الجحش السوري: من أجل رؤية نسوية للمسألة السورية
لحسن أوزين
إن قارئ أعمال أسماء معيكل النقدية والإبداعية يعرف مدى اهتمامها بالمسألة النسوية. وانشغالها الذاتي والموضوعي بنقد وتفكيك المركزية الابوية الذكورية. ففي كتابها “سيرة العنقاء من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة”، ما يدل صراحة على هذا الهم الفكري والمعرفي والنقدي في التصدي العلمي والإبداعي لهذه المركزية الذكورية التي شوهت ومسخت الوجود الإنساني، مجتمعا وثقافة وتاريخا وهوية وانتماء، بنفيها وإلغائها للقيمة والكرامة والحصانة الإنسانية للمرأة، كما أثقلت كاهل الرجل بمعاني مدمرة لكيانه الإنساني، وسحرته بدلالات معذبة لوجوده الاجتماعي التاريخي، كالرجولة والفحولة والتفوق الفطري والطبيعي والديني. وهي في هذا النقد والتناول التفكيكي لمركزية الذكورة لا تسعى إلى افتعال صراع زائف مع الرجل بمحاكاته إلى حد التماهي بمسخه السلطوي والقهري، ولا بجعله عدوا مركزيا في رؤيتها النسوية للذات والآخر والعالم. بل هي واعية بالعبء الكبير الذي تشكله لعنة ولوثة الرجولة كامتياز وهمي، تنشطه سطوة الذكورة في تغلبها وقهرها للوجود الحر والفاعل والمستقل للمرأة. لذلك تجاوزت الوجه الآخر لفخ مركزية الذكورة، الذي غالبا ما تسقط فيه بعض ردود الفعل النسوية، بالتفكير في ما بعد مركزية الأنوثة.
لم تقتحم الكاتبة أسماء مجال الابداع معتمدة فقط على موهبتها الأدبية، وعلى ذائقتها الفنية والجمالية في النظر والرؤية إلى الذات والمجتمع والعالم، بل أسست وجودها الفكري والفني على تكوين معرفي وعلمي، وعلى قراءات إبداعية للمنجز الروائي والأدبي عموما. وهذا ما أهلها لخوض تجربة سيرة العنقاء بكل جرأة فكرية ونقدية. حيث تناولت بتحليل نقدي الكثير من الأدب النسوي، لمبدعات أثبتن عن جدارة واستحقاق قدرتهن على تقديم إضافات نوعية في المجال الإبداعي والفكري والثقافي.
ففي كتبها النقدية كسيرة العنقاء، حاولت أن أن تبلور وتطور أدوات وآليات ومفاهيم الكتابة الفكرية النقدية، والجمالية الفنية الإبداعية. وهي تهدف من وراء هذا الاهتمام النقدي الى تأسيس وتكوين وتطوير رؤية نسوية للعالم، على مستوى العلاقات الاجتماعية، المؤسسة على الحرية والمساواة والعدل. والاعتراف بالإنسان في قيمته وكرامته، سواء كان رجلا، امرأة، أم طفلا. وكأسلوب حضاري في العيش والتفكير والتواصل الخلاق، وكنمط وجودي في الحياة في العلاقة بالمحيط الطبيعي الإيكولوجي. لهذا كانت تبني وجهة نظرها ومنظورها انطلاقا من وعي نقدي بالظواهر الفنية والأدبية والمجتمعية، والروابط والعلاقات الاجتماعية، وما تضمره أو تصرح به، هذه الظواهر، من علامات تتج المعاني، والحقائق الاجتماعية الثقافية، وتولد الدلالات الفنية والفكرية.
فقد تناولت في هذا الكتاب قضايا مهمة وأساسية، معتمدة على بعض الأعمال النسوية، كمسألة الحدود الدينية والاجتماعية والثقافية، التي عانت منها المرأة عبر التاريخ العربي الإسلامي. والخطير في هذه الحدود، كما بينت، هو عندما تتشربها المرأة مع حليب الطفولة، من خلال، التنشئة الاجتماعية الثقافية. مما يجعل تلك الحدود بمثابة حقائق اجتماعية طبيعية. تستبطنها نفسية المرأة، واعية ولا واعية، لأنها تتنزل في صورة قوانين فطرية طبيعية. ودينية مقدسة يصعب التمرد عليها، خوفا من الوصم بالكفر. لهذا تشتغل هذه الحقائق المصطنعة، كمركز ضبط داخلي، يتحكم قهريا في كل أشكال الفعل ودود الفعل التي تقدم المرأة عليها في حياتها اليومية. محرومة من بعدها الإنساني الحر في الاختيار والإرادة والتقرير والاستقلال الذاتي، في التعاطي مع كل شؤون الحياة المادية والرمزية. وهذا ما يجعلها أسيرة مركز مراقبة ذكوري ذاتي، جراء استبطانها للحدود المرئية واللامرئية لمركزية الذكورة.
الشيء الذي يورطها في استيلاب فكري وعقائدي، وسلوكي، يعزز ويدعم وضعيتها كتابع يعيد بمحض إرادته إنتاج نوع من العبودية المختارة.
وفي سياق هذا التحليل النقدي تتبعت عددا من المشكلات في جذورها الثقافية الاجتماعية والدينية، التي أنتجها النظام الابوي وفقا لمركزية الذكورة. ومن بين هذه المشكلات، نجد ظاهرة الحريم، البغاء، العفة، الاغتصاب، والشرف…، التي كونتها تلك الجذور الابوية الذكورية في الأنظمة الثقافية والاجتماعية، تبعا لسيطرتها وهيمنتها. وجعلتها واقعا طبيعيا مقبولا في ظلمه وقسوته وعنفه واعتدائه على النساء. إلى حد أنها سلخت عنهن الكرامة والقيمة الإنسانية، والنضج النفسي والعقلي والفكري والعاطفي. وهي مسوغات لا أخلاقية ولا منطقية أو عقلية في تبرير الحيف والقهر، ومختلف أشكال الدونية والاحتقار والوأد الإنساني والعاطفي والاجتماعي، التي مورست في حق النساء.
وكتاب سيرة العنقاء مفيد وممتع للقارئ المهتم، والباحث الراغب في التعرف على الكثير من مفاصل المركزية الذكورية، وطرق اشتغالها وسر قبولها وتقبلها، والدفاع عنها، من طرف النساء، رغم أنها ظالمة ومتحيزة وعنصرية جندرية في تفكيك أواصر الرابطة الإنسانية، ليس فقط بين الرجل والمرأة، بل على مستوى العلاقات الاجتماعية، التي تفتقر إلى الاعتراف والحب والتقدير والاحترام لكرامة الجنس البشري. ولقيمة المحيط الايكولوجي الذي يتعرض للنهب والتدمير والخراب، بفعل جشع عنف التسلط الذكوري في نفي وإقصاء البعد الأنثوي من رؤيته للعالم.
ومع روايتها “تل الورد”(2) الرائعة في اشتغالها الفني والجمالي، وفي صنعتها الفكرية العميقة، تتأكد لنا رؤية أسماء معيكل النسوية في مقاربة الحرب السورية التي يشنها بوحشية نظام الأسد أو نحرق البلد. وبالفعل أحرق ودمر وخرب البلد، وقضى على البشر والشجر والحجر. وقدم نموذجا للأب الذكوري الأعلى في القهر والهدر والوأد والقتل للأبناء، لضمان استمراره وديمومة سيطرته وألوهيته العليا التي لا تقبل الشرك والشراكة في الوطن، وحق الوجود الإنساني، ناهيك عن الطمع أو الحلم بالوجود السياسي للناس.
وفي ظل بشاعة هذا النظام الأبوي الذكوري في أنظمته الثقافية والاجتماعية والأمنية والعسكرية، كان من الواضح أن تدفع المرأة الثمن الغالي من جسدها وروحها ونفسيتها، ومن أعز ما يتصل بها، من تقدير واعتبار وقيمة وكرامة إنسانية. فكل الشخصيات النسائية في الرواية تعرضت لأبشع أنواع الظلم والقهر الثقافي والاجتماعي والديني. والذل والمهانة والألم النفسي المولد لكم هائل من العذاب الأليم، بسبب الاغتصابات المتكررة، بمختف أشكالها، الجسدية والنفسية. كما أن بشاعة العنف الاجتماعي السياسي للأطر الابوية الذكورية في منظومتها السياسية الاجتماعية والثقافية الدينية، انعكس بصورة مؤلمة ومرعبة على هذه الشخصيات النسائية. وتحملن وحملن آلامهن الناتجة عن المأساة الكارثية التي انتهكت أرواحهن و أجسادهن وجعلت منهن الاطراف المتصارعة على السلطة ساحة ممتدة لكسر العظم والانتقام والاخضاع، وفرض الخنوع والاذعان القسري السياسي والاجتماعي.
استطاعت أسماء معيكل في عملها الروائي عموما أن تضع على مشرحة الإبداع المنظومة الأبوية الذكورية السياسية الاجتماعية والثقافية الدينية، التي يتزعمها حاكم مستبد جالس على عرش الألوهية، ومحكومين عبيد في مستنع الخنوع والاذعان. ووقفت على رعب المأساة ليس في القتل والإبادة والتهجير فقط ، بل أيضا وبشكل خاص في اقتلاع الإنسان من نفسه وتفكيك وجوده الشخصي والتاريخي الاجتماعي، إلى حد قتل وإعدام المعنى الذي يمكن للإنسان يتكئ عليه لتبرير بقائه وشرعية وجوده في الحياة.
هكذا هو النظام الأبوي الذكوري كما وصفه مصطفى حجازي بالمستنقع الآسن للتاريخ البطريركي العصبي والأصولي. حيث يرفض موته كتسلط وقهر واستبداد، وكنظرة ذكورية أحادية للعالم لا تقبل بالضرورة التاريخية، لنهاية بشاعته التسلطية، وعدم الاستمرار في تكريس وغرس الموات الأبدي في السيرورة التاريخية للمجتمع والسلطة والثقافة والدين والدولة والهوية. وذلك بفسح المجال للشراكة والحرية والكرامة والعدالة والمساواة. والاعتراف بالأبناء والبنات وحقهم/هن في الحياة كمشاريع وجودية مستقبلية.
لقد عانت وتألمت بشكل مضاعف رهيب في “تل الورد” كل من باهرة وكافي. وكانتا مثالا مؤلما للمآسي التي تصنعها وتنتجها المنظومة الذكورية البطريركية سلطة ورعايا. يصعب جد القول بالمواطن في مثل هذه المنظومة التي تولد مختلف الفوارق التمييزية العنصرية والجندرية الاجتماعية والثقافية والدينية والمذهبية. لأن هذا التفكك والتشظي والفوراق والتمزقات… هي البنى والآليات التي تضمن استمرار وتحكم هذه المنظومة الشمولية للذكورة، بالمجتمع والسلطة والثقافة والتاريخ والهوية والانتماء.
والخطير في هذه المنظومة كما بينت الرواية ذلك بشكل ممتاز ومقنع في خصائصها المعنوية الفنية والفكرية الدلالية، أنه في سيرورة إنتاج التفكك الاجتماعي والقيمي والثقافي، تنتج وحوشا ذكرية من أقرب الناس إلينا، هم على استعداد للإرهاب والتطرف والقتل. هكذا كان ربيع أخو باهرة ومن معه من تنظيمات التوحش العصبي والديني، في تدميرهم وتخريبهم واغتصابهم للنساء. هؤلاء النساء في نظر المنظومة الأبوية الذكورية الحلقة الأضعف، للفحولة والرجولة المهزومة الجوفاء التي تحاول اسقاط عدوانيتها الداخلية تجاها ذاتها المنكسرة والمهزومة على النساء، بإذلالهن واغتصابهن وقتلهن…
وهذا كله ليس غريبا عن النظام الأبوي السياسي والاجتماعي الثقافي والديني. فقد ناقشت الكاتبة أسماء معيكل في كتابها سيرة العنقاء، بشكل مفصل هذه المنظومة الأبوية الذكورية، في ما تتميز به من اضطرابات، وعُصابات مرضية حول العفة والشرف الجسدي التملكي. الى جانب ما تتخبط فيه هذه المنظومة من تفكك داخلي، يعكس ازدواجا في الشخصية وانشطارا وجداني تناقضي بين تقديس الام وتدنيس وتحقير المرأة. وبين احترام نسائنا والتحرش بنساء الآخرين…
والأفكار والمبادئ والأسئلة والقضايا النسوية المرتبطة بما يمكن أن نسميه، رؤية نسوية للعالم، بصدق واعتمادا في بنائها على معطيات فنية أدبية، واجتماعية ثقافية، كما في رواية ” تل الورد” نجدها أيضا في رواية “عماتي الثلاث” (3) . هذه الرواية التي خصصت لها دراسة مطولة، حول التاريخ المنسي للنساء، في معاناتهن وكفاحهن وصبرهن، تجاه القهر الذي مارسته المنظومة السياسية الاجتماعية والثقافية الدينية، الأبوية الذكورية. وتحملت المرأة أنواعا مختلفة من القهر والاضطهاد والاقصاء، من قبل الاستبداد السياسي، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا. وأيضا من طرف الحاضنة الاجتماعية من العائلة والجماعة والقبيلة أو العشيرة… إلى المجتمع بكل منظومة أنساقه الثقافية والاجتماعية والدينية.
لهذا تعتبر المرأة محط رهان لتصفية الصراعات والحسابات، وآلية لتبادل المصالح والخدمات، ووسيلة وأشياء في بناء العلاقات والتحالفات، بين مختلف الفئات الاجتماعية.
وفي سياق هذا القهر المزدوج المضاعف والمركب، تتحمل المرأة كل الخيبات والهزائم الحربية و العسكرية، والانكسارات النفسية والأخلاقية، والنتائج الكارثية للثورات المغدورة، وفشل مخططات التنمية المفقودة أصلا. ولا تفلت من غدر أهل الدار والغرباء، الأنصار والاعداء…، وهي على العموم، في نظر النظام الأبوي الذكوري، دائما متهمة، دينيا وأخلاقيا واجتماعيا وثقافيا، ولن تثبت براءتها، مهما حاولت.
وفي روايتها الأخيرة “الجحش السوري” (4) تضعنا أسماء معيكل أمام الخراب والدمار والوحشية المتجذرة في كل مفاصل المجتمع. بفئاته الاجتماعية ومكوناته الاثنية والدينية واللغوية والمناطقية والطائفية. حيث النظام الأبوي الذكوري مترسب كلوثة سامة، أو كفيروس قاتل للنبض الحيوي في النسغ الحي للمجتمع والثقافة والدولة والسلطة والهوية والانتماء، وفي التقاليد والأعراف والتصورات والمعتقدات…
واكتملت بشاعة ووحشية هذا النظام الأبوي، بصورته الهمجية والوحشية، في النظام السياسي الشمولي، الأقرب إلى المشروع الصهيوني في القتل والتهجير والإبادة، ونشر الخراب والدمار. دون أن ننسى وجهه الآخر، المتمثل في الجماعات الدينية الأشبه بالمغول الداخلي.
في رواية “الجحش السوري” نتعرف على هذا الواقع المأساوي الذي عاشته سورية بلدا وشعبا، من خلال الجحش البشري السوري، الذي وضعنا في الصورة العارية لحقيقة المنظومة الأبوية الذكورية: دولة وسلطة، ومؤسسات أمنية وعسكرية، واثنيات ومذاهب وطوائف، وإرهاب النظام السياسي والجماعات الطائفية المقنعة بالدين الأيديولوجي السياسي…
كما نتعرف على الأفق المفتوح للنهاية المأساوية للمسألة السورية، ذلك الأفق الموضوعي لإحدى إمكانات السيرورة التاريخية التي تستشرفها الرواية، من أجل وضع النهاية المحتومة للنظام الأبوي الذكوري، في جوهره السياسي الاستبدادي الشمولي، وفي تجلياته الحافرة في أعماق الاجتماعي والثقافي والديني، بمختلف مكوناته السوسيولوجية والثقافية والدينية والمناطقية الجغرافية…
والبديل الخلاص، كما تبنيه الرواية، ليس جنسيا بيولوجي، حتى يقتلع أو يبتر أوديب/ الجحش السوري عضوه التناسلي. لأن الرؤية النسوية للذات والآخر والعالم التي يبلورها أمل النص الروائي من أجل مجتمع وثقافة وسلطة وهوية وانتماء بديل لمركزتي الذكورة والأنوثة، هي رؤية أكبر من فقء العيون وبتر أعضاء الذكورة بالمعنى البيولوجي، بل تغيير منظومة أبوية ذكورية بكامل أنساقها الجندرية، الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية…
تقدم لنا الرواية في فصلها الأخير، أرضية هذا المجتمع المرغوب فيه، للانتقال من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة…
الهوامش
- د. أسماء معيكل: “سيرة العنقاء من مركزية الذكورة الى ما بعد مركزية الأنوثة”.
- أسماء معيكل: “تل الورد”،المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2019.
- أسماء معيكل: “عماتي الثلاث” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى 2020 .
- أسماء معيكل” “الجحش السوري”، المؤسسة العربية للدراسات 2021
- https://middle-east-online.com/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AD%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D9%85%D8%A3%D8%B3%D8%A7%D8%A9-%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A