دفاتر الجديدة: ذاكرة المدينة

دفاتر الجديدة: ذاكرة المدينة

المصطفى اجْماهْري

   ثلاثون سنة مرت على صدور الكتاب الأول من “دفاتر الجديدة” التي شرعت في نشرها منذ سنة 1993. يتعلق الأمر هنا بسلسلة كتابات عن تاريخ مدينة الجديدة وذاكرتها وصلت حتى الآن إلى 23 إصدارا. ويتوخى هذا المشروع البحثي التطوعي هدفين أساسيين : إلقاء بعض الضوء على ماضي الجديدة من جوانب تاريخية واجتماعية واقتصادية، وكذا المساهمة في إحداث تراكم معلوماتي يساعد على سد الفراغ على مستوى المعرفة المحلية.

1

   إن هذه الكتابات التي يمكن إدراجها في إطار عريض هو “الدراسات الثقافية” أو اختزالها تحت يافطة “التاريخ المحلي”، من شأنها إغناء معرفتنا بالمحيط القريب في ارتباطاته بالوطني والدولي، وكذا الحفاظ على شذرات الذاكرة الجماعية من الضياع والتلاشي. وللأسف، فالوعي البحثي لدى الأفراد كما المؤسسات مازال ضعيفا، والكثير من الباحثين المغاربة يتحاشون خوض غمار الدراسات الاجتماعية والمونوغرافية لاعتبارها من القضايا المتْعبة وغير المربحة.  وغني عن القول إن المكتبة المغربية تزخر ببحوث متميزة في مضمار الذاكرة المحلية بالعربية والفرنسية كمثل أطروحة بول باسكون حول حوز مراكش،  والعربي مزين حول تافيلالت، وأحمد التوفيق حول يهود دمنات، والمختار السوسي حول سوس، ومحمد بنهلال حول كوليج آزرو، وإبراهيم كريدية حول آسفي، وعبد الكريم الجويطي عن تاريخ تادلا. لكن، في المجمل، تـبقى هذه الأعمال قليلة ورهينة بالمبادرات الفردية والمجهودات الشخصية. في غياب مؤسسات حاضنة.

   على المستوى الشخصي، فقد بدأ اهتمامي بالبحث في سوسيولوجيا مدينة الجديدة وتاريخها منذ ثمانينيات القرن الماضي. حصل ذلك بعد محاضرة للعلامة محمد المنوني بالجديدة في المهرجان الثقافي لدكالة سنة 1981، والتي أوصى فيها بكتابة تاريخ المدينة وجهة دكالة مع إنشاء خزانة توثيقية لدعم الباحثين. لكن للأسف ظلت توصية العلامة حبرا على ورق. وقد تطلب مني هذا المشروع كثيرا من الوقت والجهد المادي والمعنوي. وينبغي أن أنوه هنا بالكتاب والباحثين الذين ساعدوني بالتأطير والنصح والمراجعة وهم : عبد الكبير الخطيبي الذي وجهنى إلى الكتابة عن المدينة باعتبارها، في نظره، من المواضيع المهمشة، والمؤرخ البيضاوي المعروف غي مارتيني الذي راجع وقدم كتاباتي الأولى، فضلا عن مرافقته لي في لقاءات مشتركة، ونيلسيا دولانوي، الجديدية الأصل، أستاذة التاريخ سابقا بجامعة باريس العاشرة. هذا دون أن أنسى كتابا آخرين راجعوا أو قدموا أعمالي مثل محمد الناجي، فاطمة المرنيسي، فؤاد العروي، الدكتور مصطفى أخميس، مصطفى الكثيري، محمد بنهلال، بوبكر بوهادي، والمازغاني جان لوي موريل. بمعنى آخر فالمشروع يقوم أيضا على شق جماعي.

2

   من الناحية المنهجية فقد استفاد مشروعي، عند انطلاقته، من نصائح السوسيولوجي عبد الكبير الخطيبي، المدير السابق للمركز الجامعي للبحث العلمي بالرباط. حدث ذلك عند مشاركتي في ورشة “الكتابة والجهة” التي نظمها الراحل بالجديدة سنة 1990. واستمر التواصل مع الراحل بعد ذلك. كان الخطيبي يؤمن بتداخل التخصصات وانفتاحها على بعضها. فالذاكرة، في نظره، كمفهوم وكنسق تتقاطع ضمن حقول معرفية عديدة مثل التاريخ والأدب وعلم الاجتماع وعلم النفس والأنتربولوجيا. وبإيعاز من الراحل أعددت ببليوغرافيا عن تاريخ الجديدة، صدرت سنة 1993، ثم أتبعتها تدريجيا بكتابات في محاور محددة من ذاكرة المدينة. في هذه الأعمال تبنيت منهجية تركيبية في تجميع المعطيات ثم عرضها من زاوية تعددية منفتحة وإنسانية. واستنادا إلى خلفيتي الإعلامية فقد اعتمدت بالأخص على مقاربتين منهجيتين: الأولى مباشرة تعتمد على وثائق الأرشيف والزيارة الميدانية، والثانية غير مباشرة تعتمد على شهادات الفاعلين المحليين وقدماء المدينة. هذا التقاطع بين القصص الحياتية والوثيقة المكتوبة كان من شأنه إغناء معرفتي الشخصية بالوسط المدروس. ويجب التنويه بأن الشهادة الشفوية كانت لها جدوى كبيرة بالنسبة لدراستي للمجموعات السوسيولوجية بالمدينة : قدماء الساكنة، الطائفة اليهودية، الفلاحون الأجانب، المقاومون، الجالية الفرنسية، القناصلة الأروبيون، نساء المدينة، ومجموعات أخرى. حيث لم يكن من الممكن تجاوز معضلة غياب الأرشيف وتعويض نقص الإنتاجات المكتوبة، إلا بجمع شهادات حية من الأشخاص المعنيين. ومعلوم أن توظيف القصص الحياتية يعد من الوسائل المستخدمة في البحوث الاجتماعية.

3

   إن المتن المنتج من خلال “دفاتر الجديدة” والغني بأكثر من عشرين مؤلفا، هو ثمرة جهد طويل بذل حوالي ثلاثين سنة. يضع هذا المتن، في رأيي المتواضع، أداة رهن إشارة الباحثين في علم الاجتماع والمؤرخين والأدباء كقاعدة بالنسبة لدراساتهم المستقبلية. فضلا عن ذلك فهو بمثابة موسوعة صغيرة مفتوحة أمام المهتمين بدراسة الحالة. إذ يعطي نظرة عن المجتمع الكوسموبوليتي المازغاني من جهة، وعن تطور المدينة من جهة أخرى منذ إنشاء الجديدة في بدايات القرن التاسع عشر إلى حدود سبعينيات القرن الماضي. يبيـن هذا المسار الزمني أن الجديدة مدينة تطورت عبر السنين من حيث المجال، والمعمار، وسوسيولوجيا الخدمات، والتنوع السكاني وأيضا على المستوى الشعوري والثقافي.

   وتتمثل مساهمة “دفاتر الجديدة” في معرفة جزء من الببليوغرافيا التاريخية للمدينة وأماكن وجودها. كما ساهمت في التأريخ لميناء الجديدة باعتباره نواة خلق الحاضرة، وفي الكشف عن الأرشيف القنصلي الأجنبي المتعلق بالمدينة، وفي رصد الوضعية الصحية والاستشفائية بالجديدة وناحيتها من الفترة البرتغالية حتى غداة الاستقلال. وساهمت أيضا في دراسة المجموعات الاجتماعية المكونة للنسيج البشري، والمتمثلة في قدماء الساكنة، مغاربة وأجانب، نساء ورجالا. فضلا عن ذلك خصصت كتابات لتاريخ الطائفة اليهودية، وللتراث البرتغالي المحلي المصنف كتراث عالمي، وأيضا للذاكرة النسائية في ممارساتها الاجتماعية خلال الفترة الانتقالية من نهاية الحماية إلى بداية الاستقلال، وهو العمل الذي تم بتأطير من الباحثة الراحلة فاطمة المرنيسي. وربما ينبغي التنويه بدور هذه الدفاتر في الكشف عن مجموعة من “الوقائع السرية” التي كان بعضها موضوع كتاب خاص.

   ومثلما يفعل الزمن فعله في الإنسان يفعل ذلك أيضا في المدينة فتتشظّى مدنا متعددة لا واحدة. ومن هنا تتجلى أهمية كتابة الذاكرة في كونها تُسابق الزمن لتجميع الشذرات والشهادات وحفظ التفاصيل والذكريات كآثار نحاول بواسطتها رسم صورة للمدينة المتحولة والمفتقدة. هذه الآثار من شأنها مساعدة القارئ على تمثل ملامح المجتمع المازغاني السابق بما هو مجتمع متعدد تعايشت فيه جنسيات وثقافات وديانات. وإذا كان الإنسان ابن عاداته وبيئته، كما يقول ابن خلدون، فقد تقاسمت أجيال متعاقبة من ساكنة المدينة، مغاربة وأجانب، هذه الذاكرة المازغانية في السراء والضراء. بل إن تنوع تشكيلة الساكنة كان نقطة قوة، على اعتبار أن الاختلافات تكون جد خصبة وبها يتحقق التقدم، كما يقول كلود ليفي ستروس. بل إن نهاية الارتباط بالمجتمع المازغاني، خاصة غداة الاستقلال، قد شكلت مأساة حقيقية لبعض أفراده، لعل أبرزهم الدكتور غي دولانوي، المزداد بالجديدة سنة 1916. فقد قضى الراحل الأربعين سنة الأولى من حياته بالمغرب دون أن تطأ قدمه فرنسا.

   هكذا تمارس “دفاتر الجديدة” دور الوساطة في نقل الذاكرة المشتركة بين الأجيال، وبين ماضي المدينة وحاضرها.

4

   تتبدى من خلال الأمثلة المذكورة أهمية الكتابات التي تعنى بالذاكرة الحضرية وبالتاريخ المحلي، إلا أن التحديات أمامها تبقى عديدة. 

   يظل أكبر تحد يعترض الباحث في الشأن المحلي، بعد تحدي التمويل، هو غياب الأرشيفات المحلية أو صعوبة الولوج إليها.  ويتعلق التحدي الثالث، بالنسبة للباحث، ببذل جهد متواصل للاطلاع على الكتابات والمراجع الضرورية المتوفرة، غالبا، في أمكنة متفرقة ومتباعدة. ويتمثل التحدي الرابع في تداعيات أزمة القراءة على رواج هذا النوع من الكتابات وتداولها. وبهذا الخصوص قد تؤدي الوسائط الرقمية دورا مكملا في نشر المعرفة المحلية. 

   وأخيرا فمن المفروض في الجامعة المغربية، من باب انفتاحها على محيطها، أن تتبنى مسلكا خاصا بالذاكرة المحلية والجهوية. كما ينبغي إيلاء أهمية أكبر للشأن المحلي في البرامج الدراسية قصد ترسيخ ذاكرة الأمكنة والأشياء لدى الناشئة. ومن الضروري كذلك أن يكون مدبرو الشأن العام المحلي على بينة من تاريخ مدنهم ومناطقهم قصد استلهامه في صياغة المشاريع وتدبيرها. إن الباحث في الذاكرة المحلية بالمغرب يؤدي خدمة عمومية تطوعية، علما أن الاستفادة من أعماله لا تقف مردوديتها المعنوية عليه وحده بل تتعداها إلى المجتمع بأسره.

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي