مائة عام على اختفاء مارسيل بروست
باريس- المعطي قبال
1- الموت على سرير حديدي
قبل أن ينقل الميت من سرير الموت إلى سرير القبر للاختلاء بسريرة العتمة، يكون له موعد أخير مع سرير الحياة، ذاك الذي عايش وتحمل آهات اللذة والألم. على أي وفي كل اللحظات كان السرير ملاذا وملجأ… في حالة الموت الطبيعي يلتحم المريض بسريره لتأليف قطعة واحدة، جسد واحد. ويتحمل السرير مريضه إلى أخر نفسه. وقبل أن يلفظ أنفاسه، تتقدم أشياء الغرفة والحياة في كثافتها غير المعهودة: البورتريه الباهت على الحائط الذي مال للاصفرار، الزجاج المتسخ الذي تعاقبت عليه الفصول الأربع، الستار المغبر، جهاز الراديو الخربان …مفعول الزمن نال من هذه الأشياء التي انتفضت في هذه اللحظة من الصحو ولكأن الذاكرة، في ترحالها، تريد أن تختزنها إلى الأبد. حين نمعن النظر في الصورة التي التقطها، بإيعاز من جان كوكتو، المصور مان راي لمارسيل بروست وهو طريح الموت على فراشه، نراه بلحية سوداء مسترسلة، بشعر كثيف وفي هيئة مهيبة وهو ممدد على سرير حديدي وملفوف في لباس أبيض ناصع. هنا لسيادة وسطوة الموت قوة خارقة يهدأ بموجبها إيقاع الحياة. يعم الصمت وتنسحب الكائنات. توفي بروست وهو في 51 من عمره على إثر إرهاق جسدي مضاعف بالتهاب قصبي. كان ذلك يوم السبت في 18 نوفمبر من عام 1922. اين نحن من بروست الانيق، الداندي، المساير لموضة زمانه والجليس للمجمعات الثقافية الباريسية في الأحياء الفخمة والأرستقراطية؟ تجرد بروست وهو على فراش المنية من بريق الأبهة بعودته إلى آدميته البسيطة والحافية.
في الثامن عشر من هذا الشهر تحل إذا الذكرى المئوية لرحيل بروست. وقد شرعت دار غاليمار، الوكيلة على أعماله، إلى جانب الصحف اليومية والأسبوعية والمؤسسات الثقافية والمحطات الاذاعية والقنوات في إعداد وتقديم برامج واحتفاليات تخليدا لهذه المناسبة. تكاد مثل هذه الطقوس تنعدم في ثقافتنا ومجالنا. إذ بعد وفاة هذا الروائي أو ذاك الشاعر، يذرف البعض عبر «ميخيات» الفيسبوك الدموع على المرحوم فيما يطرح البعض التعازي من خلال جملة «إن لله وإنا إليه راجعون» أو يسرد آية قرآنية حتى وإن كان المرحوم من كبار مقارعي القرعة ليل نهار! يطلق البعض على هذه الظاهرة سلوك التهجين. لهذا فقد كتب علينا النسيان في الحياة وفي الممات!
2- البحث عن الزمن الضائع
يمثل بروست لحظة تاريخية هامة في سجل الآداب العالمية. لأن نتاجه يذكرنا بأهمية التشديد على حياة الحاضر بما هو كثافة تستحق العيش بدل التفكير في المستقبل. لكن لقراءة بروست وبالأخص «بحثا عن الزمن الضائع» يجب على القاريء أن يستيقض باكرا أو ينام متأخرا. أن يتعود ويستانس بإيقاع الكتابة البروستية التي تقبل وتدبر معا، الشيء الذي قد يضجر القاريء المتعود على الحكي والسرد الأفقي. لتأليف «البحث عن الزمن الضائع»، بمجمل نصوصه، أقفل بروست عليه لمدة عشر سنوات. كانت النتيجة أزيد من 3000 صفحة هي بمثابة مرآة يرى فيها بروست نفسه أولا قبل ان يرى تشكلات وتفككات الزمن. عن هذه الرواية يقول أومبيرتو ايكو أنها بحاجة إلى تصحيح ومراجعة وتوليف. من جهة أخرى تطرح الجمل الطويلة للرواية إشكالا كبيرا لقاريء اليوم الذي تعود على التقشف، على ما هو خفيف وقصير وذلك على شاكلة جمل تويتر. لكن ومع ذلك تبقى رواية بحثا عن الزمن الضائع رواية ساخرة من الذات، من الأخرين من الحقبة. عبارة عن كوميديا بلا فصول ولا حلقات. أي رواية تستحق القراءة بل عدة قراءات.