شعريــة الاختلاف والتجاوز.. قراءة في تجربة نور الدين محقق الشعريـة

شعريــة الاختلاف والتجاوز.. قراءة في تجربة نور الدين محقق الشعريـة

لطيفة أحميش

  تمتد تجربة الشاعر المغربي نور الدين محقق عميقا في الزمن الشعري المغربي، فهو يعتبر من شعراء جيل الثمانينيات المغربي، هذا الجيل الشعري الذي استطاع أن يفتح على الشعرية العالمية وأن يبني أفقا شعريا خاصا به في تنوعه وغنام المعرفي واعتمادا على التجربة الذاتية للشاعر ، بحيث قد أصبح فيه يعبر عن هواجسه الشخصية التي ترتبط به في حياته وفي بعده الإنساني، أكثر من ارتباطه بالآخر .إنها تجربة شعرية سبق أن صنفها الشاعر نور الدين محقق ضمن ما قد أسماه بشعرية الاختلاف والتجاوز في “البيان الشعري” الذي سبق له أن أصدره سنة  2006، ونشره في منابر مغربية ومشرقية معروفة. من هنا، ونظرا لأهمية تجربته الشعرية التي تسير في موازاة مع تجربته الرواية، ارتأينا أن نقف عند بعض دواوينه الشعرية التي تكشف عن أصالة شعريته وبعدها الإنساني وامتدادها الكوني، من أجل استجلاء خصائص شعره.

يقول الشاعر في ديوان “طائر الفينيق” موجها خطابه إلى الحبيبة الغائبة ما يلي:

“رسائلـك منقطعـة منـذ الصباح

والهاتف مرمـي فوق السريـر

وصحـف اليوم العالميـة

لم تفكـر في نشـر قصائد حب لي

كما كانت تفعل مع بابلو نيرودا… “

يبدو أن سهام الوحـدة تُرسل من جديـد، لتصيب شاعرنـا. فلا يجد إلا الكتابـة ملاذا للتخلـص من حدتـها. ومرد هذه الوحـدة التي تتربـص به غيـاب وبعـد الحبيبـة وانقطاعهـا عن مراسلتـه. وكذا عدم نشـر رسائلـه وقصائده التـي تنتفض بنفحات الحب من طرف الصحف، “كمـا كانـت تفعـل مع بابلو نيرودا”. وإن حضـور اسم هذا الشاعـر التشيلـي (بابلو نيـرودا) هنا رهيـن بوجـود رابـط وثيق بيـن طريقـة تفكيره وطريقـة تفكـير شاعرنـا نور الديـن محقق. خصـوصا وأن كليهمـا مهتمـان بالحـب والمرأة (المحبوبة على وجـه الخصوص)، وكليهمـا يسعيـان إلـى جعـل هذا الحب يملأ كـل شيء وكـل مكـان. وذا مـا نلمسـه في قول بابلو نيرودا “أدرك أنك لـي وأني لك، والرسائل والأخبار تفيض، فحبنـا يملأ كل شيء، وكل شيء سيحدثـك عنـي على مدار الساعـة وكل شيء يجلـب لي أخبارك. “

وهو نفس الأمر الذي نجده واردا عند الشاعر نور الدين محقق، إذ يقـول في ديوانـه “أيتها الجميلـة بين النساء” ما يلي:

“إنني من بالحب

قد تغنـى

إننـي من في النـاس

قد تمنـى

أن تبقـى عيناك

شاهدتـين

علـى مر الأجيال

علـى شعـر ينسـاب

مـن شفتـي

ويملأ الدنيا بالجمـال…”

ومنـه، نلمـس ذلك الشبـه الوارد بين الشاعريـن، والكامن في شغفهـم بالحب ورغبتهـم في جعلـه يملأ كـل مكـان ويشمـل كل شيء بجمالـه ورقتـه، خصـوصا إن كان منبـع هذا الحب حسنـاء تسبح بالخيال وتغني أغاني الحـب والجمال… حسناء تدفـع الشاعر للحياة والبعـث من جديـد. كمـا قال الشاعر نور الدين محقق:

