القدرللعديد من أبناء فلسطين الذين رمت الأقدار بكثيرين منهم خارج وطنهم، وبعيداً عن أرضهم قهراً وقسراً، فانتشروا فى بلاد الله الواسعة فى المهاجر، من أقصى أصقاع العالم إلى أقصاه،ولكنّهم مع ذلك ظلّوا أبداً مشدودين إلى أرضهم ، متشبّثين بحقوقهم على الرغم من محاولات القضاء على هذا الشعب وإستئصاله من جذوره، وطمس هويّته ،وتشويه ثقافته، وجغرافيته وتاريخه بإستعمال مختلف ضروب الحيل، والدسائس، والخسائس، والمَكر، والمكائد لتحقيق هذه الغايات. وإنطلقت الثروات والإنتفاضات الواحدة تلوالأخرى ، وطفق الشعب الفلسطيني فى كتابة صفحات جديدة من تاريخه البطولي، حاملاً فى المحافل الدولية رمز كفاحه وثورته الكوفية الفلسطينية المرقّطة، أوالمنديل الفلسطيني، وغصن الزّيتون.
حصاد من هشيم
الأشقّاء المشهود لهم بالشّقاق فقط يذرفون الدموع حرّى ساخنة، وينزوون بأنفسهم “الشّاعرة” لينظموا لنا كلماتٍ وأشعاراً مسجوعة مشحونة بالغضب والإنتقام.. وتمرّ الأيام وتنقضي الليالى، وفي رحمها وخضمّها تتولّد وتستجدّ الأحداث، وننسى أو نتناسى ما فات،المآسي ما زالت تترى أمام أعيننا، وعلى مرأى ومسمع منّا، فيشاطرنا العالم طوراً أحزاننا، وأحيانا يجافينا… ونكتفي بالتفرّج والتصفيق والتهليل، والتحسّر والتأسّي بلغة مؤثّرة باكية، شاكية، كئيبة ،حزينة، مذلّة….
ما أكثر لوحات الشّرف التي نزهو بها، وتمتلئ بها دورُنا ، وتعلو جدرانَ قصورنا وبيوتاتنا ، وما أكثر النياشين والأوسمة التي نمتشقها، وتنمّق صدورَنا، وما أكثرما نعود إلي التاريخ لنستلهمَ منه الدروس، والعبر، والحكمة، ولكنّ لا تعمر راحات أيدينا فى آخر المطاف سوى قبض من ريح، أو حصاد من هشيم.
إننا قوم رحماء بغيرنا، مشهود لنا ومشهورون بالصّفح، والتسامح، رحماء بالصغار والكبار،معروفون بهذه الثنائية المركبّة التى تجمع بين القوّة والليّن، والبّأس والشدّة، والصّلابة والطراوة، والحدّة والرّخاوة ،فقد قال شاعرهم ذات يوم:
نحن قوم تذيبنا الأعينُ النّجلُ، على أنّا نذيب الحديدَا …
طوع أيدي الغرام تقتادنا الغيد، ونقتاد فى الطّعان الأسودَا….
وترانا يوم الكريهة أحراراً ، وفى السّلم للغواني عبيدَا .!…
ما زلنا نستذرّ عطفَ العالم، ونستجدى رحمتَه ، ونصف له الأهوالَ، والفظائعَ، إنّنا قوم حالمون ، إنّنا ما برحنا منشغلين بأمورنا الداخلية، منبهرين مشدوهين بالأوار المُستعر وسط ساحاتنا، وداخل بيوتاتنا، وأحيائنا، وأفئدتنا.
السّموأل القديم وصمويل الجديد..!
كل منّا مرسوم على محيّاه الجانب المقطّب من مُحيّا موناليزا أو جيوكاندا ، فلا هو بالوجه الحزين ولا بالجَذل، ولا هو بالباسم ولا الباكي ، صيفنا قائظ مُستعر، وخريفنا شاحب مُكفهرّ، وشتاؤنا صقيع مُنهمر، وربيعنا مُزهر مُزدهر… كلّ يحمل همومَه، وقلقه، وهواجسَه ،وأوهامَه فوق ظهره ويمضي.
” صمويل ” الجديد لم يعد يبالي بأيّ شئ مثلما كان عليه الحال مع جدّه الأبعد “السّموأل ابن عاديا اليهودي” القديم، الذي كان يُضرب به المثل فى الوفاء عند جيرانه وخلاّنه العرب الأقدمين فى جاهلية القوم، فكان قائلهم يقول فى الأمثال فى مجال الوفاء بالعهود القولة الشهيرة : “أوفىَ من السّموأل” ذاك البعيد الضائع في ثبج الزّمان والمكان، وفى سديم المسافات السرمدية ، على عكس إبن جلدته القريب، كان يأبى أن يدنّس عرضه، أو أن تهان كرامته بشتّى ضروب اللّؤم،والمكر، والخديعة، فكانت تبدو وتغدو كلّ الثّياب الرثّة، والأسمال البالية التي يرتديها جميلة عليه…!
لنا تاريخٌ حافل، وماضٍ تليد، وتراثٌ زاخر،… ولكنّ أعوادنا أمستْ هشّةً، واهية، إنطلقنا نتوق نحو بطولات فردية، دونكيشوتية وهمية، واهية. فكشفنا عن مدى ضعفنا، ووهننا، وخذلاننا، وخيبتنا، ولزمت الكآبة مُحيّانا، وسكنت الحسرة قلوبَنا .