في محبة تونس.. على أمل أن تُونِعَ من جديد

في محبة تونس.. على أمل أن تُونِعَ من جديد

علي بنساعود

   منذ سنوات، وأنا أتطلّع إلى زيارة العديد من البلدان من بينها تونس الخضراء، وذلك، لما يزخر به هذا البلد من معالم، وطبيعة، وتضاريس، ولشعبه الطيب المتفتح، وهي عوامل تجذبني كما تساهم في جذب ملايين السياح كل سنة.

أخيرا، أتيحت لي الفرصة لتحقيق هذه الرغبة، فقضيت أياما رائعة بربوع هذا البلد الجميل (بين 24 فبراير و02 مارس 2023) وكنت رفقة الأصدقاء نزهة الغماري وحسن برطال ومحمد محقق… تنقَّلنا، خلالها بين سوسة وتونس العاصمة وسيدي بوسعيد وقرطاج…

الوجيز: ملتقى أدبي واعد

   في سوسة، قضينا أيامنا الأولى، حضرنا خلالها “الملتقى العلمي الدولي الأول للأدب الوجيز”، وكان ملتقى متميزا بفعالياته، ونوعية حضوره، وحماسة منظميه، وكرمهم، كما تميز بحسن إدارة جلساته، والروح الأخوية الدافئة التي سادت أجواءه، والنتائج والتوصيات التي أسفر عنها، وكل هذا بإشراف مباشر من مديرة الملتقى: دة. إلهام بوصفارة ومدير صالون الأدب الوجيز بسوسة الأستاذ جمال مسيوغة، وبمشاركة خلية نحل تنظيمية نشيطة من المبدعات والمبدعين… وهي خلية جعلتني أقول في سري: لو كانت مثل هذه الخلية في كل الملتقيات، لكان نجاحها شبه مضمون!

خلال الملتقى، سجلت، أيضا، وبإعجاب الحضور الوازن للمدير الإقليمي للثقافة، وتناوله الكلمة في جلستي الافتتاح والاختتام، ومشاركته في توزيع الجوائز وشواهد المشاركة والشكر والتقدير رفقة المدير الإقليمي للسياحة، الذي حضر الجلسة الختامية، وتناول الكلمة فيها… ومِثْلَ زميله في الثقافة، رحب بالحضور، ونوه بالملتقى وما أسفر عنه من نتائج، ووعد المنظمين بمزيد من الدعم والمساندة في الدورات المقبلة من الملتقى، كما أن هذا الأخير فتح أبواب “مرسى القنطاوي” في وجوه المشاركين، وزودهم بملفات عن السياحة في هذا البلد الشقيق…

وبالمناسبة، لا يفوتنا أن نسجل الحضور المتميز للدكتور منير تابت مؤسس “منتدى حلم الأرز التونسي اللبناني” وراعي الجائزة الوطنية في الأدب الوجيز، دورة 2023…

 “لؤلؤة الساحل”: عبق التاريخ وعطر الحداثة

كما أشرنا، فقد نُظم “ملتقى الأدب الوجيز” بسوسة، وهي مدينة فينيقية موغلة في التاريخ، في الوسط الشرقي للبلاد، تعرف بـ«جوهرة الساحل»، إذ تساهم السياحة الساحلية إلى حد كبير في نموها وتطوير إمكاناتها.

وفي مدينة سوسة هذه، يتعانق عبق الماضي مع عطر الحاضر، حيث إلى جانب المباني الحديثة الفخمة، تحافظ المدينة على طابعها الأثري الأصيل، بما تكتنزه من آثار كثيرة تعود لغابر العهود… وبذلك، فهي تنقسم إلى قسمين:

_منطقة الساحل وهي ذات مبان حديثة ساحرة الجمال، تمتد على شاطئ البحر الأبيض المتوسط… ومن أجمل ما تضمه “مرسى القنطاوي”…

_منطقة “البلاد العربي”: وهي غنية بكثير من الآثار العربية والرومانية العريقة، وتقع في (الرباط الشهير) وهو مُحاط بسور طويل…

“القنطاوي”: مارينا جميلة بطابع أندلسي

   من أهم المعالم السياحية التي زرناها بمدينة سوسة هناك “مرسى القنطاوي” ومرسم الفنان التشكيلي “رضا دحمان” وفضاء “دار زهرة”.

تمت زيارة هذه الفضاءات الثلاثة بتأطير من “الجمعية التونسية الإنجليزية للتربية والسياحة والثقافة الاجتماعية” So CuTE التي تترأسها الناشطة الجمعوية الاستاذة روضة بن هنية حسيون.

   ففي “دار زهرة” تعرفنا على نموذج جميل للبيت التقليدي التونسي من حيث هندسته وأبوابه وما يزخر به من زليج وجبس وزخارف… وفي هذا البيت، تعرفنا على بعض الأزياء التقليدية التونسية، وتذوقنا أطباقا لذيذة من تلك التي يزخر بها المطبخ التونسي الغني، وكانت من تهييء عضوات الجمعية…

   وفي مرسم الأستاذ “رضا دحمان” توقف المبدعون والنقاد المشاركون في “الملتقى” طويلا عند لوحات هذا الفنان وحاوروه بخصوصها سيما أنها تحاول مواكبة الحياة اليومية الأصيلة للتونسيين، وتوثيقها فنيا، عبر لوحاته، حفاظا عليها من الانقراض والزوال…

   أما “مرسى القنطاوي” فيعد، حسب أحد المسؤولين، أول محطة سياحية مندمجة بتونس، ويضم ميناء ترفيهيا، وعددا من الفنادق، وملعبا للغولف يؤمه اللاعبون من جميع أنحاء العالم، ومركبا عقاريا سكنيا يحتوي على مئات الشقق وآلاف الأَسِرَّةِ، إلى جانب منتزهات ترفيهية للصغار والكبار، وتصطف على جانبيه العديد من المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم، كما يضم العديد من الملاهي الليلية والكازينوهات، ومراكز الغوص، إضافة إلى متاجر للهدايا والتذكارات والبقالة والآيس كريم…

   أكيد أن جو أمسيات الصيف بهذا المرسى سيكون خلابا، وأن تناول الطعام أو الشراب على المرفأ شيء رائع، لذلك، فقد تمنيت لو كان الفصل ربيعا أو صيفا، والمرسى مأهولا وأنزل به، فآخذ كتابا، وأجلس في سقيفة مقهى للقراءة ومشاهدة الناس، والتفرج على المناظر الجميلة والقوارب والزوارق واليخوت الباذخة، تأتي وتذهب متزحلقة على صفحة الماء… أو أتجول في أزقته، وأتمشى على طول شاطئه…

   تقع هذه المارينا الجميلة على بعد بضع دقائق من وسط مدينة سوسة، وتتميز بطابعها الأندلسي، وهي مُسَخَّرة للترفيه والاصطياف، إذ إضافة إلى استقبالها للسياح، تقام فيها أنشطة ترفيهية متنوعة، وتقدم فيها أكلات شهية ومشروبات منعشة كما تنظم بها رحلات بحرية عبر القوارب العادية التي تسمح برؤية الجمال الطبيعي للمنطقة عن كثب، أما الرحلات على متن سفن القراصنة فتتيح الفرصة للاستمتاع بجمال الطبيعة وللتمني وإطلاق الخيال… وفعلا، فقد تمنيت لو أن سفن القراصنة كانت شغالة لأركبها، ونخوض مغامرة جميلة مماثلة لتلك التي كان يخوضها “القراصنة الأمازيغ”، الذين كانوا سادة الحوض الأبيض المتوسط، يبثون الرعب في قلوب الملاحين على طول الحوض وعرضه، خلال الفترة الممتدة بين القرنين 16 و19، كما أن سفينة القراصنة جعلتني أتذكر الحرب الأمريكية الأمازيغية التي تمت سنة 1801، مباشرة بعد استقلال أمريكا عن إنجلترا، وسببها، حسب المؤرخين، هو أن أمريكا رفضت دفع الضرائب للقراصنة الأمازيغ الذين ينشطون في البحر المتوسط، ويحمون السفن التجارية الأوربية من القراصنة العثمانيين والإيطاليين، فقام القراصنة الأمازيغ بالاستيلاء على السفن التجارية الامريكية المتجهة لطرابلس، ما جعل أمريكا ترسل فيلقا من مشاة البحرية الأمريكية ليثأر للسفن المستولى عليها، فنشبت حرب بالسواحل الممتدة بين الجزائر وطنجة أدت إلى هزيمة أمريكا ودخولها في مفاوضات مع القراصنة الأمازيغ انتهت بعقد معاهدة سلام، وفق الشروط التي أملاها القراصنة، حيث قبلت السفن الأمريكية عبور البحر الابيض المتوسط تحت حمايتهم، بعد أداء الضرائب التي فرضت عليها! ولم تنته حركة القراصنة هذه إلا باحتلال الجزائر سنة 1830.

   وبصراحة، فقد غادرت “القنطاوي” وفي نفسي شيء من “المرسى”، آملا أن تتاح لي فرصة العودة إليها مستقبلا…

“البلاد العربي”: نموذج مصغر للمدن العربية النابضة بالجمال والحياة

   “البلاد العربي” هو الاسم الذي يطلقه التونسيون على مدنهم العتيقة، وهي مدن إن زرتها تجذبك أحياؤها وأزقتها وسكانها، وتشدّك معالمها، فيتولد لديك إحساس بحب الاستكشاف الذي سيجعلك تتردد عليها باستمرار، فتنصهر فيها… وهذا ما حدث لي مع بعض المدن التونسية، وخصوصا منها سوسة وتونس العاصمة وقرطاج وسيدي بوسعيد.

   توجد “البلاد العربي” وسط مدينة سوسة، وهي نموذج مصغر للمدن العربية النابضة بالجمال والحياة، وتستحق الزيارة. في شوارعها، نلمس الإيقاع الحقيقي للحياة بتلك الربوع… وهي محاطة بأسوار عالية تعود إلى العصور الوسطى، تتخللها بوابات، وتحتضن العديد من المعالم الأثرية، منها المسجد والقلعة والمتحف… وهي معالم تشهد على ماض تليد، وتشكل، حاليا، مزارا للسياح، بها سوق شعبي سياحي جميل.

   يخيم على هذا القسم من مدينة سوسة عبق التاريخ ونسائم الإبداع الإنساني، فأغلب منازلها مازالت تحافظ على طابعها العتيق الذي يكشف عراقتها وغناها التاريخي… فعلى امتداد شارعها الرئيسي، وأزقتها الفرعية الضيقة المتعرجة، رُصَّت متاجر لبيع المنتوجات المحلية، خصوصا الجلدية منها والأزياء التقليدية، والهدايا والتذكارات، والزيوت والعطور والتوابل… وأغلب متاجر هذا السوق، الذي يعد شريان الحياة بهذه المدينة، تبيع سلعا متماثلة، ما يجعل التنافس بينها محتدما، ويؤدي إلى التهافت على استقطاب الزبناء، والإلحاح عليهم في محاولة لإدخالهم إلى متاجرهم وبيعهم بضائعهم.

   قضينا في “البلاد العربي” وقتا ممتعا، وكان قد انضم إلينا الصديق الناقد المبدع الجزائري: جيلالي بومكحلة، ورافقتنا أيضا الأديبة اللبنانية تَمَارَا أمين الديب…

   والأجمل هو أننا كنا مرفوقين بثلاث مبدعات عضوات نشيطات من “صالون الأدب الوجيز بسوسة” هن الأستاذات: زهرة النابلي تابت وسهام شكيوة وضحى نويصر، وكن ودودات وقمة في النبل والكرم، وهن من تكفَّلْنَ بقيادتنا عبر أزقة “البلاد العربي” ودروبها الجميلة، وعرَّفْننا على معالمها، كما كان بعض الأصدقاء يستشيرهن في ما يمكن شراؤه كتذكارات وهدايا… وكن أيضا يتدخلن ويساومن التجار، وغالبا ما كانت المساومة تنتهي بتخفيض الأسعار وهو ما يبين أن الأسعار التي طُلِبت أول مرة كانت مُبالَغا فيها!

   وطيلة الجولة، كنا بمجرد ما نتقدم بضع خطوات نجد أن الأديبة “تمارا” قد اختفت، وحين نبحث عنها، نكتشف أن سلعة ما أغرتها فدخلت المحل الذي يعرضها لتتفحصها وتستمتع بمشاهدتها، وتقليبها والسؤال عن اسمها وسعرها والمواد التي صنعت منها ولأي شيء تصلح…!

   يشار إلى أن عدد السياح، يوم زرنا مدينة سوسة العتيقة، كان قليلا جدا، وهو أمر أرجعه أحد التجار إلى الأزمة الاقتصادية العالمية، التي ضاعفت من حدتها أزمة سياسية محلية حادة…

 كأنني في مدينة مغربية

   في تونس العاصمة، استمتعنا بزيارة المدينة العتيقة، وسوق البركة لبيع المجوهرات، وسوق العطارين، وساحة القصبة التي كانت حاضنة تجمعات واعتصامات شباب ما سمي ب”الربيع العربي”، وأصبحت الآن مجرد فضاء للسياح يلتقطون به الصور التذكارية…

   وحين كنت أتمشى في شارع الحبيب بورقيبة، كنت أحس كأنني أتمشى في شوارع الرباط عاصمة المغرب، فالمحلات تشبه بعضها، والناس يشبهون بعضهم، بل إنني، منذ أن وضعت قدمي على هذه الأرض الطيبة، وإحساس داخلي ينتابني مشعرا إياي بأنني في زيارة لإحدى المدن المغربية البعيدة عن مدينتي، حيث اللهجة وحدها تختلف.

 رحلة الحواس في سيدي بوسعيد

   وقبل قرطاج، اتجهنا نحو بلدة سيدي بو سعيد، وهي إحدى أحد أجمل التجمعات السكنية التونسية، تقع على بعد زهاء 20 كيلومترا من العاصمة، ولا يتجاوز عدد سكانها حوالي 6000 نسمة.

   ذكرتني هذه البلدة الخلابة بمدينة شفشاون المغربية، من حيث الجاذبية والتضاريس والهندسة والأزقة الصاعدة واعتناء السكان بالطلاء الموحد، وأيضا من حيث الهدوء والسكينة اللذان يبثان في نفوس الزوار الراحة والطمأنينة…

   وسيدي بوسعيد بلدة بديعة، مقامة فوق التلال، تجولنا في شوارعها وأزقتها المتعرجة الممهدة بالحجارة، فأعجبنا بهندستها المعمارية العربية الأندلسية الرائعة، وبألوانها الموحدة، إذ أن منازلها بيضاء ناصعة، وأبوابها وشبابيكها الخشبية زرقاء، مقوسة أو مستطيلة، مؤطرة بالحجر المنقوش أو بالخزف أو بالرخام… كما أن أغلب أبوابها مزركشة بمسامير سوداء كبيرة رتبت على شكل نجوم، أو ورود أو أسماك.

   ولم يفتنا الاستمتاع بمشاهدها الطبيعية البحرية الرائعة اللاَّتُنْسى… إذ أن ألوان الطلاء مناسبة للطبيعة الغنية للمكان. وعلاوة على هذا، بدا لنا أن المركز التاريخي للبلدة مكان مذهل، لما يحويه من مساجد رائعة، وأسواق ملونة ومباني خلابة.

   وحسب العارفين، فخلف جدران هذه البيوت البسيطة المطلية بالجير الأبيض تختفي كثير من التحف المعمارية الحقيقية من قصور وريضان، تحول بعضها إلى متاحف، وقاعات للحفلات، بينما تحولت أخرى إلى معارض للفنون أو دور للضيافة.

  وعكس “البلاد العربي” بسوسة، لاحظنا، خلال تجولنا بهده البلدة البوهيمية الساحرة، المطلة على خليج تونس، وصعودنا منحدراتها، أنها جذبت عددا كبيرا من السياح الأجانب من هواة الجمال والهدوء، مبهورين بجمالها، مستمتعين بروعة أجوائها ومعالمها السياحية، كما استقطبت بعض المتعبين الباحثين عن أفضية للاسترخاء، وكنا نجدهم يحتسون كؤوس الشاي في المقاهي، متَنَسِّمين عبق الياسمين الذي أزهر في كل مكان، وتسلق الجدران، وأشبع الفضاء بعطر مميز للغاية. ولعل ذلك ما جعل بعض الأطفال والشباب يعرضون باقات صغيرة منه للبيع في الشوارع.

   لكل ما سلف، لا غرابة أن يتخذ عديد من المثقفين والفنانين الغربيين هذه البلدة مستقرا لهم…

   يشار إلى أننا، خلال زيارة هذه البلدة الصغيرة الزرقاء الخلابة، الواقعة بين الجبال والبحر، استمتعنا أيضا بمناظر خليج تونس الرائع، خصوصا لما أطللنا عليه ونحن نتناول كؤوس الشاي، وفناجين القهوة في أحد المقاهي التي تتيح مناظر بانورامية مذهلة، ومعلوم أن المقاهي هنا من الأماكن المميزة لاكتشاف البلدة والحياة الاجتماعية فيها وفي تونس عامة.

  ولأن البلدة صغيرة، فقد كانت بضع ساعات كافية لاكتشافها والتسوق من محلاتها المتواجدة على جانبي الشارع الرئيسي، والتي تعرض بعض المنتوجات التقليدية والأعمال الخزفية التي تشتهر بها المنطقة، حيث اقتنينا هدايا وتذكارات رغم أن الأسعار باهظة…

  لكل ما سلف، فهمت لماذا قال لي أحد أصدقائي: “تونس تستحق الزيارة حتى لو لم تكن فيها سوى سيدي بوسعيد…”

 قرطاج: “دليل” في محبة المغرب

   تبعد قرطاج عن تونس العاصمة بحوالي 15 كلم. وقد اشتهرت هذه البلدة، قديما، بأنها كانت من أكبر الموانئ الرومانية بالبحر المتوسط، أما راهنا، فهي معروفة بمواقعها وآثارها القديمة التي تشكل معالم حضارية غنية تستحق الزيارة والتأمل…

   انتقلنا إليها عبر القطار، ووقفنا على بعض معالمها، ومنها “حي المنازل الرومانية” ويعده البعض من أجمل ما يمكن زيارته في تونس الخضراء، وذلك، لأنه من أبرز الأحياء الرومانية في أفريقيا التي ساهمت في نقل حضارة الرومان إلى هذه الربوع، ولما يحويه من معالم أثرية، تم ترميمها فأظهرت صورة رائعة عن الأحياء الرومانية المعروفة بجمالها وتصاميمها المميزة.

   ولعل من أجمل ما حدث خلال هذه الزيارة، أنه، أثناء جولتنا داخل هذا الحي، سألت رجلا عن بناية وجدته داخلها، فقال إنها كانت مخزنا للخمور في عهد الرومان، ومن هذا المخزن كان يتم تصديرها إلى الخارج…

   وخلال الحديث مع هذا الرجل، اكتشفت أنه مرشد سياحي، اسمه حسن بن سلطان (77 سنة)، وهو أستاذ تاريخ متقاعد، وخبير أركيولوجي ودود، وكان في قمة السعادة حين عرف أنني ورفقائي مغاربة، وعبر عن محبته وعموم التونسيين لأشقائهم المغاربة، وعَدَّدَ بعض ما يجمع بين الشعبين الشقيقين، من ثقافة وحضارة وإخاء ومصير مشترك، مضيفا أن عديدا من العائلات ذات الأصول المغربية (منها عائلة “الفاسي”) تعيش مندمجة ضمن النسيج الاجتماعي التونسي، كما حكى بإعجاب عن الملوك المغاربة الثلاثة: محمد الخامس والحسن الثاني ومحمد السادس، والمثير هو أنه لم يكن يذكر اسم محمد الخامس إلا مقترنا بلقب “سيدي” محمد الخامس، الذي اعتبره رفيق الحبيب بورقيبة على درب النضال والتحرر، كما يتذكر جيدا ما أسماه “الوقفة الشجاعة” للحسن الثاني مع تونس خلال  “أحداث قفصة” عام 1980، حيث أرسل عددا من الطائرات والمروحيات إلى تونس، وأعرب لبورقيبة عن استعداده للمساعدة في العمليات الميدانية، والوقوف إلى جانب تونس في تلك المحنة… كما حكى بامتنان عن الملك محمد السادس الذي اختار أن يكون أول قائد عربي يزور “مهد الثورات العربية”، سنة 2014، حيث قوبلت هذه الزيارة بترحيب كبير من قبل التونسيين، خاصة بعد تمديده لها، وتخصيص إقامته في تونس للترفيه والسياحة… وكانت تونس، يومها، خارجة لتَوِّها من تداعيات أعمال إرهابية، وهو ما جعل الزيارة تعطي الانطباع بأن البلد استطاع تجاوز محنته، حيث كان الملك يتنقل في جولاته بزي رياضي، في ساحات تونس وأسواقها وشوارعها، خصوصا منها شارع بورقيبة، من دون حراسة مشددة…

   بل حكى لنا كيف أنه، خلال تلك الفترة، كان، مرة، عائدا إلى بيته، وبينما هو يحاول عبور الطريق، توقفت سيارة فخمة وسمحت له بالعبور، فنظر إليها ورأى أن من يسوقها وجه معروف لديه، وحين تأمله تبين له أنه الملك محمد السادس، فَلَوَّحَ له ردا على تحيته وانصرف…

  كان الرجل يبدو صادقا في كلامه، ومن شدة صدقه وتأثره، اغرورقت عيناه وهو يقول: إن من علامات المحبة المتبادلة بين التونسيين والمغاربة أن أكبر شارعين بالعاصمة تونس، وهما شارعان متعامدان، يحمل أحدهما اسم “الحبيب بورقيبة” بينما يحمل الثاني اسم “محمد الخامس”! وبالمثل، تحمل شوارع العديد من المدن المغربية اسم الحبيب بورقيبة!

  بصدق أحببت الرجل وتأثرت لكلامه وطيب مشاعره، ونفس هذه المحبة والمشاعر النبيلة لمسناها في ملتقى الأدب الوجيز بسوسة، لدى المنظمين، رسميين ونشطاء مدنيين، كما لمسناها لدى كل الوفود المشاركة، وكانت تنتمي لتونس والجزائر وليبيا ولبنان، مشاعر تنضح محبة وتقديرا واحتراما متبادلا…

   وبالمناسبة، أذكر أنني، وأنا داخل إلى مدينة سوسة، مساء يوم وصولي إليها، قادما في سيارة أجرة من تونس العاصمة، أوقفنا حاجز لرجال الأمن، فأطل أحد الأمنيين علي وطلب بطاقة تعريفي، فأخرجت له جواز سفري، ودون أن يفتحه، سألني:

_مغربي؟

_نعم، قلت

   وهو يرحب بي مبتسما، ناداه زميله، وكان بعيدا عنه، وطلب منه أن يمده ببطاقتي، فقال له: لا داعي لذلك، إنه مغربي!

فجاء الذي طلب البطاقة، قائلا: مرحبا بك أخي أنت في بلدك، وأردف:

_أأنت قادم من أجل العمل أم السياحة؟

قلت: من أجلهما معا! إذ سأحضر ملتقى أدبيا، وسأزور المدينة ومناطق أخرى بحول الله، فرحب بي هو الآخر، وقال مبتسما:

_أتمنى لك إقامة طيبة

وانصرف…

   وفعلا، فقد كانت الإقامة طيبة، وكيف لا تكون كذلك، وقد كنا في ضيافة أشقاء أكرموا ِوفَادتنا، وقبل الملتقى وبعده، صاحبونا لتعريفنا بالمدينة وأهم مؤهلاتها ومعالمها…

   للإشارة، فقد سبق لي أن تعرفت على العديد من التونسيين، بالمغرب وخارجه، واليوم، بعد هذه الزيارة، تأكد لي أن التونسي، رجلا كان أو امرأة، إنسان أنيق، ودود، مهذب، حداثي، متفتح، لا عصبية ولا شجار، رغم الظروف العصيبة التي تجتازها بلاده…

   أما النساء، فعلاوة عما سلف، تأكد لدي ما كنت أعرفه عنهن، وهو أنهن قويات متحررات يشاركن بقوة في كل مجالات الحياة… ولعل من أبلغ ما قيل في حقهن قول الشاعر محمد الصغير أولاد أحمد:

“كتبت، كتبت…

فلم يبق حرف،

وصفت، وصفت…

فلم يبق وصف،

أقول، إذن، باختصار وأمضي:

نساء بلادي نساء

ونصف.”

تونس الذابلة:

   وأنا في سيارة الأجرة متجه نحو المطار لأغادر نحو الدار البيضاء، سألني السائق، بعدما سمعني أودع أصدقائي:

_ مغربي؟

_نعم، قلت

_مرحبا بك بين إخوانك التونسيين، أهذه أول مرة تزور تونس؟

_أجل، أجبت، هذه أول مرة أزور تونس الخضراء

_دوماج، أنك تزورها في موسم الذبول هذا…!

   لم أسأله عما قصده بقوله “موسم الذبول” فقط، وجدتني أسترجع صور العديد من شوارع العاصمة، وما طالها من إهمال، كما طال الفضاءات الخضراء، كما استرجعت صور الحواجز الأمنية التي تعوق السير في أهم شوارع العاصمة، بل استرجعت مسحة الخيبة والقلق والحزن التي لاحظت أنها تعلو وجوه أغلب التونسيين والتونسيات، جراء “مآل الثورة” والأزمة الاقتصادية، والظروف السياسية العصيبة التي تجتازها بلادهم…

   سادت لحظة صمت بيننا، وحين وصلنا المطار، لم أجد ما أقوله، فنزلت متمنيا للسائق ولعموم الشعب التونسي والشعوب المغاربية جمعاء مستقبلا أفضل…

Visited 40 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

علي بنساعود

كاتب مغربي