نحن والمسرح والعشق الممنوع.. في العنوان ومعنى العنوان

نحن والمسرح والعشق الممنوع.. في العنوان ومعنى العنوان
 
 
د. عبد الكريم برشيد
   نحن والمسرح والعشق الممنوع، هكذا عنونت هذا النفس الجديد من هذه السلسلة من الكتابات التاملية الحرة، وأرى أنه كان على أن أستغني عن خدمات هذه الواو الزائدة، خصوصا وأنها موضوعة اليوم في مقام العشق، وعندما يبلغ العشق أقصى درجاته يصبح من حق العاشق أن يقول نفس ما قاله الحلاج:
  أنا من أهوى ومن أهوى أنا
           نحن روحان حللنا بدنا
   وعندما يكون المسرح عشقا، وهو في معناه الحقيقي عشق وشغف، ويصل هذا العشق إلى درجة الاحتراق، فإن هذه الواو تصبح بلا معنى، أقول قولي هذا، وأنا بصدد الحديث عن مسرحي أخطأ مسرحه، ووجد نفسه، من حيث لا يريد، في وطن اللامسرح، ممنوعا من المسرح ومن عشق المسرح ومن طقوس المسرح.
   وغدا ستتبدل هذه الأرض بلا شك، وغدا يتبدل كل شيء فيها، ويبقى الإنسان في الجغرافيا العربية وحده خارج التغيير وخارج التاريخ وخارج منطقة الضوء، لقد مات الفنان أحمد جواد في لحظة مأتمية غريبة، مات في مسرحية الحياة في تمرين عبثي على الموت، مات خارج خشبة المسرح، بجرعة قوية وزائدة من عشق المسرح، تماما كما مات الحلاج مصلوبا على لوح، لأنه أحب الله أكثر مما يلزم، ولم يقف عند حد الطقوس والشعائر الدينية فقط، ولهذا نقول اليوم، بأنه غدا سيتبدل كل شيء، في دنيا الناس والحجارة، ولن تصبح الأرض هي نفس الأرض، ولا هذا المسرح هو نفس المسرح، ولهذا يكون من الضروري أن نقول وأن نكتب كلاما جديدا، وأن نفتح الستار عن آخره، وأن نسلط بعض الضوء على الكواليس المظلمة، لنعرف ما فيها ومن فيها، وأن نخرج ذلك الملقن المختبئ في حفرته، وأن نلقي به خارج المسرح، لأن الممثل الذي يحيا حياته بصدق، لا يحتاج لمن يلقنه كيف يحيا حياته، ولا ماذا ينبغي أن يقول في كلامه.
    وما نقوله الآن ليس كلاما جديدا، وما نكتبه في هذا النفس من هذه الكتابة قد يغضب بعض الأسماء أو بعض الجهات، ولكنه بالتأكيد لن يغضب الله، ولن يغضب الحق والحقيقة، ولن يغضب التاريخ، ولن يغضب قدسية هذا المسرح، والذي تم مسخه وتحريفه حتى أصبح مسرحا قاتلا، مما يدل على أن المنظومة المسرحية لدينا هي منظومة معطوبة، وأن بها اختلالات بنيوية عميقة جدا، وأن الأمر يحتاج إلى إعادة ترتيب الأساسيات والأولويات في هذه المنظومة المسرحية، بل وفي كل المنظومة الثقافية العامة.
   ولست أدري ماذا يمكن أن يقول اليوم كل الذين احتفوا بالجسد في كتاباتهم النقدية والإبداعية، والذين ركزوا كثيرا على الجسد في المسرح، وأيضا على لغة هذا الجسد، وعلى كل مفردات الجسد، وعلى الكتابة بالجسد، ماذا يمكنهم أن يقولوا وقد رأوا جسدا بشريا يحترق، حقيقة وليس كناية أو استعارة، مثل هذا المشهد، سبق وقدمته ـ مسرحيا ـ في مسرحية (الحومات) سنة 1973 مع فرقة النهضة الثقافية بمدينة الخميسات، وكان ذلك من خلال شخصية ذلك الراهب البوذي، والذي أحرق جسده أمام عدسات المصورين، احتجاجا على الحرب الأمريكية على الشعب الفيتنامي.
   وأحمد جواد كان مشاغبا، وكان مشاكسا، وكان معارضا للحمق وللسكون وللفوضى وللعبث وللسكون والاستكانة، تماما كما هي أمه الحياة، والتي قال عنها بلزاك (إنني أنتمي إلى المعارضة التي هي الحياة) والمسرح ماذا يمكن أن يكون سوى أنه (الحياة في صورتها الأكثر عنفا وقوة، إنه معارضة للسكون والموت والفقر والجهل والمرض والشيخوخة والعجز والنفي والغربة)، هذا ما كتبه الاحتفالي في مقدمة كتاب – التأسيس والتحديث في تيارات النمسرح العربي الحديث) والذي صدر عن (دبي الأدبية).
   واليوم، واحتجاجا على الظلم والقهر والتجويع والقتل والنفي، تشهد الرباط عاصمة الأنوار مشهدا لا نور فيه، ولكن فيه شيء كثير من النار الحارقة والقاتلة، وأين تم هذا المشهد المأساوي أو الملهاوي؟ في العاصمة الرباط، وأمام باب وزارة الثقافة تحديدا، وأمام أعين كل الناس، والمفروض في هذه البناية هو أنها بيته، وأنها أيضا بيت كل المثقفين والفنانين من أمثاله، ولكن الجهات الخفية كان لها رأي آخر، ولقد كان هذا (الجواد) ممنوعا من الدخول إلى بيته هذا، وممنوعا أيضا من كل حقوقه البسيطة فيه، وذلك بقرار من موظفين يعرفون الأوراق وحدها، ولا يعترفون بالحياة، ولا يقيمون للناس الأحياء أي اعتبار
ويبقى السؤال: متى حدث هذا العدوان على فنان من قبيلة المسرحيين؟
   حدث في يوم 27 من شهر مارس، والذي هو اليوم العالمي للمسرح والمسرحيين، وهل هناك سخرية أفظع وأبشع من هذه؟ أن تعيش القتل الظالم والغاشم يوم عرسك، وأن (تحياه) بشكل عبثي معكوس في يوم عيدك واحتفالك.
وأعداء العيد والاحتفال، وأعداء الفرح والحق في الفرح، هم الذين كتبت عنهم مقالة سابقة وأعطيتها اسم (الاحتفالية حلال) ثم أتبعتها بمقالة أخرى ثانية بعنوان (الاحتفالية حلال والاحتفالية حرام) ولقد دعوت دائما، وعلى امتداد خمسة عقود، إلى تمدين غاباتنا التي نسميها مدنا، وإلى أنسنة الوحش الذي فيها، والذي نسميه إنسانا، وسنظل نسميه بهذا الاسم حتى إشعار آخرطقس جنائزي بلا مسرح ومسرح بلا طقس.
   لقد سألني سائل من الناس، في حوار صحفي، وقال لي ما يلي:
(إلى الآن لم ننجح في صنع مسرحنا العربي، ولم نفلح في أن نحمله مشروعنا النهضوي، أتكون الأنظمة العربية هي السبب أم هم المثقفون المسرحيون؟)
   وكان جوابي كالتالي:
وفي غير هذا المسرح أيضا، بفكره وعلومه وفنونه وآدابه وأخلاقه وطقوسه واحتفالاته وأعياده وصناعاته ـ هل فلحنا في شيء من الأشياء؟
لقد خرجنا من النكبة إلى النكسة ومن النكسة إلى ما بعدها، وبشرنا شباب مندفع بربيع عربي، وقالوا للظالم ارحل، معتقدين أن الظلم هو واحد من الناس، وأن الفساد هو واحد من الناس، ورحل بعض أهل الظلم والفساد، ولكن بقي الظلم والقهر، وبقي الفساد، واكتشفنا من بعد، نحن الذين نحسن التفكير العاقل وحده، ولا نحسن صياغة الشعارات، ولا الصراخ بها في المظاهرات، اكتشفنا أن الأمر يتعلق بكذبة العصر، ولقد تم تخريب دول عربية عريقة، دول هي سوريا والعراق واليمن السعيد، وأضيفت إليهما دول عربية أخرى، وكل هذا باسم التغيير والتجديد.
   إن هذا المسرح، والذي نعرف نحن فقط أضواءه وظلاله وأزياءه وأقنعته وتقنياته، هو بالأساس علم وفكر الإنسان الحي، وذلك في المجتمعات الإنسانية الحية، وفي الحقب التاريخية الحية، وأين هي الحياة في مجتمعات تعطلت فيها عجلة الزمن عن الدوران، والتي كانت، وماتزال، تقتل مثقفيها ومفكريها ومبدعيها في واضحة النهار؟
   وهذا المسرح لا يمكن أن يكون إلا حرية، وهو دعوة صادقة للتحرر العقلي أولا، وهل تمكننا في مجتمعاتنا المعتقلة من تحرير الإنسان في المسرح، ومن أنسنته وعقلنته بالمسرح الإنساني العاقل؟
   وأين هي المجتمعات الحية، والتي يمكن أن تعيش حياة حقيقية، وذلك في كل هذا العالم العربي، من أقصاه إلى أدناه؟
   وهل أدرك الإنسان العربي، في مسرح الحياة وفي حياة المسرح، درجة الإنسانية الحقيقية؟
   وقبل هذا، ما هو موقع الإنسان المسرحي في هذا المسرح؟ وهل له أصلا موقع، أم إنه موجود خارج كل المواقع؟
   وهل هو صاحب رؤية ورأي؟ وهل هو صاحب مشروع فكري وجمالي وأخلاقي في المجتمع؟
   وهل هو سلطة إبداعية حقيقية، أم إنه مجرد أجير تابع لسلطة المال والأعمال وسلطة السياسي والحزبي؟
في غير هذه البلدان العربية السعيدة، قد يرقى الفنان المفكر ليبلغ درجته الاعتبارية الحقيقية في المجتمع، وأن يكون فيه قوة اقتراحية حقيقية، وأن لا يكون مجرد موظف أو مجرد أجير أو مجرد متسول على أبواب وزارات الثقافة وأبواب الهيئة العربية للمسرح؟
   والأصل في المسرح أنه فن عاقل، وأن لغاته هي لغات عاقلة وحكيمة دائما، وأين هو العقل الخلاق، وأين هي العقلانية في هذا المسرح المغربي والعربي اليوم؟
   وأين هي عبقرية المسرح في هذا المسرح؟
   وأين هي عبقرية كثير من المسرحيين، ونحن نراهم يتبعون ولا يبدعون، وينقلون التجريب ولا يجربون، ويقتبسون ويترجمون ولا يكتبون؟
   وأين هي عبقرية كثير المدن العربية التاريخية، والتي أعطت للبشرية أكبر وأخطر المنجزات ات الأدبية والفكرية والعلمية؟
   وهذا المسرح الذي نبدعه، نحن ـ الآن ـ هنا، أين هو صوت الواقع فيه، وأين هي عبقرية اللحظة التاريخية فيه؟
  وعندما نجد المسرحيين العرب يعيشون ظروف مأساوية، ويموتون في ظروف عبثية، فإنه لابد أن نتساءل؟ أين هي كرامة المواطن في أوطانه، وأين هي كرامة المسرحيين في خرائط المسرح العربي؟
  وإذا كان المسرح هو الحياة، في درجاتها الأصدق والأعلى والأسمى والأجمل والأنبل، فإنه لابد أن نتساءل: وأين هي الحياة وأين هي الحيوية في إبداعات المبدع الحي فيه؟
 وأيضا، ما هي درجات الإبداع في هذا (الإبداع)؟ وهل ناقل إبداعات الآخرين مبدع؟ وهل مسخ وسلخ وتشويه كتابات الكتاب، تحت عنوان الإعداد، هو إبداع؟
  ومع وجود كل هذا الكم الهائل من المترجمات ومن المقتبسات ومن المختلسات ومن المستوردات، ومن التحويرات ومن التحريفات، هل يمكن الحديث عن شيء حقيقي يمكن أن نسميه الإبداع المسرحي؟
  والمسرح أساسا فن وفكر وعلم وآداب وأخلاق المدينة، وأين هو روح المدينة في هذه المدينة؟ وأين هي ثقافة المدينة، وأين هو تاريخها، وأين هو معمارها، وأين هي أزياؤها، وأين هي ألوانها، وأين هي أضواؤها وظلالها، سواء في حياتنا اليومية، أو في حياة مسرحنا، والذي هو رسالة للتاريخ؟
 
مدن بلا مدنية ومسرح بلا مسرحيين
   ولقد أكدت الاحتفالية، والتي هي أهم مشروع نهضوي لتحديث الحياة العربية، في المسرح وفي ما وراء المسرح أيضا، على (إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة) واعتبرت المسرح في المدينة هو في حقيقته مدينة أخرى، مدينة أكثر صدقا ومصداقية من المدينة الواقعية، وهذا ما يجعلنا نتساءل اليوم..
أين وصل فعل تمدين المدن العربية، فكريا وجماليا وأخلاقيا؟ وهل خرجت مدننا من مضارب العشيرة، وأصبحت مدنا حديثة ومعاصرة حقيقية؟
ووجود أوطان عربية يحكمها العسكر، ويختفي فيها نظام الحكم المدني الديمقراطي، مثل هذه الدول، هل هي دول فعلا؟ وما نسبة علاقتها بالقرن الحادي والعشرين؟
ووجود مدن يحكمها العسكر، ويعلق فيها الدستور، ويحظر فيها التجمع، ويمنع فيها الخروج ليلا، هل هي فعلا أمدن يمكن أن تكون بها حياة مسرحية حقيقية؟
   هي إذن، مجرد معسكرات باسم مدن، وكيف يمكن أن يعيش ويحيا فيها المسرح، والذي هو أساسا فنان، مدني، وكيف يمكن أن يحيا فيها الإنسان حياة مدنية طبيعية وحقيقية؟
   ونحن نتحدث عن المسرح، صباح مساء، ولدينا بنايات للمسرح، ولدينا مصالح في وزارات الثقافة تعنى بالمسرح، ولدينا معاهد تدرس المسرح، ولدينا صحف ومجلات وكتب عن المسرح، ولدينا احتفال سنوي بالمسرح، مثل كل بلدان العالم، ولكن، وقبل هذا وذاك، هل أوجدنا هذا المسرح أصلا؟ وما نمارسه، أمام أنفسنا وأمام العالم، هل هو المسرح حقا ، أم هو ظله فقط، أو هو مضاعفه، أو هو مشابهه، وهل أعطينا هذا المسرح ـ مسرحنا ـ روحه الحقيقي، وهل أسسنا لغته المسرحية الخاصة، وهل أوجدنا معجمه وعلومه وفكره وفقهه وآدابه وأخلاقه وطقسه ومناخه؟
   ونحن نتحدث عن المسرح كثيرا، وأغلب الذين يتحدثون عنه، أكثر من غيرهم، لا يمارسون فعل المسرح، وكل ثقافتهم فيه هي ثقافة ورقية متأتية من الكتب ومن المجلات ومن النميمة المسرحية ومن الإشاعات، ولهذا يكون من واجبنا أن نسال: وأين هو جسد المسرح، وأين هو روح المسرح، وأين هو عقل المسرح، وأين هو خيال المسرح، وأين هو وجدان هذا المسرح؟
   ولأنه مسرحنا، كما نزعم، فإنه لا ينبغي أن نجهله، وأن لا نعرف مصادره، وأن لا نعرف رواده الذي أسسوه، أو الذين أعادوا تأسيسه، كما أنه لا معنى لأن نعرف موليير مثلا، إذا كنا لا نعرف الكبير أحمد الطيب العلج، ولا معنى لأن نعرف جان فيلار أو بيتر بروك إذا كنا لا نعرف الطيب الصديقي أو فريد بنمبارك أو سعيد عفيفي أو عبد الصمد دينية.
   ومن يمارس هذا المسرح، بشكل حقيقي، ينبغي عليه أن يعرفه معرفة شاملة، وأن يجيب على السؤال الضمني التالي:
ما هي الملامح المميزة لهذا المسرح ـ مسرحنا؟ وما هي الإضافات الفكرية والأدبية والعلمية والجمالية التي أضافها لكل مسارح العالم؟
   ثم أيضا، هل أعطينا لهذا المسرح ـ مسرحنا شيئا أخر غير الشعارات والخطب وغير تأسيس المؤسسات التي لم تؤسس شيئا، وغير إيجاد الهيئات المسرحية، والتي لم تهيئ أي شيء حقيقي في خرائط المسرح؟
   هذا المسرح في كثير من تجاربه يتطور حقا، يتطور تقنيا وشكليا، ولكن الإنسان فيه، والذي هو صانع هذا المسرح المفترض، هل تطور؟ هل أصبح اكثر عقلانية؟ هل أصبح اكثر حياة وحيوية؟ هل أصبح اكثر إقناعا وإمتاعا؟ هل اصبح اكثر حرية واستقلالية؟ وما نسبة الكرامة التي (يتمتع) بها المسرحي في وطنه وفي وطن مسرحه؟
   تلك هي الأسئلة التي ينبغي ان يطرحها المسرح والمسرحيون، والتي ينبغي أن تجيب عنها الدوائر المكلفة بمصير هذا المسرح، وايضا، بمصير السادة المسرحيين فيه.
Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي