صديقي الكاتب
صدوق نورالدين
إلى الأستاذ والقاص: عبد اللطيف عوام
الدار البيضاء/ 1977
ربيع يستجمع بقية أيامه، وصيف ينفث شواظه على مهل. أعبر شارع الأمير بنعال من ريح كهارب أو مطارد، فيما الأمير يعد صخبا من ذهب لمساء لا يشبه المساءات المنثالة في المحو والنسيان. أعبره غريبا يتوهم أن لن تقتنصه عين صياد مهما برع في حبك حكايات إيقاع الطريدة. من بعيد، كانت، وعلي أنا العابر أن أصل قبل أن يطبق الأسود على الفضاءات والأمكنة وأغدو كأعشى باهلة. لا أرى الظلام فيما يراني. كان نداء أزمور قويا. و لم أكن أخبر أن الزمان لن يعود الزمان، و قوة اللحظة سوف تتكسر على صخر الحلم. لكم بعدت المدينة ونأت أقصى الأقاصي. فجأة، وفي بضع سنوات دون كافكا سيرة التحولات الغريبة في شخصية المدينة. كأنها التي كانت، ليست، ولن تعود. يا ترى من يرثي من ؟
كنت العابر ذاك المساء، لما أعادني النداء مربع ذاتي. ومن هناك، من رصيف مقهى “لاشوب” في مجده الرفيع، انقذف الصوت ليوقف العبور. وفي الزاوية كان صديقي الكاتب في بهاء أناقته. بذلة رمادية. قميص أبيض سالت عليه ربطة عنق زرقاء. وعوينات طبية كلما أراد القراءة أو التوقيع ألصقها جبينه. لم يكن وحيدا، كان إلى المصطفى اجماهري لما غادر “أمواج” قاصا موهوبا، ومنح خياله دفاتره. خرج من الخيال، ليدخل متحف التاريخ المحلي.
المساء يقظة الغريب على ظله. اليقظة التي ألفت ذاتها في هذا الفضاء المفتوح بامتداد الأزرق. من هنا تشكلت بدايات الوعي بالكتابة والحياة. أسماء. أدباء. كتاب. فنانون. سينمائيون و تشكيليون من مشارب مختلفة. كانوا موزعين بالتساوي بين “لاكوميدي”، “الخضراء” و “لاشوب”، فيما بناية المسرح البلدي تحرس الجميع، وتحرص على الجميع تحت عيني الراحل الطيب الصديقي قبل أن يغدو أبوحيان التوحيدي.
الدار البيضاء/ 1978
في هذه السنة جاءت “تمزقات” تعلن ميلاد صديقي الكاتب. قاص يكتب بصيغة مغايرة. الجملة قصيرة مكثفة. الشخصية موزعة نفسيا بين المكان المفتوح والمغلق، غريبة، كالغريبة في زمن يفتقر إلى استقرار لترسيخ أحلام انتهت إلى الإجهاض. كان “وعي العمال” حاضرا على امتداد كتاباته السردية: قصة، رواية.
ينخرط صديقي الكاتب بهذا في إغناء مدونة القصة القصيرة العربية، فيما هواه الأثير السينما. و أرى إلى أن تجربته في الكتابة السردية يجدر أن تقرأ تأسيسا من العلاقة التي تربط الأدب بالسينما.
أذكر، ولعله، أني في تلك السنة نشرت خبر صدور المجموعة بمجلة “الوطن العربي”. كان أصدرها من باريس وليد أبو ظهر، وتولى مسؤولية القسم الثقافي الناقد المصري الراحل غالي شكري (من يذكره اليوم؟). لم تكن “الوطن العربي” وحدها التي تزعمت ريادة المشهد السياسي والثقافي العربي، و إنما “المستقبل” التي أدراها الصحافي نبيل خوري.
إن محمد صوف بهذه البداية، الإعلان عن الذات المبدعة، اختط المسار الذي نحاه الأدباء المغاربة: عبد الكريم غلاب، محمد زفزاف، مبارك ربيع، الميلودي شغموم، محمد الهرادي، عز الدين التازي وغيرهم إلى أن تخلقت فاتحة رواياته “رحال ولد المكي”.
الدار البيضاء/ 1980
تحققت في هذه السنة الموازاة بين كتابتين: القصة والرواية، ولاحقا الترجمة. إذ أصدر صديقي الكاتب روايته الأولى “رحال ولد المكي” التي شرفني بتقديمها. وهي الرواية و أثارت حينها صخبا نقديا، خاصة لما نوقشت بمقر اتحاد كتاب المغرب بالرباط، و باقتراح من القاص النبيل عبد الجبار السحيمي.
اختارت التجربة الرهان على إنتاج وعي بالاجتماعي، كما دلت على شخصية “رحال”. والأصل أن هذا المستوى من الوعي لم يغيب قوة الحضور السياسي. القوة التي كسرت السائد والمتداول إيديولوجيا، من منطلق كون الحيادية والرؤية المغايرة، كما الإبدال الإبداعي، ميزات أو خاصات لم تحظ بالقبول يومذاك على المستوى الثقافي والسياسي تحديدا. كان حراس معبد الرواية يملكون الأختام يؤشرون بها لمن هو من قبيلة الرواية، ومن يجدر أن يلفظ خارج القبيلة. كانوا آلهة الرواية، تماما كما اليوم. أما وأنا أصدر كتابي “حدود النص الأدبي” (دار الثقافة/1984)، فضممت التقديم لبقية الدراسات التي شكلت بنية الكتاب. كنت أغني خارج السرب_ وإلى اليوم _ في عزلة رفيعة وصمت مقدس.
وتوالت في إثر بدايات صديقي الكاتب، مؤلفات في القصة والرواية إلى الترجمة، دون الغفل عن الرواية الوحيدة التي مهرها باللغة الفرنسية تحت اسم “أبو سلوى” فريدته من سيدة السيدات، السيدة التي أقفلت باب الحياة مبكرا، فيما حنينا يكبر، وشوقنا يتوقد لحبها الذي غمرتنا به ونحن نتهجى أبجديات فهم عالم لم نكن نتوقع أن سيخوننا منتصف الطريق، و يسرق باكرا الخطوة البسمة وألق الحياة. كانت، و لم تعد. وها نحن اليتامى المقذوفين إلى عراء الرصيف. غابت ظلالهن: الأم أمينة والسيدة
فاطمة، وسيدة السيدات السعدية. تركنا نغالب ليل أيامنا القاسي، ونغازل بقايا الزمن. زمنهم وليس الذي خبرنا وخبرناه. “أيتها الذكريات تكلمي” كما عبر “نابوكوف” في هذا النداء المترع بألم الحنين.
من الكتابة إلى النشر
دخل صديقي الكاتب مغامرة النشر في 1980. أصدر ثقافية “أوراق” شهريا. إلى جانبه كنت أحاول الرأي. لم تعمر الجريدة طويلا. كان المثقفون “ظاهرة صوتية”. يجيدون الكلام، يحسنون النقد ويخالفون المواعيد. يريدون الإبقاء على الحال، فيما حلم صديقي الكاتب الخروج من قفص الوصاية والتعلق بحرية القول والتعبير. وفي المقابل _ وبكل موضوعية_ ساند مبدعون حقيقيون التجربة وأغنوها بكتاباتهم وأفكارهم دون أي تردد : محمد زفزاف، محمد شكري، محمد الاحسايني، مبارك الدريبي (رحمهم الله تعالى)، ومن الأحياء إدريس الصغير والمصطفى اجماهري و من فاتني تذكره.
وتحولت المغامرة إلى منشورات، فكانت رواية الكاتب الكبير محمد زفزاف “الثعلب الذي يظهر ويختفي” أنجح تجربة.
يوم ظهر الكوندليني
” الكوندليني.
السيد الكوندليني..
يبدو الاسم غريبا. لربما غريبا جدا. قد تعود غرابته لكونه لم يتداول بعد، أو لأن قلة يعرفونه. يترددون حيث يقيم مكتبا يزاول فيه مهنته اليومية و طقوس تأملاته.
أعرفه.
أعرفه منذ مدة. منذ عشرين سنة ويزيد. لذلك آثرت الكتابة عنه. أقول: الكتابة. كتابة رواية حياته: طقوسه، عاداته الصباحية والمسائية.
والبقية..
ومادمت أعرفه، فإني أدعوكم للتعرف عليه جميعا في روايتي الثالثة التي قد تبدو بلا كبير أهمية في نظر البعض، فيما أعدها مهمة مادامت تسهم في تدوين تفاصيل حياتية عن شخصية لا يمكن عبورها كسهم.
شخصية من داخل الذاكرة، خارج النسيان.
من هنا بدأ التفكير، ولأني أجهدت نفسي في العثور على الشخصية الملائمة لهذه الرواية الثالثة، فلم أعثر على سواه. إنه من يصلح لأن يكون الشخصية التي تصاحبني على امتداد سنة كاملة، فلقد فكرت أن أصاحبه إلى كل الأمكنة التي أتردد عليها. كما قررت كتابة حياته، تماما كما أخبر حيوات آخرين ممن قرأت عنهم. على الأقل كي يصبح الاسم متداولا في أكثر من منبر. و إلا فلم نعط منزلة لشخصيات عربية أو غربية لا تستحقها؟ في حين توجد أسماء علم، لها بصماتها وتأثيراتها على الناس والحياة، متروكة لمزبلة التاريخ كما يقال.
من يدري؟
من يعرف؟
إنه الكوندليني.
السيد الكوندليني.”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
<
p style=”text-align: justify;”>* كتبت الكلمة لمناسبة تكريم الصديق القاص والروائي محمد صوف بمدينة أزمور.