عيد ميلاد “ابو عوف ” عبد الرحمن منيف: خرج من رحم الهزيمة…

عيد ميلاد  “ابو  عوف ” عبد الرحمن منيف: خرج من رحم الهزيمة…

جورج الراسي

        “ابو عوف”… اسم الدلع.. أو هكذا كنا نناديهإنسان لا ينتسى… وروائي لا يموت

أعرف أن اليوم  29 أيار- مايو هو عيد مولده… عيد مولد عبد الرحمن الإنسان.. أما عبد الرحمن الروائي فله عيد ميلاد آخر دعه هو يحدثنا عنه:

 ”  لا أذيع سرا إذا قلت إن هزيمة 1967 هي التي جعلتني أتوجه للرواية، ليس كوسيلة للهروب، وإنما كوسيلة للمواجهة. فقد كان للهزيمة تأثير في روحي لا يمكن أن أنساه. عالم عربي بهذا الاتساع وبهذه الإمكانيات، وأيضا بهذا الكم الهائل من الشعارات، يتساقط ويهوي. قلت لنفسي هناك خلل كبير في الحياة العربية، ولا بد من اكتشاف هذا الخلل، وفضحه أيضا. وربما تكون الوسيلة الأساسية الرواية، واعتبرتها طريقي في الوصول إلى ما أريد….

 الرواية بالنسبة إلي هي عالمي والرئة التي أتنفس بها، ووسيلتي في مخاطبة الآخرين.

 “وربما كان صحيحا أنها هي التي اختارتني لا العكس. والآن، وبعد أن أصبحت هي كل شيء لي بدأت أكتشف فيها جوانب كثيرة وخطيرة شديدة التأثير، ويمكن أن تساهم في تغيير معالم الحياة التي نعيشها لأنها تمثل الرؤية الشاملة، الكشف الجارح، للخيبات الكبرى، للتحريض العميق… وبالتالي فإنها تهيئ إمكانية لعملية التغيير تفوق إمكانية وسائل التغيير الأخرى…”..

هذا هو فعل إيمانه الأول.

ابن العروبة… مولدا  ومسارا

   لقد اجتمعت في شخصية “ابو عوف” مذاقات الشخصية العربية بكل تلاوينها. عبد الرحمن ابراهيم  منيف، من أب سعودي، من منطقة القصيم، وسط المملكة، درس في الأردن حتى البكالوريا. وانتقل إلى بغداد لدراسة الحقوق عام 1952. وما لبث أن خطا أولى خطواته في مجال العمل السياسي بإنخراطه في حزب البعث المؤسس حديثا. وفي عام 1955 خرج يتظاهر مع رفاقه ضد  “حلف بغداد”، فتسبب ذلك بطرده من العراق. ذهب إلى قاهرة جمال عبد الناصر في أوج العدوان الثلاثي على مصر وصعود القومية العربية. وما لبث عام 1958، عام الوحدة  السورية- المصرية، أن انتقل إلى بلغراد، عاصمة يوغسلافيا جوزيف بروز تيتو ، حيث حصل عام 1961 على دكتوراه في اقتصاديات النفط ..

   ظل منضويا في صفوف حزب البعث حتى عام  1962، حين بدأت الصراعات الداخلية تعصف به. 

   وفي عام 1963 أسقطت الجنسية السعودية عنه لانتقاده النظام وانخراطه في مسار سياسي “مشاغب”

   عاد بعد ذلك إلى سورية وانخرط في تحضيرات صناعة النفط الناشئة حديثا. وفي عام 1973 حط الرحال في بيروت ليبدأ مساره الجديد.

 الباءات الثلاث: بيروت – بغداد- باريس

   بدأت معرفتي “بأبي عوف” في بيروت. فكان من الطبيعي أن تكون وجهته الأولى  مجلة “البلاغ”، التي كانت قد صدرت قبل عام وحققت نجاحا منقطع النظير،  بصفتها  صوت الجيل العربي الجديد الرافض للهزيمة، والباحث عن منطلقات جديدة في الفكر والسياسة… والأدب.. فبدأ يكتب معنا في المجلة تأملات أسبوعية لاقت تحببا عند  القراء الشباب، بصفتها محاولات للخروج من قعر الهزيمة، ولالتقاط خيوط فجر جديدومن عايشونا في تلك المرحلة يذكرون ضحكة  “أبو عوف” التي كانت  تنفجر من وقت لآخر لتملأ المكان فرحا وحيوية

لكن الفرحة لم تدم طويلا… فالوحوش كانوا بالمرصاد ليفجروا البلد عام 1975… وكان جليا يوما بعد يوم أن الأمور لا يمكن أن تدوم… وكان عليك أن تختار: إما أن تكون بين القاتلين أو تكون في عداد المقتولين

عبد الرحمن وأنا وأصدقاء كثر آخرين رفضوا الخيارين واختاروا طريقا ثالثا: الرحيل… هو غادر إلى بغداد.. وأنا ذهبت إلى باريس

 في الباء الثانية – بغداد – استعاد “ابو عوف” نشاطه “البترولي” وتولى رئاسة تحرير مجلة شهرية تعنى بشؤون النفط  عنوانها: النفط و التنمية “. وكتب لي إلى باريس لكي أساهم في تحريرها. ورغم أنني كنت أحمل في جعبتي شهادة جامعية من “جامعة القديس يوسف” في العلوم الاقتصادية، إلا ان هذا النشاط  لم يكن يستهويني… لكن طلب عبد الرحمن لا يمكن أن يرد… فساهمت بالفعل بتحرير المجلة  بعض الوقت… حتى عام 1981

 باء باريس … و”الحوار“...

   تلك السنة 1981 كانت مفصلية بالنسبة لنا. عبد الرحمن بقي فيها خمس سنوات. أما أنا فإلى أجل غير مسمى.. وكانت تلك السنة التي وصل فيها فرانسوا ميتران والحزب الاشتراكي إلى السلطة… وبالتالي فقد كانت تعج بنشاط سياسي وفكري غير عادي، زادته حماوة ظهور المقاومة الفلسطينية في قلب الأحداث

 أطرف ما أذكره في زيارة عبد الرحمن الأولى إلى باريس أنني تركت له “شقتي” لينزل فيها

 “شقتي” تلك  كانت في الواقع  “ستوديو” صغير  يقع قرب محطة مترو  Passy  في الدائرة السادسة عشرة.. وهو بالكاد يتسع لفرشة مطروحة أرضا… يعني عليك أن تقفز إلى “الفرشة” بمجرد أن تفتح الباب… أطرف من ذلك أن كثيرين من الأصدقاء الذين توافدوا على باريس في تلك الفترة تناوبوا على تلك الفرشة، أذكر من بينهم محمود أمين العالم… ورفاق آخرين

لكن الحرية لا تقدر بثمن

   مطلع الثمانينات  أصابتني لوثة فقررت أن أعمل على تأسيس مركز إعلامي عربي، يصدر منشورات تعرف بالعالم العربي باللغات الأجنبية،  وألحقته بإصدار دورية عربية تحمل عنوان “الحوا ر“.

كان عبد الرحمن متحمسا للفكرة. فما أن صدر العدد “صفر ” حتى عاجلني بقراءة نقدية عرمرمية  لم تبق ولم تذر

وعندما بدأنا بإعداد العدد الأول عاجلني  بمقالة رائعة تحت باب دشنه هو نفسه وأطلق عليه  اسم  “من سفر  البلاء”… حملت المقالة عنوان “العلوم الجوهرية  لمعرفة مستقبل البشرية”…  يتحدث فيها عن دور المنجمين في الحياة العربية !!

الأجواء التي كانت تحيط بعبد الرحمن في تلك السنوات كانت تتراوح بين الخبير النفطي السعودي “الطليعي” في تلك المرحلة عبد الله الطريقي، والروائي العراقي الذي ربطته به صداقة قوية جبرا ابراهيم جبرا، حتى أنهما أصدرا رواية مشتركة  “عالم بدون خرائط” عام 1982، والفنان السوري مروان قصاب باشي

  شرق المتوسط

   إذا كان الروائي هو روائي الرواية الواحدة، فقطعا إن عبد الرحمن منيف هو روائي “شرق المتوسط “، تلك الرواية التي تختزل عذابات ونضالات وخيبات جيل كامل

تتحدث الرواية عن الاعتفال السياسي… وقد سأله احد الصحفيين حينها: هل قرأ حاكم أو سلطان عربي شيئا من أعمالك؟ فكان جوابه:

– “عندما قرأ قيصر روسيا رواية دوستويفسكي “ذكريات من بيوت الموتى” أخذ يبكي، وأمر بإيقاف الجلد الذي كان سائدا آنذاك في السجون  الروسية..

أنا لا أطمح ولا أتوقع أن يصل الحكام العرب إلى هذا المستوى، لكني مطالب بإيصال هذه الرسالة…”.

لقد اكتشفها جيل الشباب في ثمانينيات القرن الماضي

ثم تلتها “أرض السواد”، الثلاثية العراقية المهداة لنورية التي أرضعته حب العراق

كان العراق عشقنا الكبير في تلك السنوات.. دجلة والنخيل وأبو نواس والجالغي البغدادي وشط العرب و”المسقوف”… و”مالي شغل في السوق رايح اشوفك “….

عالم خرافي لا يمكن أن يضيع… و لا أن ينتسى

توالت أعمال منيف بعد ذلك: خماسية مدن الملح التي أهداها إلى أخيه علي الذي رحل باكرا… و”الأشجار واغتيال مرزوق “…

في عام  1986 استقر عبد الرحمن أخيرا في دمشق حيث أسلم الروح في 24  كانون  الثاني  – يناير  من عام 2004  عن سبعين عاما

ستصل رسالتك ابو عوف عاجلا أم آجلا….. 

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني