مدارج الأشجان في رواية “الناجون” للزهرة رميج

مدارج الأشجان في رواية “الناجون” للزهرة رميج

 أحمد حبشي

     واكبت الأستاذة الزهرة رميج من خلال أعمالها الروائية، كل التطورات المجتمعية، وما عايشته أو انتهى إلى علمها في بعض تفاصيله. فالحكي في صياغاته مسكون بالكشف عن خلفيات الوقائع، وقوة تأثيرها في المسار المجتمعي العام وما يعكس حقيقة مآلات مختلف الشخصيات المرصودة أو المرتبطة بالسرد في جوهره أو على هامشه.                                                    

وإذا كان المجال لا يتسع لإبراز كل ذلك من خلال التناول بالدراسة كل أعمالها، فإن الوقوف على جوهر ما جاء في روايتها “الناجون” الصادرة ضمن منشورات المدارس طبعة سنة 2022، تبرز جوانب يتمكن القارئ من خلالها استعادة بعض تفاصيل حقبة هامة من تاريخ البلد، ومسارات الفاعلين المباشرين في مختلف المحطات، وعلى الأخص التجربة النضالية للقطاع الطلابي وما عرفته من وقائع وأحداث. فمن خلال تجربة ثلة من المناضلين والمناضلات وما ميز تصوراتهم من اختيارات عقائدية، تقوم على هدم أسس العلاقات المجتمعية القائمة على التمييز وتوسيع الفوارق بين مختلف الفئات. بأفق قلب الأوضاع بتغليب النفع العام على الاحتكار الخاص. 

 عبد العاطي، سامية وحسناء، تقاطعت مساراتهم واختلفت مصائرهم، بعد انخراط شديد الفعالية في حركة طلابية، راهنت بوثوق كبير على قدراتها في تحقيق كل مطالبها القطاعية والمجتمعية.  في عنفوانها انتجت هذه الحركة نخبة بخطاب وممارسة سياسية كان لها وقعها المتميز، في مسار نضال مجتمعي متعدد الواجهات، عرف نجاحا كما رافقته إخفاقات وانتكاسات.                                                                  

عبد العاطي القائد الطلابي البارز يختار الاستقرار في المهجر بعد أن نجا من حملة الاعتقالات التي شملت المناضلين الأكثر تأثيرا في الحركة الطلابية. في المهجر يضع مسافة مع ما كان يعتبره نضالا ثوريا طويل الأمد، يقطع كل وشائج الاتصال مع الوطن الذي كان يحلم بتحريره من براتين الاستبداد وكل شروط الاستغلال، يتخلى عن حبيبته سامية التي ظلت تنتظر عودته بشوق بالغ وايمان مطلق في صدق وعده، بأن لا قوة تقف في سبيل تحقيق ارتباطهما الدائم، والسير معا بنفس ثوري لتحقيق اهداف التحرر والانعتاق.                                                                                              

اعتقلت سامية وتمكن عبد العاطي من مغادرة الوطن واللجوء إلى فرنسا مع مجموعة من المناضلين المطاردين من طرف السلطة بعد أن سجن بعض رفاقهم وتمت إدانتهم بأحكام قاسية.

    انقطعت العلاقة بين سامية وعبد العاطي، بعد أن اختار هذا الأخير الاستقرار في فرنسا والحصول على الجنسية بها. كف عن الرد على رسائلها، وامتنع عن مرافقة العائدين من المهجر في إطار انفراج سياسي عام، تفاعل معه العديد ممن كانوا في حكم المتابعين أو شملتهم أحكام قضائية. كشفت حسناء خيوط الحكاية التي نسجت في حمأة النضال والتمرد على كل القيم والتقاليد المجتمعية، التي تعيق كل ما يفسح المجال للمساواة والتخلص من مجمل التصورات الرامية إلى تكرس دونية المرأة والحد من طموحها في تجاوز منطقة الظل التي تحاصر بها. انتهت حسناء إلى أكثر من خلاصة بعد أن وقفت على حقيقة ما كان يجمع بين صديقتها سامية وعبد العاطي، الذي قابلته لأول مرة صدفة بحديقة بأحد المدن الفرنسية. توالت اللقاءات بينهما، أحست حسناء أن أفقا جديدا يراودها، واستعاد عبد العاطي أوار شوقه لأيامه الخوالي وأطلعها على ما كان يخفيه. صار في الأمر أكثر من حكاية، هكذا تقود الصدفة حسناء إلى أن تصبح طرفا في مسار لم تكن على بينة بما يعتمل فيه، في محاولة لتجاوز انكساراتها بعد أن انقطع حبل الود بينها وبين من اختارته رفيق حياة. كانت قد وسعت من دائرة اهتمامها لتجاوز ما اعتقدت أنها فشلت فيه.        

  اكتشفت حسناء أن فشل علاقتها لا يختلف في شرطه العام عما استفحل في صفوف المناضلات والمناضلين، وأن النفور من إطار العلاقات الزوجية أعمق من أن يجسد في صيغة مكتملة الأركان، أو يخضع لأحكام مسبقة، مهما صدقت النوايا.  ابتعدت قضيتها عن أن تكون حالة لتصير ظاهرة مجتمعية، في وسط أزواج قامت علاقاتهم على قواعد نظرية، تسعى إلى تغيير الأسس والقواعد لانبعاث الإنسان الجديد، القادر على تجاوز كل معيقات تحقيق المساواة ووضع أسس المجتمع المنشود، يسوده التفاهم والعيش الهادئ الجميل.

لقد أخفق الناجون حيث كان الظن سائدا، بأن يتسع تأثيرهم في الممارسة العملية وتحقيق ما يدعونه على أرض الواقع، ولو في حدود العلاقات الأسرية ومحيطها القريب.

كان صراط العابرين إلى العيش المشترك تحت لواء منظومة فكرية تحقق المساواة، وكل ما يقوي الروابط ويعجل بتحقيق الغايات، تحفه المطبات وتسد في وجهه المنافذ. انفصمت عرى وتصدعت علاقات دون الوقوف على مكامن دواعي استحالة ضبط الروابط الإنسانية، القائمة على المشاعر والرغبات الذاتية التي لا تتحقق بالتوجيه والإرشاد. أنها الحياة الحافلة بأهوال الاختلاف تعاش وفق خصوصية الأفراد على تدبير المشترك. يستعيد عبد العاطي روابطه بتاريخه الخاص، يلتقي سامية كرفيقة في إطار لمة جمعت ثلة من المناضلين والمناضلات، استحضارا لفورة الشعور بالانتماء لحركية نضالية سعت للنهوض بالوطن والرقي بطموحاته، يعود محملا بمشاريع اقتصادية، وسيلة تقوده للانخراط من موقع آخر في تطوير الحركية المجتمعية وتقوي أواصر الارتباط بمساره كمناضل من زاوية رجل أعمال ظل الوطن يسكن وجدانه ويأمل في تطوره وازدهاره.

هي وقائع معاشة بصيغ مختلفة كتجليات لتجربة نضالية اتسع تأثيرها في مجالات متعددة، وظل مفعول تأثيرها عميقا في وجدان كل من انخرط إلى هذا الحد أو ذاك في صياغة فعلها المتجدد وماضيها المشترك.       

Visited 35 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

أحمد حبشي

فاعل جمعوي وناشط سياسي