قصة قصيرة: سوق الزاوية.. وصُرر الدجاج اللي لهيه
عزالدين الماعزي
فكرت في العشرات الذين انتظروا طويلا الحصول عليه، شيء اعتقد أنه لزج كالوحل تقريبا هكذا تخيلته أول الأمر في صرة ثوب صالح للاستعمال في أمور هامة يصلح لكل الأمراض؛ للعانس والعروس والزوجة والمرأة التي تلد…
أول شيء سمعته قبل أن اشتري الجريدة اليومية كان خبرا مقززا حقا، يصلح أن يكون عمودا صحفيا.. المواطنون بقرية (سين) يذهبون بالعشرات رجالا ونساء إلى السوق الذي فتح أبوابه أول مرة. يجمعون التراب ويستحمون..، الكل يريد فك الطلاسم التي علقت به والأقفال المسدودة. حكى لي أحدهم أنه رأى رجلا يخبئ زوجته وهي تستحم تحت عربة، وآخر يبيع في كيس متبقيات الذبح بالبوطوار.
من وقت لآخر تنبت وتسلل حكايا يخشاها الأطفال، تقترب من الرؤيا وتتسع كرذاذ المطر ما تسمعه يتكرر مرارا في كل البيوت، فوق الأسرة، وبجانب الموائد والجلسات، من يضحك، من يتشفى ومن يقلقه ذلك.. يومها سألت صديقي حين اقترب مني يحدثني في الأمر..
-هل الأمر مهم إلى هذه الدرجة ؟
لم أصدق البتة، السوق فضاء لقضاء المآرب ولتبادل السلع بين سكان البوادي. يذهبون مشاة أو راكبين العربات، العربات الخشبية ذات العجلات الهوائية المنتزعة من السيارات الهرمة يجرها حصان أو بغل. تمنيت فجأة الذهاب إليه في نفس اليوم الذي افتتح لكن بكل أسف بلغني أنه كان عرضة للغبار والضجيج وأنه يشبه الموسم حين يتحول إلى وحشٍ حقيقي يملك أسنانا بحجم الأنياب. وأنه لا يميز بين الصديق والعدو وأنه يرمي القنابل في الممرات ولا يترك رسائل الحب البتة. إن حركات رجال السلطة كثيرة بالشكل الذي يدهشك ويجعلك تخرج مذكرتك الصغيرة لتسجل الحماقات المرتكبة والشطط، أن بائعي الفول اعتصموا ورفضوا أن يبيعوا الفول للسكان إلا بعد أن يؤثثوا المكان الذي يخصهم (يهمهم)، أنهم اضربوا رفقة الحلايقيه والدجايجيه وأن السلعة المطلوبة للبيع هي الصرر الصغيرة الممزوجة بالماء والتراب الذي اقتلع من البوطوار.
ارتبكت لحظة ضغطت على الأمر، غمغمت بمجموعة من الأسئلة التي تسكن رؤوس السكان وانحدرت عاريا لا أملك أية إجابة. جنب الطريق تكاثرت سيارات النقل العمومية والسرية، احدهما للآخر عدو والناس بينهما يمشون كالأعمدة لا تتعثر أقدامهم بالخصومات. يهمهم فقط الوصول بالسلامة إلى دواويرهم المشتتة الأذرع بين جنانات الصبار والأحجار. شراء لحم البكَري والفول والكَلية والكَرعة ثم العودة من وقت لآخر لبيع بقرة أو نعجة واستقبال سوق آخر يختفي مرة ويعود..
ميزتُ بين صور الكثيرين الذين رأيتهم زبناء، أوجه كسولة وأخرى متقدة باحثة عن ظل وأخرى عفنة تصدك برائحة السمك المقلي الممزوج بغبار العرق.. يصلك كالهدير على شكل موجات تزكم الأنف وتظل عالقة تحت حراسته، حين أدركت ذلك ابتعدت قليلا، وأنا أتخيل جموع النسوة اللواتي يتهافتن لشراء البطاطس والبصل والحلوى لأطفالهن أو نسيان اللعب، وهن يسرعن الخطى ويحضنن اللامبالاة والتعثر كلما داهمن بأرجلهن حصى السوق أو هدهدتن رحلة المشي المتكررة ..
أكيد أن الأرض تحبل بالمئات، وأننا مازلنا في جهل تام وعارم، وأن المسؤول عن ذلك يعتبر مجهولا ولا بد من القبض عليه بحجة الترصد والشكوى إلى درجة القذارة . خجلت من رؤية رجل يحمل كيسا على ظهره وسلة مملوءة بيده اليمنى، وهو في جلبابه الأسود الصوفي والحذاء المثقوب الجانب والمعقوف بالخيوط كحذاء الجندية القديم، تشعّ من عينيه مساحات من الضوء الباهت، خلفه امرأة تجر وليدها، في يده قطعة حلوى وهدير السيارات و.. يبعث على الفوضى. الرجل في خطوه يبحث عن عربة والمرأة خلفه تلهث تبحث عن ظلّه..
الشمس ترسل أشعتها المحرقة والأشياء تبدو الآن مثيرة أكثر من اللازم بقهقهات مختصرة يبدو السوق مهملا، ظلّ مرفوضا لأكثر من عشرين سنة من قبل المجلس القروي وأخيرا أذعنوا لأوامر صارمة ولأن السوق السابق أضحى مستنقعا والكثير من الأشياء تثير الدهشة والغرابة، يقترب المواطنون من بعضهم البعض قبل أن تسنح الفرصة للآخر بردّ السلام، ينشغلون في أمور أخرى تبدو أهميتها بالكاد الذي يجعل صرير الأصوات يتكاثر وراء زعيق الأبواق والباعة المتجولين الكثر لا حديث إلا عن الصرر المليئة المرعبة التي تفتح الرزق، وتدنو من الصحة والقوة وتلمس المال الكثير ولا تضيعه في أمور تبدو حقيقية في أعين الناس مرتبطة بهم إلى حد الإيمان بمفعولها السحري في حياتهم الخاصة، أن النساء منشغلات بهذا الأمر وأكثرهن جئن إلى السوق في الصباح الباكر لتجريب مفعول الدواء. أجساد مرتبطة بجلاليب وبخانق ملونة خلال دقائق سيحتلن مكان الصهريج وسط صراخهن يتطاير الذباب ويبحث عن مكان آخر، الذباب أكثر حنكة من المجلس القروي ومن النسوة اللواتي يتعثرن في أرصفة الطريق المملوءة بالكرافيط. فكرت في بائع الخبز الذي يضرب خبزة على أخرى، يصرخ في الأوجه إنه خبز اليوم، الوحيد الأبيض الحقيقي والصالح للأكل في أي وقت… وفي بائع (الكَلية) الذي يحركها تحت نار، داخل إناء أسود مغلق له صوت ارتطام الصخر وهو يرمي بالملح فوق الكَلية المتجمعة كحبات ثلج. الطريق تمتد وسط الجرف المحفور الصخري كأصابع العنكبوت الذي ينسج خلاياه في العراء. يمتد السوق في الخلاء كمنزل مهجور تحيط به صخور وأحجار يصله الذعر بسلك الموت ويسكنه الرعب مثل يوم شارد يقتات من حشرات قليلة.. يقفل عينيه لينام ويحتفظ بصور الذين مروا للبحث عن الابتسامات الباهتة، كلّ شيء يتطاير، حوله يحدث فرقعات قوية ولكي يظل صامتا بعض الوقت وحكيما يضغط بمساحات الخوف على صررٍ ملفوفة ويدعم ذلك بالضغط أكثر من اللازم على أحشائه ليتكور أكثر وأكثر…