الأمريكية باتريشيا هايسميث روائية خارج المؤسسة الأدبية
رضا الأعرجي
لم تكن لطيفة…
ونادرا ما كانت مهذبة..
ولا يعرف ما إذا كانت امرأة متسامحة أو كريمة..
لكن القلة من الأشخاص الذين كانوا مقربين من الروائية الأمريكية باتريشيا هايسميث عادة ما يصفونها بهاتين الكلمتين: صادقة ومباشرة.
كانت من محبي الحيوانات إلى حد كبير لأنها تعتبرهم أفضل من البشر.
في إحدى المرات، أعلنت أنها إذا صادفت رضيعاً جائعاً وقطاً صغيراً جائعاً، فلن تتردد في إطعام هذا الأخير وترك الطفل يدافع عن نفسه.
سألت ذات مرة، لماذا يُتوقع من الحيوانات المنزلية الأليفة أن تستهلك مواد قد نجدها غير مستساغة؟ وأوصت كعلامة احترام للكلاب والقطط بضرورة إطعامها أجنة معدّة بعناية من حالات الإجهاض البشري: نحن لا نهتم بكرامة الثيران والحيوانات الأخرى عندما نأكل خصيانهم، فلماذا لا نعوض الثدييات بالمثل من أجسادنا؟
ذات مرة، صدمت ضيوفها، وكان من بينهم الانجليزيان الروائي جورج أورويل والشاعر فيليب لاركن، وذلك بسقي قطتها من شرابها المفضل ووضعها في كيس وتركها تتأرجح لترى كيف ستتعامل الحيوانات وهي في حالة سكر. غادر جميع الضيوف تقريباً على الفور.
وفيما يتعلق بالشراب، كانت هايسميث من محطمي الأرقام القياسية..
من أيام الكلية، كانت تستمتع بكل شيء، من البيرة إلى المشروبات الروحية، وفي منتصف العمر عملت بجد على البقاء في حالة سكر من الإفطار حتى وقت النوم. كانت مغرمة جداً بالجين لكنها كانت تقابل تناوله بجرعات من الويسكي.
عندما كانت تعيش في سوفولك، المقاطعة الانجليزية، حضرت ذات مرة حدثاً في أحد الفنادق، وجلست وحدها في القاعة مع مشروبها. لفتت انتباه ضيف آخر، لم يقابلها من قبل لكنه علق لصديق بأنها في رأيه مجنونة خطيرة يجب الاحتراس منها. كان الضيف طبيباً نفسياً، وقد صُدم بتعبيرات وجهها التي ادعى أنه لم يصادفها أبداً خارج مصحة عقلية.
ربما يكون الطبيب النفسي قادراً أكثر من غيره على شرح ادعائها: “أنا رجل وأحب النساء”.
لقد فعلت ذلك مع عشيقاتها، وكان شغفها بالنساء يفوق شغف كازانوفا واللورد بايرون والممثل ايرون فلين عند مقارنتهم بها، بل يمكن اعتبارهم كسالى وحتى رصينين بالقياس إليها.
بدت وكأنها تستمتع بعلاقاتها مع النساء المتزوجات على وجه الخصوص، ولو قدر لها وعاشت في زمننا، حيث تكاد المثلية أن تعد حقاً من حقوق الإنسان، يمكن للمرء أن يتخيل كم ستسعد هايسميث حين تقرأ خبر استدعاء كندا لسفير روسيا لديها للاحتجاج ليس على قضية سياسية خطيرة بين البلدين وإنما على تشريع بلاده قانوناً يجرم المثلية، أو عندما ترى وزيرة داخلية ألمانيا وهي تحمل شارة المثليين علانية في أولمبياد قطر، وربما كانت أضافتها إلى مجموعتها من العشيقات.
قرب نهاية حياتها أسرت إلى جارتها السويسرية فيفيان دي برناردي أنها مارست الجنس لأول مرة مع رجل قبل وقت قصير من مغادرتها إلى تكساس: لم يكن الأمر ممتعاً على الإطلاق. كان مجرد فضول مثل تجربة مختبرية طبية..
حصل أن وجدت هايسميث ما يكفي من الوقت لتقع في الحب وبعمق، وأن تصبح مفتونة بخمس نساء دفعة واحدة. كان الأمر الأكثر إثارة للاهتمام مما فعلته معهن هو ما كتبته عنهن في يومياتها الخاصة. لقد كانت أمينة في تسجيل غرامياتها وميولها الجنسية وعلاقاتها النسوية في هذه اليوميات التي بلغت أكثر من 8000 صفحة.
في هذه اليوميات التي اكتشفت بعد وفاتها وأصبحت ضمن مقتنيات الأرشيف الأدبي السويسري في برن، كانت هايسميث تسجل بداية كل علاقة من حيث النشوة الدنيوية، لكن المبالغة في الافتتان دائماً ما تكون مصحوبة بتنبؤات بالقتل أو الموت، والتي عادة ما تكون دقيقة. ليس بالمعنى الحرفي، ولكن من حيث ذبح العواطف أو إبادة الحب.
لقد حددت هايسميث منذ سن العشرين طرقها الخاصة للسيطرة النفسية على عشيقاتها واعتبرت أنها ضرورية جداً لنفسيتها: لا أستطيع أن أتخيل سيطرة بدون حب، ولا حب بدون هيمنة.
كانت هايسميث مأخوذة بالفعل بالدوافع المتشابكة للحب والكراهية، وقد كتبت في يومياتها ذات يوم من ديسمبر 1948: القتل هو نوع من ممارسة الحب، نوع من التملك. وقد احتفلت باللاعقلانية والفوضى العاطفية، واعتبرت المجرم النموذج المثالي للبطل الوجودي للقرن العشرين.
في لقاء صحفي أبدى المحرر هذه الملاحظة: على الرغم من أن رواياتك تحظى باحترام كبير في أمريكا، فإن العديد من القراء العاديين يشعرون بالغرابة لأن جميع شخصياتها تفتقر إلى الحشمة أو الإنسانية.
لم تعترض هايسميث، بل أعربت عن موافقتها. وأضافت: “ربما لأنني لا أحب أحداً”.
كانت قائمة الكراهية الخاصة بهايسميث مثيرة للدهشة في تنوعها: اللاتينيون والسود والكوريون والهنود والهنود الحمر والبرتغاليون والكاثوليك والإنجيليون والأصوليون والمكسيكيون وكثيرون غيرهم…
في عام 1992، زارت صديقتها السابقة، ماريجان ميكر، في أمريكا، ونظرت حول أحد المطاعم ولاحظت كيف أن الغالبية العظمى من العملاء كانوا أمريكيين من أصل أفريقي. افترضت ميكر أنها كانت تدرك كيف تغيرت الأمور منذ صغرها عندما كان التمييز العنصري أمراً روتينياً، لكن لا. بالنسبة إلى هايسميث كان هناك الكثير منهم بسبب “عادات التكاثر الشبيهة بالحيوانات”. ومضت في الشرح والتفصيل: من المعروف أن الرجال السود أغبياء للغاية بحيث لا يدركون أن الجماع غير المحمي يؤدى إلى الحمل.
كانت هايسميث ملحدة، ولطالما اعتبرت نفسها ليبرالية، وكانت في سنوات دراستها الجامعية تتماشى مع الطلاب السود، أصبحت مقتنعة في السنوات اللاحقة أن السود هم المسؤولون عن أزمة الرعاية الاجتماعية في أمريكا.
وعلى الرغم من قضائها عشر سنوات مقيمة في فرنسا، إلا أن هايسميث كانت تشمئز من الفرنسيين، وتسخر من جميع عاداتهم، بينما تظهر مشاعر الحنين إلى موطنها الأصلي أمريكا..
كانت تكره العرب، ويرجع ذلك، في رأيها ، إلى معايير النظافة المتدنية، لكنها استثنت القضية الفلسطينية. لم تتعاطف كثيراً مع الشعوب الشرق أوسطية المحرومة من حقوقها وحرياتها بل إن دعمها لفلسطين يعكس مشاعرها تجاه مجموعة أخرى من الناس تكرهها أكثر من أي مجموعة أخرى: اليهود.
أعربت هايسميث باستمرار عن أسفها لأن النازيين قد نجحوا فقط في إبادة أقل من نصف يهود العالم، وقد بلغت كراهيتها لهم إلى حد صياغة مصطلح (Semicaust) أي نصف (Holocaust) وهو ما يعتبر جزء من مساهماتها الأخرى في قاموس لغويات الكراهية.
عندما كانت تعيش في انجلترا وفرنسا وسويسرا استخدمت ما يقرب من 40 اسماً مستعاراً عند الكتابة إلى مختلف الهيئات الحكومية والصحف لتدين إسرائيل وتأثير اليهود على أوربا.
من وجهة نظر هايسميث، كانت المحرقة مبالغة من حيث عدد المبادين، وقد عمل اليهود وإسرائيل على وجه الخصوص لاستغلال الضمير الجماعي لبقية دول العالم بهدف ابتزاز الأموال. ووصفت مرة مقتل ستة ملايين يهودي (حسب الرواية اليهودية) بـ “الصدفة”.
اعترفت ذات مرة لصديق بأنها استمتعت بالمناطق الريفية في سويسرا، حيث أمضت سنواتها الأخيرة، لأنها بدت مثل أوروبا كما تصورها النازيون بعد الانتهاء بنجاح من الحل النهائي لليهود. اليهود، إذا كانوا موجودين أصلاً، كانوا بالتأكيد في مكان آخر.
ومع ذلك، فإن ثلاث من عشيقاتها اللواتي أعلنت لهن حبها غير المحدود كن يهوديات: عالمة الاجتماع الامريكية من أصل إيطالي إلين بلومنتال هيل، الصحفية والروائية الامريكية المولودة في فرنسا ماريون أبودرم والممثلة ميكي جولدفارب.
استمرت علاقة الحب بين هايسميث وهيل أربع سنوات (من 1951 إلى صيف 1953). كانت علاقة صعبة قبل تنتهي إلى صداقة مدى الحياة.
لم تكن إيلين هيل مجرد عشيقة وصديقة. كانت واحدة من أكثر المراجع المعرفية لهايسميث، ومنها كانت تقتبس الكثير من الآراء لإضفاء مضمونها على رأيها الخاص في كتاباتها. كانت مهنة هايسميث تتطلب وجود مرساة لتثبيتها، وكانت مرساة إيلين هيل مصنوعة من أثقل المعادن.
أما علاقة هايسميث بابودرم فقد استمرت من عام 1975 إلى عام 1978، وذلك أثناء اقامتها في باريس بين منتصف سبعينات ومنتصف ثمانينات القرن المنصرم عندما كانت تعد لكتابة روايتها “يوميات إيديث” التي حملت الكثير من الشبه بينها وبين حياة مؤلفتها، وبعد أن اكملتها أهدتها إلى ابودرم.
في حين كانت علاقة هايسميث بميكي جولدفارب تعود إلى ما قبل سنوات هجرتها من أمريكا إلى أوربا. كان اسمها اختصاراً شائعاً لاسم المرأة اليهودية ميكايلا، ولهذا السبب قامت بتغيير اسمها ولقبها لتصبح جودي هوليداي وتبدأ رحلة جديدة في حياتها الفنية من الغناء في النوادي الليلية إلى التمثيل وتفوز بجائزة أوسكار أفضل ممثلة في عام 1950 عن أدائها دور “ايما بيلي دون” في فيلم ولدوا بالأمس (Born Yesterday) الذي أخرجه جورج كوكور متفوقة بفوزها على بيت ديفيس وآن باكستر وغلوريا سوانسون.
تتذكر باربرا رويت إحدى العشيقات كيف كانت هايسميث تتوتر عند لمسها. لم تكن حسية على الإطلاق. عندما احتضنتها، كان الأمر أشبه بحمل لوح. أتذكر دائماً أنها صُدمت تماماً عندما قلت ذات مرة، “يجب أن أذهب وأستلقي في الحمام”. لم تكن قد استلقت أبداً في الحمام بل كانت تجلس فيه منتصبة. قلت: بات، كيف يمكنك ذلك؟ كيف يمكنك الجلوس في الحمام باستقامة؟ أجابت: “لم ولن أستلقي أبداً”. لقد شعرت بطريقة ما بأنها لم تكن مرتاحة في جسدها.
كان من الواضح أن رد الفعل العاطفي الهائل هذا لا علاقة له بالواقع. لقد كان شيئاً داخلياً، وكان مؤلماً لها وعلى ارتباط بحالتها الداخلية، واكتئابها، وغضبها، وكراهية نفسها أكثر من أي شيء خارجي.
لم تفهم واقعها المباشر لأنه كان لديها مثل هذا العالم الداخلي الغريب.
اختلف النقاد حول مكانة هايسميث في الأدب الحديث منذ ستينيات القرن الماضي، عندما بدأ مراجعو الكتب ومحرروها يلاحظون أن رواياتها كانت مختلفة نوعاً ما عن روايات كتاب الجريمة الآخرين. حتى اليوم، فإن محاولة “تحديد موقعها” في سياق أي تقليد أدبي يكاد يكون مستحيلاً، كما اعترفت هي نفسها: لا أفكر أبداً في “مكاني” في الأدب، وربما ليس لدي أي مكان. أنا اعتبر نفسي كاتبة أحب أن أحكي قصة رائعة. لكن كل كتاب هو صراع مع نفسي، وسأكتبه سواء تم نشره أم لا.
لكن ثمة اجماع تقريباً على أن هايسميث قد عملت على تقويض الحدود بين كتابة رواية الجريمة كنوع هامشي وترفيهي وبين الأدب كأحد الفنون العالية مقارنة بأجاثا كريستي مثلاً، ولم يأت هذا عرضاً أو عن طريق الصدفة وانما تحقيقاً لمشروع جمالي من جانبها. لم تقتل أي شخص أو ترتكب جريمة جنائية خطيرة، لكنها اعتبرت أولئك الذين فعلوا ذلك بمثابة تمثيل صادق لشرور الطبيعة البشرية.
إن نزعتها الغريبة وشهيتها النهمة للأشياء البشعة والقاسية والمروعة، التي تتجلى بشكل خاص في قصصها القصيرة، تدين بالكثير لإدغار آلان بو، بينما كانت نغمة الروايات ترجيعاً لتأثرها بأفلام “نوير” الأمريكية في الثلاثينيات والأربعينيات. ومع ذلك، فإن الموضوعات والحجج الفلسفية التي تكمن في قلب رواياتها تعكس الكتابات القاتمة لدوستويفسكي وكيركيغارد ونيتشه وكافكا وسارتر وكامو، وجميعهم قرأتهم.
في العام السابق لكتابة روايتها الأولى المنشورة “غريبان في قطار” التي سارع هيتشكوك لتحويلها إلى فيلم بعد صدورها مباشرة (Strangers on a Train 1951) قرأت أعمال ألبير كامو لاسيما رواية “الغريب” التي يجسد راويها مورسو البطل المخلوع الذي تفضله هايسميث. البطل الذي ظنته مثل المؤمن الوجودي، ربما. وقبل المضي قدماً في ربط الرواية بملاحظات دوستويفسكي في “رسائل من تحت الأرض” لاحظت كيف أن الإنسان سيقضي على وجوده بدلاً من تحمل حياة عقلانية مخطط لها ومتوقعة.
روايات باتريشيا هايسميث مزعجة. ليست مجرد كوابيس فظيعة بل أحلام سيئة تجعل القارئ قلقاً لبقية الليل. لقد سجلت كل شيء، العادي وما هو مرعب بحياد مطلق، وسيتم ذكرها دائماً كواحدة من رسامي الخرائط العظماء لطوبوغرافيا علم النفس المرضي الإجرامي والهوس الجماعي بالقتلة المتسلسلين.
أشهر إبداعات هايسميث هي توم ريبلي المختل عقلياً والساحر الذي ظهر في خمس من رواياتها الاثنتين والعشرين. إنه قاتل بدم بارد ومتذوق لأرقى الأشياء في الحياة. يرسم، ويعزف موسيقى باخ، ويقرأ لشيلر و مارلو، وهو فخور إلى حد ما بمجموعته الفنية جنباً إلى جنب تخطيطات كوكتو ورسومات بيكاسو. سقوط جثة في قبر محفور حديثاً يمنحه متعة لذيذة، كما يضحكه مشهد اثنين من ضحاياه يحترقان في سيارة، ومع ذلك، هو نفس الشخص الذي يمكن أن تحركه بعض الأحداث ليبكي بحرقة. لقد استخدمته هايسميث كجهاز يمكنها من خلاله تفكيك أسلوب كتابة روايات الجريمة التقليدية، ورسم صور جديدة للخيال البوليسي.
ولعل أشهر أعمالها الروائية رواية “كارول” (تحولت إلى فيلم بنفس الاسم عام 2015) لأنها تختلف بشكل كبير من حيث صفاتها الفنية عن رواياتها الأخرى.
ولدت باتريشيا بلانجمان التي اتخذت اسم زوج امها ستانلي هايسميث لقبا لها في 19 يناير 1921، في فورت وورث، تكساس. كانت البنت الوحيدة للفنانين جاي برنارد وهو من أصل ألماني وماري بلانجمان. وقد تطلق الزوجان قبل عشرة أيام من ولادة ابنتهما.
في عام 1927، انتقلت هايسميث ووالدتها وزوجها إلى مدينة نيويورك. وعندما كانت في الـ 12 من العمر ، تم إرسالها إلى فورت وورث لتعيش مع جدتها لمدة عام: كان أتعس عام في حياتي، وشعرت أن والدتي تخلت عني.
في عام 1942، تخرجت هايسميث من كلية بارنارد ، حيث درست الأدب الإنجليزي والكتابة المسرحية.
توفيت باتريشيا هايسميث في 4 فبراير 1995 عن 74 عاماً نتيجة مجموعة من الأمراض منها فقر الدم وسرطان الرئة، وتم حرق جثتها ودفن رمادها في كولومباريوم بالقرب من مكان اقامتها في سويسرا. وقد تركت عند وفاتها ثروة تقدر قيمتها بـ 3 ملايين دولار أوصت بها وبكل عائدات مؤلفاتها المستقبلية إلى مؤسسة يدو Yaddo وهو مجتمع للفنانين يقع في ضواحي نيويورك، حيث أمضت فيه شهرين عام 1948 عند كتابة مسودة روايتها غريبان في قطار.
Visited 49 times, 1 visit(s) today