” يا لهـا من أنثـى

تسبح بالخيـال

وتغنـي على مهلهـا

أغانـي الحب والجمال

وتدفعنـي للحيـاة…”

إن حضور المرأة إذن شرط أساسـي لا يكتمـل إبداع الشاعر في غيابـه؛ ذلك أنهـا (المرأة) جوهر الإبداع وأساس الجمال. وقد أكد الشاعـر نور الدين محقق ذلك في إحدى حواراتـه قائلا: “فـي كتاباتـي الإبداعيـة تحضـر المرأة ببهائها، لا وجـود لكتابـة رائعـة بدون المرأة، فهـي ملح الحيـاة، لكن حضورهـا لا يأتـي من أجل الزينـة، وإنمـا يولد من أعماق التفكيـر في كنـه الحياة والتعبيـر عنهـا…”. وإن الهدف من هذا الاستدراك الذي أورده الشاعر هنا –لكن حضورها لا يأتي من أجل الزيـنة- هو التمرد على تلك النظرة الكلاسيكيـة التي تحصـر دور المرأة في الزينـة وتجاوزهـا نحـو نظرة أفضـل تعتبـر المرأة كنزا يولد التأمل لترى عبـره الحياة…

يقول في ديوانه “عودة طائر الفينيق”:

“لـم نتـفق علـى موعـد للقـاء في المقهـى

ولـم أحـب أن أذهـب إلى البحـر

وحيــدا…

حتـى القطـة الصغيـرة أضربت اليوم

عن شرب الحليـب…

ونظرت بعتـاب إلـي…”

اللقـاء/ الوحـدة/ العتـاب: تتعاقـب هذه الكلمـات وتتوارد بشكـل غريب، وكأنها في شموليتها تؤدي وظيفـة تعبيـرية تقربنـا من الحالـة النفسية التي يعيشها الشاعر جـراء بُعـْد تلك الحسناء التي كانـت سببـا في تفجيـر هذه الكلمـات العميقـة، والتـي في غيابهـا فقد كل شيء قيمتـه وطعمـه. وقـد ولـد هذا الغياب حالـة من العذول والعتاب للذات الشاعـرة –نظرت بعتاب إلـي- وفي ذلك إشارة إلى كونهـا سبب هذه الحوائل والحواجـز التي تعيق لقاء المحبوبـة.

يقول أيضا في القصيدة نفسها ما يلي:

“حيـن خرجـت من البيـت

تحولـت إلى طائـر فينيق

وحلقـت في الأعالـي…

اتبعينــي إذن…”

يفاجئــنا الشاعـر من جديـد بفكـه قيـود الوحدة والعتاب والتغلـب عليها، عن طريـق مجابـهة عزلتـه وتكسير جدارها ليستنجـد بالعالم الخارجـي ويحلق فـي أعاليـه كطائـر بعث بعد موتـه، وأنقذ بعد دمـاره.

إن هذا الرصـد الدلالـي لحمولات النص الشعري، تجعـل المتلقـي يلحظ ذلك التناقـض الذي تزخـر بـه شخصيـة الشاعـر، أو ربمـا الأصح أن نقول يلحظ تلك القـوة والرغبـة في تجـاوز كل الموانـع و المصادفات التـي تعجـل بحلول كل مقومـات الأسى والدمار .ولعـل المراد من إيراد هذه الدلالات هو رغبـة الشاعـر في إثبات فكـرة مهمـة يسعى كل شاعر حداثـي إلى ترسيخهـا، مفادها أن المعاناة النفسيـة/ الدمـار/ التأزم/ المـوت (المجازي)/ الوحدة/ العتاب، كلهـا سبل تقودنـا نحـو بدايـة جديدة تبعث فيها أرواحنا المدفونـة تحـت أنقاض النهايـات الوهميـة التي نصنعها لأنفسنـا…

وقد صـورت لنا هـذه المقاطـع الشعريـة قدرة الشاعر نور الدين محقق على التلاعـب بالألفاظ والدلالات معـا، حيث يدخلنـا في جو من البؤس بألفاظـه المأساويـة المميـتة، ثـم سرعـان ما يبهرنـا بتلاشـي هذا البؤس معلنـا بعثـه واحتفاءه بالحيـاة.

يقول في قصيدة “مرآة جـان كوكتـو” ما يلي:

“كلمـا غنـى في صباح

أسطـوري…

ارتدت الأزهـار ثـوب الحيـاة

وأرادت لـه الخلـود…”

ليـس غريبـا أن يأخذنا الشاعر نور الدين محقق إلـى عالم التأويـل من جديد، بسبب عتباتـه الغامضـة التي يفتتـح بها قصائده، وإن اختيـاره هذا العنـوان “مرآة جـان كوكتـو” يجعل أشرعـة السؤال تتسلـل إلى ذهـن القارئ ليحاول تفسـير تلك العلاقـة الباطنيـة والخفيـة التي تربـط قصائده باسم الشاعر والفنان الفرنسي جان كوكتـو، والتـي في الغالب يحدد جوهرها في مفهوميـن رئيسيين هما: “التأثيـر والتأثـر”. بمعنـى أن الشاعـر نور الدين محقق تأثـر ببعـض أعمـال الكاتـب جان كوكتو، فتسلل أثـر هذه الأعمـال بكل عفويـة إلى إبداعاتـه، أو ربمـا أن الأمـر تنطبق عليـه مقولـه “إن الروح تعشق من يشبههـا” أي أن حضور اسـم الشاعر جان كوكتو في كتابات المبدع نور الدين محقق هو رهيـن بوجـود بعض التشابهـات بينهما والتي صادفـتهما معا وجعلتهما يلتقيان فـي بحـر إبداعـي لا يُنزف ولا يدرك غوره. ولعـل الاحتمـال الثانـي أقرب للصواب، وإثبات ذلك يقتـضي بالضرورة العودة للعنـوان؛ (مرآة جان كوكتو) ذلـك أنه يصرح بشكـل ضمنـي بوجود هذا التقارب والتماثل بين الشاعريـن. فكلمة “مرآة” تعنـي –حسب معجم المعاني الجامع- ما يرى فيهـا الناظـر نفسـه، وفي معجـم الغنـي، زجاج من بلور يتراءى فيـه، أي ينعكس عليـه وجـه الناظـر. وإن نسبـة هذه المرآة للشاعر الفرنسي جان كوكتو لم تكـن من فراغ، بل إن الهدف منها هو إبراز مدى انعكـاس شخصيـة الكاتـب عليهـا. فأيـن يظهـر لنـا هذا الانعكـاس؟ وما الجانـب المشترك بين هذين الشاعرين المبدعين؟

إن الإجابـة عن هذا السـؤال، تتطلـب منـا الإحاطـة أولا بسيـرة كل من الشاعر نور الدين محقق والشاعر جان كوكتو، أو علـى الأقـل، تتطلـب منا معرفـة من هو جـان كوكتو؟ ومن هو نور الديـن محقق؟

