جميلة حسين في ديوان “أشياء من عالم يختفي”.. خفيفة كريشة ولماحة كغمزة
ياسر مروة
بدأت حكايتها مع عشقها بالرموز والأحلام المترامية، لم تتردد في اللجوء الى العوالم الشعرية، كتبت جميلة حسين القصيدة تلو القصيدة، لم تجرؤ على النشر في الصحف اللبنانية وقتها، كانت حرة في اختيارها وإنتقائها وتمردها بالسر. في مراهقتها تأثرت الشاعرة بنزار قباني ومحمود درويش، وواصلت مسيرتها الشعرية وكتابتها النثرية في التسعينيات، ومن ثم حصلت على رسالتها الماجستير في الجامعة، فطبع كتابها الأول وهو دراسة معمقة، بعنوان: “المرأة في أدب ليلى عسيران”.
بحثت الطالبة ـــ الشاعرة عن رواياتها الكاملة في تحرير المرأة من الضوابط الذكورية، وبيّنت تأرجحها بين الانكسار والاستسلام وبين الصمود والتحدّي، وواجهت أحادية البطل، في الأعمال الروائية اللبنانيّة، ببطلة فاعلة ومؤثّرة، لا سيّما في الأماكن المحرّمة على النساء، وتحديدًا في بيئات الحرب المتشعبّة، أبرزت الروائية الراحلة في رواياتها صرخةً مدويّة، حيث رسمت مسارها في عصر النهضة والقومية العربية وزمن عبد الناصر وصولاً إلى المقاومة الفلسطينية والحرب الاهلية اللبنانية وصمود مخيم تل الزعتر مع وجودها في كافة الميادين، سجلت خطوة متقدّمة في تصوير واقع المرأة اللبنانيّة، فعكست حالة الصراع الداخلي الذي تعيشه في بيئة الحرب والاقتتال، ومقابلها كان هناك المجتمع المخملي حيث كانت حفلات المرأة البرجوازية ولباسها الفاخرة في بيروت. فكانت تتبع حركتها من الستينات إلى العام 2000.
نستكشف من خلال أصداء العالم الشعري للشاعرة جميلة حسين، تأثرها أيضاً بـالشعراء: وديع سعادة وعباس بيضون وسركون بولس وأنسي الحاج: هم أصحاب القضايا والقصائد النثرية الحرة، إذ تطورت قصائدها وصقلت موهبتها وأتقنت مفاتيح اللغة الشعرية وانطلقت، فطبع كتابها البكر وفيه نصوص شعرية جمعت تحت عنوان “إغتيال أنثى”، صدر عن دار الحداثة، طرحت فيه تساؤلات عميقة صارخة وروت حكايات الأوهام الكاذبة لقيودها الثقيلة معبرة عن صدمتها وصدمة اليسار التي أنتجت واقعاً مريراً وانهيار الأحلام والمبادىء وقضاياها السامية الكاذبة التي هزتها وهزت “تقدميين طليعيين”.
تلك الصدمة كانت قاتلة، معبرة عن أنثى منسية إغتيلت، في عتماتها نصوص وتعابير وصفات الشعرية والنثرية، فراوحت تلك الأنثى مكانها على مراحل الهزائم ونكساتها.
أما كتابها الشعري الثاني بعنوان “كي لا أنام على رصيف العمر”، الصادر عن دار الحداثة، أدركت الشاعرة أصواتاً موسيقية مغايرة، ذات نغمة لافتة جارحة، خارجة على المألوف لإرتباطها الوثيق بجزئيات وتفاصيل الحياة اليومية وعقارب الوقت السريعة وبداية الحب وإنفصاله، سارت في طريق وعرة وتعثرت بتفاصيل الخيبة، وبالرايات المنكسرة، كأسها المرّ الذي شربته طوال “حضارة رجمها الجهل/ ينزوي الفارس المهزوم”(ص: 18)، وعن تعثر ارتباط روحها في معابد العشق وتربية سلوك أطفالها وخاصة إنها كانت على عجلة من أمرها و”من غير أن أنتبه/ فرّ البحرُ بكِ/ صرتِ خارج حضنيّ/ لهوتُ عنها من غير قصد/ لا تدعي الخريف يلاحقك/. ولشدة خوفها على ابنتها، ما عادت إبنتها بحضنها.
كتبت جميلة حسين للمرة الثانية دراسات موسعة، فحضرت المرأة شريكة فاعلة في المدونة السردية العربية، وآزرت قضيتها في تنقيب صورها وحملت بعداً نسوياً تاريخياً بقضايا التحرر والحقوق، فكتاب للدراسة الجامعية صدر عن دار الفارابي، كتبت عن (عنوانه) “المرأة في الرواية اللبنانية المعاصرة: 1899-2009” وفتحت الباحثة الشاعرة آفاق واسعة لحقبة جديدة من النضال النسويّ لدراسة صورة المرأة في النسوية اللبنانية، وتحليل مساراتها وتطورها قياساً بالظروف السوسيولوجية والسياسية والثقافية التي أحاطت بتجاربها المتفاوتة، في حضور لافت إلى الكاتبات والأديبات.
بدأت الباحثة من سنة 1899، وصولاً إلى مرحلة مابعد الحرب سنة 2009، مروراً بالمراحل التاريخية والاجتماعية والسياسية التي مرّ بها لبنان، منذ مرحلة النضال من أجل التحرر الوطني من الاستعمار الأجنبي ونضالها ضد عوامل الكبت والقمع، دون أن تغرق في الخطابة التحررية، كتابة جد مهمة في دراستها المعمقة، ولهذا حصلت الشاعرة على شهادة الدكتوراة في اللغة العربية وآدابها.
لا بدّ من القول إذن، إنّ الذين رفضوا الثورة السلمية، هم من عملوا على حتمية الثورة العنفية في بلاد الشام، كتاب قصصي لجميلة حسين سمته “في إنتظار ربيع آخر” صدر عن دار النهضة العربية سنة 2019، حيث تبدّلت من شاعرة إلى كاتبة في مضامينها الأسلوبية الشعرية والنثرية، تحاكي معاناة الشعب وسقوط المراحل في الوحول والعتمة والفقدان، برزت ميزتها دائماً في عمق وسهولة التعبير في وجدانها مع الآخر واحساسها الشديد والحنين النابع من مساعدة الآخرين لا سيما النزوح السوري في لبنان، كما تعاطفت مع التظاهرات السلمية والثورات العربية، فتناولت الكاتبة حكايات كثيرة من مآسي ومعاناة شعب من شعوب الارض، وتابعت في “حكاية أيمن، ص:16″ في وصفها التالي: (نختبىء نهاراً ونسير ليلاً، أنين الجرحى لا زال يطنُّ في أذني، عائلات بكاملها أُبيدت دون أن يعرف بها أحد، غريبة تلك اللحظة التي نخرج فيها من الحياة من دون أن نصل إلى الموت”.
أخيراً وليس آخراً، صدر عن دار النهضة العربية، كتاب شعر جديد بعنوان “أشياء من عالم يختفي”، وقد وقعت إصدارها في معرض بيروت الدولي للكتاب الماضي، يتناول الكتاب مواضيع متعددة انسانية وأحلام وأوهام وخلاصهما بالشعر، بوح جريء لدواخل النفس ومواضيع ذاتية وموت الأهل والأصدقاء وكتابة للأبناء والأحفاد، لعّل أبزر ما في أول الصفحة غرابة الوضع ودهشة البداية عن شاعر قديم مجهول، كتب قصيدة غزل حوالى 400 سنة، في أطلال مدينة بابل وحدائقها المعلقة، قال(ص:7):”أنا في البرية/ انتهيت من اقتلاع الأشواك/ بعدها سأزرع كرمة عنب/غمرت النار المستعرة في داخلي بالماء/ فأحبني كما تحب حملانك/ أعتنِ بي كما تعتني بقطيع ماشتيك/ وابحث عني..
أول نص دونته الشاعرة “أبحث عني، ص:9” “حاول وأفتح كُوة في جدار القلب/أو فتحة في زاوية العين/ترى فيها صورتك/ انتبه إلى تشابهنا/ أحبني كما تحب عزلتك/ أوحتى قطتك/أطفىء شاشة النساء في رأسك/ على الأقل، لحظة لقائنا/ اكتبني قصيدة آخر الليل/ صَلِّ من أجلي لحظة انفجار الضوء/ الموت أسهل من الفقدان/ الأسى نهاية الأشياء/
في “ابحث عني” ترى الفرق بين تفاصيل الاشياء بين الموضوعات والمصلحات والمفردات بين القديم والجديد، السهلة والصعب المعقدة، تبعاً للحقبة الزمنية وهذه هي الفكرة نفسها عن الحب الأبدي الذي لا يموت، ولكنها تحيط بنا الأختلاف. تغيرت الصور والمجازات والتعابير فكانت نصوصها الرقيقة والمرنة وسهولتها الراقية نسبياً في”هللويا” أتذكر/ تلويحة الكرمة/ كتف مالحة بنكهة البحر/وقهوة على مصطبة أمي/ حياتي القاسية/ جعلت مني شاعرة/ امضغ الحب/ وأبصق مرارة الفقد/ الرجل الذي تجند لخلاصي/”.
<
p style=”text-align: justify;”> تحقق الشاعرة في أضوائها وأنوارها، في متنها وأسلوبها “يرتعش خيط الضوء الأخير” وامتلاك “الألوان كلها كما الخريف/ أحمل المطر في قلبي/ لكنني أؤجل هطوله/ لأستمتع بمشهد الأشجار/ وهي تتعرى للفضاء”. كما لو أن الأشياء تنتقل في وصفها من حالة إلى حالة وتتابع في نص “عُرى”، أن لا تراقبها تجاعيدها الزاحفة والاحتيال عليها في حديث عمرها “على مقلب الستين غمرة الأحفاد ضمة في النشوة العجلى” وبعيداً عن همجية “هولاكو” التي أمر برمي عشرات المكتبات وكُتبها الثمينة في نهر دجلة، تخوض الشاعرة أطرافها المفككة وثقوب روحها في حياتها وقد انطلقت ضحكة ابنتها التي تطير شعرها كأشجار مبعثرة و”تصل إلى أعماق الروح” وغمازتان في البياض، وخصر شهرزاد في ليلتها، وتدور “النعاس في شعور حائر” ويمشي جلجامش في شرايين وشوارع مدينته مع مجريات “تحريات كلب” لـ”كافكا” في مذكراته الكثيفة فلم يفتح لها البواب، وتحلّق في سكون الغياب، كما قال الكاتب المسرحيّ “برتولت بريخت”: لا تخف كثيراً من الموت، بل من الحياة الناقصة، وفي النص القائل للشاعرة “ارتداد”، (ص:19)”الحياة فكرة مؤجلة/ تبدأ بعد الفوات/ بعد تجارب قاسية نعود/ لا بدّ أن نعود/ أرى نفسي عارية/ أرى عالماً يمشي على رأسه/ عبث أن نطلب أشياء من عالم يختفي”.قرأتُ نصوصها الجديدة وأعيد قراءتها مجددا،ً في كلماتها وجملها وتعابيرها التي تعجبني وتسرني بسيرة ذاتية تتصارع مع العواصف والأنا والشوق والوحدة الشجية الصامتة مع الآخرين والمارين كغيابهم وحضورهم، فهنا دقة ومرونة وسهولة وهناك أنواع من الأحلام والخيال والأحكام اللغوية الناضجة التي تنتج بها مناخ وطقوس واشارات عن واقع هو الأقرب إلى عالم القلق والفزع والرهبة والوهم والأعتذار التي تصورها الأوصاف لحظات الأسى، جميلة حسين، خفيفة كريشة ولماّحة كغمزة.