مصر المَحرُوسَة.. أدخُلوهَا آمِنِينَ!

مصر المَحرُوسَة.. أدخُلوهَا آمِنِينَ!

 د. السّفير محمد محمد الخطابي   

     مصر المحروسة بعد طول عناء و بعد طول انتظار، ها نحن نتطلّع إليك اليوم من بعيد، من جديد ، يحملنا إليكِ الشوق، نتلظّى لنداءاتك، ونتشظّى لآهاتك، ويهزّنا أنينك، تذكرينَ العهدَ الجميل، والجدّ الأثيل وسط تفاقم وتعاظم المحن.. خذلوك أيتها الأرض الطيّبة المِعطاء المخصاب.

    تحملين همومك الأبدية، وقلقك الدائم، وهواجسك المتزايدة، التي تنوء كلكلكِ وتمضين، ولا أحد يبالي  بكِ وبآلامك، ومعاناتك إلا شعبك العظيم، وأهلك الطيّبون، ولا أحد يكترث بأحزانك وآلامك وأحلامك، وعذاباتك إلاّ أناسك، وأبناؤك البَررة.. ومحبّوك وما أكثرهم!

   مصر الآمنة ها أنت تطلّين علينا من جديد مشرئبّة القامَة، عالية الهامة، من قعر الهوّة السّحيقة، واليمّ العميق اللذين لا قرار لهما، وما انفكّت سفينتك تهيم تائهة، متأرجحة مترنّحة حائرة، إنها ما انفكّت تشقّ عبابَ يمّك المتلاطم، الهَائج، المَائج، تواجهها لجج عالية عاتية، وأمواج هادرة مُزبدة، لقد أمسى صيفك قائظاً مُستعِراً، وخريفك شاحباً مكفهرّاً، وشتاؤك صقيعاً منهمراً، وربيعك مُزهراً مُزدهراً..!

   مصر.. كلمة سحرية سرمدية سديميّة.. كلمة تتفتّق عن أجمل المعاني وأنبلها، تنثال على شفاه ناطقيها في كل حين كقدَرٍ مُشعلٍ أزليٍّ، أو كبريقِ غسَقٍ منبلج بين ثنايا دياجي ليالٍ  بهيمية مدلهمّة، يندّ عنه فجر نورانيّ مشرق مضيء وهّاج قريب.

   على الرّغم من نأي المسافات، وعتيّ الصّحارى العاتية، والقفارالقاحلة، وهوْل التوابع، وتوارد الزوابع، وانهمار البحار والأنهار، وشموخّ الجبال والتلال، وشهق الآكام والمرتفعات، التي تفصل بينك وبين الهائمين بك، وبين خلاّنك وعشاقك، إنّهم جميعاً مدركون لا محالة، أنّه ليس هناك قوّة يمكنها أن تثنيهم مهما كان عتوّها وعنفوانها، وجبروتها عن معاودة اللقاء بك، وتجديد عناقك، هيام متيّميك لا يتغيّر،ولا يتبدّل ولا يفترّ،ولا ينضبّ  بل إنه يزكو ،وينمو ويتكاثر ،ويتزايد يوماً بعد يوم، إنه تيمٌ  لا يطوله البلى، متجدّد كالصّبح الباسم، متفتّح أبداً كيرقات أزهارك وورودك الجورية البلدية الزكيّة، وشذى أكمام شرانق فراشاتك النديّة. وأفئدة المولّهين بك، وبسِحرك، وعِطرك، وجَمالك، وبَهائك كل الألسن  تلهج  أبداً باسمك القاطن في أعطاف القلوب وشغافها، والساكن في كلّ جنان، والسّائر على كلّ لسان.

   على الرّغم من شحط المزارات، وبعد الديار والمسافات، وقيظ الفيافي، والمهامه، والمفاوز، والقفار، أنت يا مصر ملازمة لنا في معايشاتنا، حاضرة معنا في كلّ هنيهات ولحظات عمرنا المنساب، وحاضرنا هذا الكئيب، كهيدب من إهاب، أنتِ ديباجة كلّ بيان، وسحر كل تبيين، وحاضرة أبداً في أعمق أعاميق والوجدان.

   أبا الهول طال عليك العصر/ وبلغت في الأرض أقصى العمر…! يا أبا الهول.. لعلّك  لا تنسى نابليون الذي ارتاع يوماً  لرؤيتك، وأصابه الهلع والرّوع لنظرتك الأبدية المهيبة المحيّرة المخيفة، وملأ الحقدُ قلبَه، ارتاع، وإلتاع لصمودك وشموخك، لعلّك تذكر ولا ريب عندما تطلّع إليك مفتوناً،مذهولاً بما يرى، غاضته ابتسامتك  الأبدية الساخرة،المتهكّمة، المزدرية، المتعالية، فصوّب وسدّد فوهة مدفعه الإفرنجي  إلى وجهك، وحكّ لحاء أرنبة أنفك ولكنه لم ينل حبّة خردل  من أنفتك وكبريائئك وعليائك.

    اسمكِ الجميل يا مصر في التاريخ عتيد عريق، وخصمك في قعر اليمّ مجندل غريق.. كم من رحّالة تغنّى بك وبمآثرك، وافتتن بجمالك، وتغنّى بنيلك، وبمراعيك، وجنانك، ورياضك، وجداولك، وجدائلك، وحدائقك، وبساتنك، وريفك، ونهارك،وسواقيك، ونواعرك، وأمسياتك، وغسقك، وشفقك، وصبحك ولياليك، وببحريْك الناصع االبياض، والقاني الأحمرار، يشقّ نيلك الخالد ثرى أرضكِ المخصاب في انسياب أبديّ سحريّ، أسطوريّ محيّر. وكم من زائرٍ والهٍ بك سحرته مناظرك، وأسرته آثارك، وأذهلته مآثرك، وبهرته أهراماتك، وقاطنوها  الأبديون خوفو، وخفرع، ومنقرع، وكم من زائر مارّ راعه أبو الهول ثابتاً  صارماً لا يتزحزح يتحدى الزّمن  والمكان في صمود وعناد.

   كم من رحّالة انطلق نحوك من هذا الصّقع النائي البعيد المغرب، منذ شيخ الرحّالين ابن بطوطة الطنجي المغربي، إلى آخر مسافرٍ أو زائرٍ وصل لتوّه إلى أرضك الفيحاء من كلّ صوب وحدب، سائراً، ساهراً، طائراً، ومهرولاً، مشتاقاً، ملتاعاً، ليرتمي في حضنك الدافئ الراعي لكلّ وافدٍ عليك.

    هذا نيلك العظيم، من أيِّ عهدٍ في القرىَ يتدفّق؟، كم أقام أجدادك منذ أقدم العصور على جانبيْ ضفافه المبثوثة بالبساط الأخضر، وتألّق تحت سمائه، وانتشرعلى كثبانه، وسهوبه، وسهوله، ونخيله، وهضابه الفيحاء، أمينوفيس، وتوت عنخ آمون، ونفرتيتي، وأخناتون، ومينفيس، وكليوباترة، وحتبشوت، ورمسيس، وسميراميس، وآخرون…

   بعد طول عناء وطول انتظار، بعد أن قلَوْكِ زمناً.. وجرحوكِ أزماناً.. ابتدا مشوارك..مصر التي في أفئدتنا، ووجداننا، كم من قصّة حِكيت، وأسطورة نُسجت، وحكاية صِيغت على وقع خرير مياه نيلك الأبدية، كم من نبيّ وتقيّ ورع نقيّ، وقُطبٍ ربّانيّ مَشَى على ثبجه، وتوضّأ بمائه الطاهر، وكم من مركب من مراكب البّردي وزوارقه، ومن فُلك الآسل مَخرت على صفحته البلّورية، وشقت حيازمُها غمرَ عُباب مياهه المتلألئة، وهي محمّلة بأحقاق الأحلام، والآمال، والأشعار، والأزهار، وقوارير المِسك، والعنبر، والكافور وما طاب واستطاب من خيراته، وثماره، وبهاراته التي بهرت العالم!

من أيّ عهد في القرى تتدفّق/ وبأيّ كفّ في المدائن تغدق

ومن السّماء نزلت أم فجِّرت من/ عليا الجنان جداول تترقـرق..

   مصر التي على كلّ لسان.. مصر التاريخ، مصر الحضارة، مصر المباركة، التي شرّف الله تعالى ذكرها في القرآن الكريم “ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ” أوّل ما يقرؤه الزّائر أو الداخل إلى سُرّة الكون، وكنانة الله في أرضه، عند وصوله إلى قاهرة المعزّ لدين الله.. أمّ المدائن، وسيّدة الحواضر  مدينة القاهرة الغالبة ذات الألف مئذنة.

   مصر التي تبهر الناظر إليها، وتأخذ بمجامع كلّ من رأى آثارها، ومآثرها، وعمرانها، وعمائرها،ومعالمها وبنيانها، وقلاعها، وحصونها، وقصورها، وأقْصُرُها، مهد الحضارة، والعلوم، والفنون، والآداب، والشعر، والألوان، والتصوير، والتنوير، منذ غابر الأزمان..

هذه آثارنا تدلّ علينا / فانظروا بعدنا إلى الآثار!

   مصر الجمال الآسر السّاحر، والحُسن الباهر الظاهر، والتطرية المتجليّة منذ (كليوباترا) الآمرة في العيون النّجل العسلية اللوزية، المسبلة التي تسافر بك إلى آخر الدنيا، وتغوص بك في بحورها، وتنقلك في لمحة من العين إلى عوالمَ سحرية لازوردية نائية ملوّنة حالمة لا تتراءى للنائم سوى في الأحلام…

حُسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ / وفى البداوة حُسنٌ غيرُ مجلوبِ

ما لعيونكِ لا تنامُ / كأنَّ في جفونها كِلامُ (**)

   مصر.. الأزهر الشّريف، مصر التي تتآخى في ربوعها، وأصقاعها، وأرباضها المساجد، والمآذن، والجوامع، والقباب، والكنائس، والبيع، والمعابد، والأضرحة، والقباب، والتكايا، والزّوايا، ويعمرها المؤمنون من كل صوب وحدب، ويؤمّها أولياء الله الصالحين والأقطاب الربّانييّن، مصر السيّد أحمد البدوي، نزيل طنطا، والقادم من حاضرة فاس أمّ الدنيا الأخرى حيث تأوي الشمس إلى مخدعها الأخير، مصر السيّد المُرسي أبو العبّاس، نزيل الإسكندرية  الفيحاء القادم إليها من  مدينة ( مُرسية)  الأندلسية مسقط رأس شيخ المتصوّفة ابن عربي المُرسي.

    مصر… الجَبرتي، ومحمّد عبده، والأفغاني، وقطب، وعبد الرازق، والرّافعي، والبنّا، ومتولّي، وشعراوي…

  مصر الفكر النيّر الخلاّق، والثقافة الرّاقية، والأدب الرّفيع، والشّعر، والسّحر، والسينما، والمسرح والموسقى، والزجل والمواويل، والفنّ الرّفيع، وأعذب الألحان، والعطر العبق الفوّاح.. وعيون بهيّة.. وخلاخل عدويّة.

   مصر.. حافظ، وشوقي، والبارودي، والمنفلوطي، والمازني،والرافعي، والحكيم، ومحفوظ، وطه حسين، والبِّشري، وحقّي، وعبد الصبور، وباكثير، والعقاد، وروز، وميّ، و هدى شعراوي…

  مصر.. ليلى مراد، واسمهان، وأمّ كلثوم، وبديعة مصابني، ومحمّد فوزي، وعبد الوهّاب، ودرويش، وعبد الحليم، وفريد، ومكّاوي، والموجي، والطويل، وبليغ حمدي، والرّيحاني، وأبيض، ووهبي، وشاهين…

  مصر التي تقطن في أعماق قلوبنا .. مصر العمّال الكادحين، والصنّاع العسيفين، والفلاحين البسطاء، الذين يقنعون بالقليل، بناة أعظم حضارة عرفها التاريخ القديم..

“أنا الفلاّح في مِصرَا / أردّ تُرابها تِبرَا “.

   مصر الأنوار والتنوير… الأهرام، والمقطّم، وآخر ساعة، وأخبار اليوم، والجمهورية، والمسا، ودار الهلال، والمعارف، والمصوّر، وروز اليوسف، وحوّاء، والكواكب..

لكلّ زمان مضى آية / وآية ذاك الزّمان الصّحف..!

    مصر التي استقبلت، وكرّمت، ورحّبت، وأحسنت وفادة زعيم  حرب الرّيف التحرّرية الماجدة المشمول برحمة الله تعالى ورضاه محمد عبد الكريم الخطابي وأهله الكرام، في ظروف تاريخية عصيبة على أرضها الطاهرة وهو عائد من منفاه السحيق بجزيرة ريونيون في الأربعينيات من القرن الفارط، وأقام بها معزّزاً، مُكرّماً، مُبجّلاً  إلى أن أسلم الرّوح إلى باريها  بمصر الفئحاء وذلك في السادس من شهر فبراير 1963، ودفن في مقبرة الشهداء بالقاهرة بعد جنازة مهيبة أقامتها السلطات المصرية إبّانئذٍ لهذا الرجل الفذّ العظيم. وقدّمت مصر بذلك مثالاً حيّاً رائعاً فريداً في العالم أجمع لحُسن حفاوة الاستقبال، وسخاء الضيافة، والشجاعة والاستبسال، وتكريم الرّجال.

  مصر.. الجنود البواسل، المدافعون عن أرضها، وثراها، وحوضها، وحوزتها، بالنفس والنفيس، الذائدون عن كلّ شبر من ترابها الذي روته دماء شهدائها الأبرار على امتداد تاريخها الطويل، حتى أصبحت – كما قال قائلهم محقاً صادقاً – إنها  “مقبرة الغزاة”، فمن أراد بها أو لها سوءاً قُبر فيها، ومن أراد لها خيراً كرُّم، وعُزّز، ووضعه  أهلها الطيّبون  في عيونهم وعلى رموشهم!..

وللحرّيّة الحمراء بابٌ / بكلّ يد مضرّجة تدقّ..!

   مصر التي كادت أن تحقق اكتفاءً ذاتياً، وتعمل على إيصال منتوجاتها إلى كلّ بقاع العالم وأصقاعه والتي حققت كانت فيما مضى من الأزمان أن قفزات اقتصادية، وتجارية، وتصنيعية، وسياحية نوعية مهمّة في مختلف القطاعات، المرافق، والمجالات….

  مصر التي كانت، وما زالت تضطلع بدور رياديّ طلائعيّ بارز في منطقتها، وما جاورها، حافظة دوماً للسّلام، وراعية له، ومشيعة للخير والبرّ والبركة والإحسان، والطمأنينة، والأمن، والأمان.

   مصر التي كان  مذياعها الجهوري الصاخب يصدح عالياً  يصمّ الآذان “هنا صوة القاهرة” حتى الأمس القريب كان يُسمع في مختلف وسائل إعلامها المتطوّرة والمتعدّدة قويّاً، مدويّاً في أقصى الدّنى، وعمق المدائن، والحواضر، والقرى، والضّيع، والمداشر، وفى أقصى المناطق، وأصقاع المعمور.. في الغدوّ، وفى الرّواح، وفى الصّبح وفى المساء، وما انفكّت فضائياتها الرائدة تملأ الأجواء الأثيرية البعيدة في المدى اللاّمتناهي النّائي البعيد، تطلّ وتهلّ علينا من خلالها وجوه حسان، وابتسامات نديّة تؤسرنا، وتسحرنا، وتترفّق بنا، وتتدفّق في أعماقنا في رقّة، وعذوبة، وطلاوة، وحلاوة، وغنج ، ودلال.

   مصر المؤمنة الآمنة الحاضرة في كلّ بيت، توصل إليك أذانَ الفجر في مسجد السيّدة زينب، وأذان الظهر من سيّدنا الحسين، وأذان العصر من السيّدة سَكينة، وأذان المغرب من السلطان الحنفي، وأذان العشاء من الإمام الشافعي رضي الله عنهم جميعاً ، وتجعل النّائين ، والمغتربين يعيشون عوائد، وعادات، وتقاليد، وطقوس أمّ الدّنيا، وكأنهم يعيشون فيها…

   مصر المحروسة.. كلمة ذات النبّرة الحلوة الآسرة السّاحرة تدخل القلوب دون استئذان… نار الفتنة ما برحت مختبئة تحت ثفال أتونها، و”الفتنة أشدّ من القتل”، وأحدّ وهي أفتك وأفدح من التنكيل، والتهويل، والتقتيل، إنّها تجتاز اليوم مخاضاً وأزمات إجتماعيىة وإقتصادية وسياسية ومائية  لا بدّ أن تخرج منها منتصرة بسلام.. مرفوعة الرأس ، عالية الهمّة ، أنزل الله تعالى عليها وعلى أهلها الطيّبين دوام السّكينة، والطمأنينة، والألفة، والتآلف، والوئام، والسّلام، والأمن، والأمان، ونشر الله بين سكانها من مختلف الملل والنحل والديانات السماوية  التفاهم، والوئام والتصالح، والتسامح، والتصافح، والتقارب، والتداني، والاستقرار، والتعايش، والعودة إلى سالف عهودها الزّاهرة، وسابق أمجادها الباهرة… فمهما طالت حلكة الليل البهيم لابدّ أن يدركه صبحٌ مشرقٌ باسمٌ  مبتهجٌ وضّاء .. (اشتدّي أزمةٌ تنفرجي/ قد آذن صُبحك بالبلج..)!   

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا