رقصة زوربا في طوبقال.. ولوركا في مرس السلطان !!
عبد الرحيم التوراني
منصور الحريزي
(…) من رواد “لا كونكورد” أذكر صديقنا المرحوم منصور الحريزي، بطل مغربي وإفريقي سابق في ألعاب القوى. من الأطر الرياضية العالية التكوين. وهو شقيق الصديق عبد اللطيف منصور النقابي السابق بالجامعة الوطنية للتعليم (الاتحاد المغربي للشغل) ورئيس تحرير مجلة “ماروك إيبدو” حاليا.
كان منصور الحريزي يستحوذ على الكلام ولا يتوقف عن حكي ذكرياته وأمجاده في الرياضة والحياة. ظل يحافظ على أناقته الشبابية، سروال الجينز وصدرية “الجيلي” من الموضة. ولما يرتدي الكوستيم يليق بقامته المديدة. يتحدث بفرنسية سليمة، كما يملك سخرية لاذعة.
غالبا ما كنت ألتقي به في ساحة مرس السلطان أو في بار نادي الكرة الحديدية بحديقة الجامعة العربية.
شغل الحريزي مهام رئاسية وتقنية في جامعة ألعاب القوى وجامعة كرة السلة والكرة الطائرة والكرة الحديدية. وهو من مؤسسي الاتحاد الإفريقي لألعاب القوى. كان واحدا من كوكبة نادرة شهدتها الرياضة المغربية في العقود الماضية، مثل عبد الرحمان المذكوري ومحمد امجيد ومحمد بنجلون (شوكولا) وغيرهم.
يسري حمودة
في عهد رئاسة الدكتور يسري حمودة لجامعة كرة السلة تم تعيين منصور الحريزي من جديد كإطار مساعد في تسيير الجامعة. ويسري حمودة لعب للمنتخب الوطني في هذه اللعبة وكان عميدا للفريق الوطني. عند تخرجه طبيبا عاد من فرنسا وحرص على فتح عيادته بحيهم الشعبي في المدينة القديمة، قرب عرصة الزرقطوني. وقد وقفت على ما حظي به حمودة من سمعة إيجابية بين الساكنة والفقراء منهم بالخصوص، وشاهدت الزحام على عيادته في شارع الطاهر العلوي، لما كنت أزوره، كان لا يأخذ من الكثيرين أي مقابل، بل إن بعض الشباب العاطل من أبناء الحي كان لا يزور العيادة من أجل الفحص الطبي ولكن لطلب مساعدة مادية من الدكتور. بالرغم من كل هذا، لم يطلق عليه أحد لقب “طبيب الفقراء”، ولا هو سعى وراء ذلك.
ماسح الأحذية
ذات صباح كنا مع المرحوم منصور الحريزي ب”لاكونكورد”، دخل ماسح أحذية فمد له الحريزي رجله، ولما انتهى “السيرور” من مهمته، وقف الحريزي ليخرج من جيب سرواله الجينز بعض الدراهم، لكن الشاب رفض أخذ أي مقابل رغم إلحاح الحريزي. وأمام استغرابنا جميعا سيفصح الشاب عن السر، عندما خاطب الحريزي قائلا:
– لن آخذ مقابلا من أستاذي الذي درسني وعلمني.
لم يكد يكمل جملته حتى هوى الحريزي على الشاب بصفعة قوية وطرده، مهددا إن رآه ثانية يجول بساحة مرس السلطان “سيخلي دار بوه“.
ثم التفت إلينا وقال بجدية وحزم:
– إنه كاذب. كل من مروا بالدراسة عندي أكملوا دراستهم وتخرجوا مهندسين وأطباء وطيارين وأطرا عليا.
في سنة 2006 سيتوفى الصديق منصور الحريزي عن سن تناهز 75 عاما بمستشفى جورج بومبيدو في فرنسا. ومعه خسرنا خزانة كتب لم يتم تدوينها في تاريخ الرياضة في المغرب. وكان الحريزي صديقا للمثقفين والصحفيين، أكتفي بذكر الصحفيين الرياضيين البارزين ممن غادرونا ورحلوا: مصطفى الخوضي وعلي بوهدار وأبو جواد الصقلي وعبد الحي أبو الخطيب وحبيب الحسني.
من المؤكد أنه لا يمكن لأحد أن ينسى الرجل الذي أفنى حياته في خدمة الرياضة الوطنية دون أن يطلب أي شيء. منصور الحريزي سيبقى في قلوب الأصدقاء والأحباء وكل الناس، لأن هذا ما رغب فيه.
الشيوعي الأخير
من جلاس “لاكونكورد” المناضل الشيوعي والنقابي عبد المجيد الدويب. كنا نحاول ما أمكننا الاستفادة من أحاديثه التاريخية المتصلة بالحزب الشيوعي المغربي.
في بداية الثمانينيات صادفت مرات السي عبد المجيد وحيدا في “دانسينغ” فندق طوبقال، وكنت أشاهده وهو يقلد رقصة تشبه رقصة زوربا، وأحيانا تميل إلى رقصة صباح فخري، إلا أن موسيقى “الدانسينغ” ليست من الموشحات أو القدود الحلبية، بل أنغاما غربية زاعقة.
في سنواته الأخيرة أمسى ينتقد قيادة التقدم والاشتراكية. لكنه لم يتنكر لتاريخه أبدا وظل شيوعيا حقيقيا. وكنت أحب تسميته ب”الشيوعي الأخير“.
لم أنجح في إجراء حوار صحفي مع الدويب، عندما أعطاني موعدا بزنقة حسن السكتاني بحي غوتيي، حيث مقر نقابة “اللجان العمالية” التي أسسها بعد انشقاقه عن الاتحاد المغربي للشغل، وظل رئيسا لها. فوجئت بتراكم الغبار على مكاتب وأغراض المقر الذي حصل عليه أيام تولي مولاي إسماعيل العلوي وزارة التربية الوطنية. واضح أن المكان مهجور لم تطأه قدم من زمان، وكما قالت لي امرأة أطلت علي من طابق في نفس العمارة:
– لا تتعب نفسك. فلا أحد يجئ من أصحاب النقابة.
كان ذلك في الموعد الأول الذي أخلفه معي صديقنا الدويب.
وفي الموعد الثاني التقينا عند الباب. من سوء حظي أن أول سؤال طرحته عليه لم يعجبه، فأنهى الحوار.
أخبرت الرفيق رؤوف فلاح بما جرى لي مع الدويب، وبأني سأكتب القصة كما حدثت، وهي ليست في صالحه. لكن الرفيق رؤوف طلب مني ألا أفعل. كان فلاح يحب الدويب كثيرا ويقدره. وبقي الدويب يتردد على “مثلث برمودا” حتى بعد أن صار يتمشى بصعوبة. كنا نتعحب كيف ظل يسوق سيارته “الداسيا” عادية سوداء، ثم أصبح يوصله أحد أقربائه أمام باب “مدام غيران”، فيخرج النادل ابراهيم أو النادل حسين لاستقباله ومساعدته وهو يتكئ على عكازه. يجلس ويطلب بيرة “فلاغ” المعروفة باسم: “عايشة الطويلة”، يتسلى بأكل “لفريت” ولا يستعمل الكأس.
لوركا في حانة بكازبلانكا
في سنة 1988 دخلت إلى “لاكونكورد” برفقة صديقة اسبانية. لما أخذنا مكاننا بالبار قالت لي كارمن:
– جيد… إنهم هنا يحتفون بالشاعر فريدريكو غارسيا لوركا ويعلقون صورته…
سألتها أنا:
– أين هي.. أين شفت هذه الصورة؟
أشارت الاسبانية بيدها إلى أعلى الجدار في عمق البار. فضحكت منها وحزنت هي.
لقد شاهدت صديقتي صورة قديمة للملك الحسن الثاني وهو يرتدي لباس أميرال بحري وظنته الشاعر الاسباني والكاتب المسرحي والرسام والموسيقي لوركا.
ثم هالها أن لا ترى أنثى واحدة بالمكان المكتظ بالرجال. ولم تفهم.
مر وقت التفتت إلي مبتسمة:
– وأخيرا.. ها هي امرأة ظهرت!
دخلت امرأة واتجهت صوب موريس الجالس وراء الكونتوار جنب الصندوق، وخرجت مسرعة تأكلها النظرات الذكورية. انهزمت الاسبانية ثانية لما أخبرتها أن المرأة دخلت فقط لتسأل عن زوجها، وليست من زبائن المكان.
ثم اضطررت أن أذهب بها إلى “حفرة” قريبة، كباريه “بريزدون”، بأحد الأزقة المتفرعة عن شارع مصطفى المعاني. قلت لصديقتي الاسبانية الباحثة عن بنات جنسها، هذه هي العينة التي ترتاد البارات والكباريهات عندنا. وكان الملهى غاصا ب”البنات“.
جاءت صديقتي إلى المغرب في إطار استكمال بحثها لنيل شهادة الدكتوراة حول القصة القصيرة العربية. وقد عرفني بها صديقنا محمد العشيري الكاتب باللغة الاسبانية والمترجم وأحد أعضاء هيئة مجلة “الثقافة الجديدة”، وكان من أبناء مدينة سبته المحتلة.
لما عادت كارمن إلى مدريد بعثت لي برسالة طويلة، مكتوبة بخط مشرقي جميل، وقد تعلمت اللغة العربية ودرست اللهجة المصرية في القاهرة. حملت الرسالة عنوان: “أين النساء؟”، هي الرسالة التي قمت بتعميمها ونشرها على صفحات جريدة “الكشكول” التي أشرفت على تحريرها مع الصديق عبد القادر شبيه، وكان عبد الله الستوكي مديرا للنشر.