جـان كوكتـو هو شاعر وكـاتب ومصمـم ومسرحـي وفنـان ومخرج وروائـي فرنسـي، عضـو في أكاديميـة اللغـة الفرنسيـة، والأكاديميـة الألمانيـة للغات والشعـر… لـه مجموعـة من الإبداعات. من بينهـا: (مسرحيـة صوت الإنسـان/ مسرحيـة بيت من زجاج… أمـا نور الديـن محقق، فكاتب مغربي وباحث في مجال سيميائيـات السرديات الثقافيـة، رجل آداب وفنون، منشغل بالجماليات الأدبية والفنية إبداعا وتحليلا ونقدا، صدرت لـه مجموعـة من الأعمال الإبداعية والفكرية والنقدية باللغتين العربيـة والفرنسيـة، لـه في مجال النقد الأدبي: “نجيب محفوظ وشعريـة الحكـي”، “شعريـة الكلام الروائـي”… أما في مجال النقد الفني فنجد “شعريـة النص المرئي: المسرح والتشكيل والسينما” ،ولـه أيضا مجموعـة من الكتب الإبداعيـة في الشعـر نذكر من بينها دواوينه الشعرية مثل  ” أيتها الجميلـة بين النساء” و “عودة طائر الفينيق” ، كما نشر العديد من الروايات ، يمكن الإشارة إلى بعضها مثل  كل من رواية “شمس المتوسط” ورواية “زمان هيلين” و رواية “بريد الدار البيضاء” وسواها .

ولقـد أوردنـا هذه السيرة المبسطـة لنوضـح أن الجامـع بيـن الكاتبيـن هو انفتاحهمـا على مجالات متعددة، وإبداعهمـا في أجناس مختلفـة. وذاك ما جعـل الشاعر نور الدين محقق يعتبر جان كوكتـو مرآة تعكـس وجهه، فبالتالي فإن إيراد هذا العنوان “مرآة جان كوكتو” في مستهل القصيدة إنما هو إشارة عميقـة حافلـة بدلالات لا يمكن أن يتوصل إلى مغزاها إلا من فكك شفراته وأسقطها على سيرة الشاعرين المبدعين معـا ليتوصـل في النهايـة إلى الخيط الرابط بينهما. والمتجسـد في شساعـة ثقافتهـما وسعـة اطلاعهما وزخارة إبداعهما.

ننتقـل الآن إلى قول الشاعر نور الدين محقق في هذه القصيدة “مرآة جان كوكتو”:

“كلما غنى في صباح أسطوري

 ارتدت الأزهـار ثوب الحيـاة

وأرادت لـه الخلود”

  إن هذه القصيدة التـي تحمل بين ثناياها مجموعـة من الأفكـار المشيدة بأهميـة الإبداع بشكل عام والغناء والشعـر بشكـل خاص، ودوره في بعـث الحيـاة في زمـن لا يسوده إلا المـوت…

وهي بالتالي تكاد تلخص لنا كل هذه الشعرية التي تتميز بالأفق الإنساني الواسع وبالانفتاح على مختلف الآداب والفنون، ومن ثمة فهي تتميز بشعرية الاختلاف، لأنها تبني أفقا شعريا خاصا بها، وبشعرية التجاوز، لأنها تنفتح على الشعريات العالمية في تعدديتها وفي غناها.

إن تجربة الشاعر نور الدين محقق الشعرية تستحق أكثر من قراءة وقراءة، وهو أمر قد يدعونا للعودة إليها في دراسات أخرى قادمة.

– قائمة المراجع والمصادر:

-نور الدين محقق : ديوان “عودة طائر الفينيق” منشورات دفاتر الاختلاف 2019

-نور الدين محقق: ديوان “أيتها الجميلة بين النساء” –منشورات دفاتر الاختلاف 2016

-نور الدين محقق: “البيان الشعري” موقع إيلاف (الأربعاء 18 يناير 2006).

– بول ريكور : الوجود والزمان والسرد. ترجمة وتقديم سعيد الغانمي. المركز الثقافي العربي.

 – عبد الكبير الخطيبي: ديوان” المناضل الطبقي على الطريقة التاوية” – ترجمة كاظم جهاد. منشورات دار توبقال 1986.

– بابلو نبرودا: “أشعار القبطان” -ترجمة ماهر البطوطي، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1999 .

– بعض المواقع الإلكترونية الثقافية (حول الكاتب نور الدين محقق، وجان كوكتو، وبابلو نيرودا)

Visited 16 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة