في الذّكرى الخامسة والتسعين لميلاد أيقونة الثوّار إيرْنِيسْتُو تشِي ِجيفَارَا

في الذّكرى الخامسة والتسعين لميلاد أيقونة الثوّار إيرْنِيسْتُو تشِي ِجيفَارَا

ما زال صِيْتُه وصَوْتُه يَملآن أسْمَاعَ الكَادِحِين والعُسَفَاء

د.محمّد محمّد خطّابي

     المحارب الأرجنتيني الأسطوري إيرنيستو تشي جيفارا، المولود في روساريو بالأرجنتين في 14 يونيو1928، لقي في مصرعه في الأدغال البوليفية في التاسع من شهر أكتوبر1967، على يد الجنود البوليفييّن بعد أن ألقي عليه القبض في هذا التاريخ، وبعد أن  نصب له كمين فجرحوه، وأسروه، ثمّ أردوه قتيلاً. مجندلاً بتعاون مع الجيش البوليفي، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA). مات جيفارا وهو يُصدّر لمختلف مناطق العالم المقهورة -حسب ما كان يعتقده – ثورة عارمة على الظلم،والقهر، والتعَنت، والتفاوت بين الطبقات الاجتماعية بين الناس. ولقد غدا هذا الرّجل في عُرف الكثيرين رمزاً للكفاح، وأيقونة التمردّ، والانتفاض في وجه الظلم، والتظلّم في مختلف أنحاء المعمور، كان مقتنعاً بضرورة نقل الكفاح المسلّح إلى مختلف مناطق وأصقاع العالم الثالث، ولهذا أسّس جماعات، وخلق حركات عصيان ، وزرع بؤرَ حرب العصابات أو ما يعرف في اللغة الاسبانية بـ”La Guerrilla”، التي كان قد سنّها الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطّابي رحمه الله في حرب الرّيف التحرّريّة الماجدة ضدّ الإسبان، والتي انتشرت في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وإفريقيا، وآسيا، وفي مناطق أخرى من العالم.

لجيفارا صفتان متناقضتان

     أُلْحِقَتْ بشخصية جيفارا صفتان تقومان على طرفيْ نقيض ،وخَلَقَتْ لدى الرأي العام العالمي إتجاهين إثنين متباينين من التفكير ، فأصبح لدى الكثيرين رمزاً للثورة، والتمرّد فى مختلف أرجاء المعمورضد الظلم، والتفاوت الطبقي، والاجتماعي وأصبح إسمه يُقرن بالطبقات الكادحة، والفئات المقهورة والعسيفة، فى حين يعتبره آخرون مُجِرمَ حرب، تقع على عاتقة تهمة إقترافه للعديد من عمليات التقتيل الجماعي فى مختلف البلدان، وعلى وجه الخصوص فى أمريكا الجنوبية، وفى بعض البلدان الإفرقية. ولقد أصبحتْ صورتُه الشهيرة بقبّعته البيريه وهو يدخن السيجار الكوبي الشهير التي كان قد اِلتقطها له المصوّر” ألْبِرْتُو كُورْدَا ” والتي تعتبرواحدةً من الصّور الأكثر شهرة  واِستنساخا، واِنتشارا في العالم، حيث استعملت هذه الصورة فى العديد من التجمّعات والتظاهرات والمسيرات، والاحتجاجات السياسية، والنقابية والعمّالية  والاجتماعية، وسواها، كما أنها استغلّت من جهة أخرى فى عالم الإشهار، والدعايات، والإعلانات، وغدت تبعاً لذلك واحدةً من أشهر رموز الحركات المتمرّدة  فى العالم.

شغفه بالفكر الفلسفي وهوَسُه بالقراءة

     كان جيفارا شديدَ العناية بالتحصيل والاطّلاع، ويولي إهتماماً خاصاً للقراءة، والمطالعة، وكان قد نشر مقالات ودراسات وتعاليق حول مختلف الكتب والمؤلّفات التي قرأها قبل رحيله، مثل تعاليقه على الكتب التي كان قد قرأها فى إفرقيا، وبراغ، وبوليفيا ما بين 1965 و1967.وكان غيفارا قد أطلق على هذه الكتابات “قراءات الشباب” التي يعالج فيها مطالعاته الأولى المبكّرة من عمره القصير.

   ويشير الباحث ”مَاوْريسْيو بيسينت”: ”أنّ الذي يثير الانتباه فى هذا الخصوص هو مدى إهتمامات غيفارا الواسعة والمتشعّبة، والعدد الهائل من الكتّاب، والمؤلفين الذين قرأ لهم فى هاتين السنتين والنصف. فإلى جانب البندقية –عندما كان فى الكونغو- كان يحمل أجندةً صغيرةً يسجّل فيها عناوين، وبعض ملخّصات جميع الكتب التي قرأها، والتعاليق التي دوّنها بشأنها، منها الأعمالَ الكاملة لـ:”لينين”، وتاريخ العصور الوسطى لـ:”كُوسمسنسكي”، ثم المجلد الرابع من الأعمال المختارة لـ:”ماو تسي تونغ”، والأعمال الكاملة للشاعر الكوبي الكبير خوسّيه مارتي، وأوْرُورا رُوخا، وبيّو باروخا، وكتابي”الإلياذة” والأوديسة لهوميروس”، ومسرحية “ليلة القتلة” للكاتب الدرامي الكوبي “خوسّيه تريانا”.

   يبدو غيفارا فى هذه المذكّرات، أو الخواطر، أو الملاحظات التي خلّفها لنا وكأنّه قد أشهر الحربَ ضد التحجّر، والجمود إننا نجده بعد قراءته لكتاب “نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية”. لإيرنيستو تشي جيفارا كتاب شهير يحمل عنوان”ملاحظات فلسفية”. وهي عبارة عن مخطوطات ومذكرات ومراسلات، وخواطر  وآراء وأفكار، وتعاليق، وحواش فلسفية، وتأمّلات نظرية قامت بجمعها، وتصنيفها الباحثة الجامعية الكوبية ”ماريا ديل الكارمن أرييت” وكان قد كتب مقدّمتها المؤرّخ الكوبي فيرناندو مارتينيس إيريديا، يعالج غيفارا فى هذه الملاحظات، والخواطر العديدَ من القضايا والمواضيع الهامّة التي كانت تستأثر بإهتمامه، وتُشغل باله فى تلك المرحلة المبكّرة من عمره، وفي طليعتها الفلسفة الماركسية حيث كان يقوم فى كلّ مناسبة، أو كلّما سنحت له ذلك الظروف بقراءة، وتحليل، وتمحيص، وإنتقاد أعمال المفكرين الكلاسكيين من الماركسييّن واللينينيين، كما كان يُعنى كذلك ببعض مؤلفات الكتّاب والمفكرين الذين كان تشي جيفارا يعتبرهم إشتراكيين هراطقة، أومارقين ، أو رجعيّين .

   كان جيفارا قد وجّه عام 1965 رسالةً شهيرةً إلى الزعيم الكوبي التاريخي ” أَرْمَانْدُو إنْرِيكِي هَارْتْ ” الذي كان يترقّب وصول تشي غيفارا فى ” تنزانيا ” بعد فشل الثورة فى الكونغو. وبعد أن دخل الثائر الأرجنتيني خلسةً إلى بوليفيا كتب فى ذلك الإبّان يقول: ”لقد حشرتُ أنفي- بعد هذه الفترة الطويلة من الإجازات- فى عالم الفلسفة، الشئ الذي كنت أنوى القيام به منذ مدّة بعيدة ، وكان العائق الأوّل الذي يواجهني فى هذا الصدد هو أنه فى كوبا لم يُنشر شئ يُذكر، أو ذات أهمية حول هذا الموضوع، بإستثناء بعض المراجع السّوفياتية التي لا تشجّع، ولا تمنح، أو تُفسح مجالاً للتفكير والتأمّل، ذلك أنّ “الحزبّ الشيوعي كان قد ناب عنك فى ذلك، وأنت ما عليك سوى الإذعان والانصياع “. ويضيف جيفارا بلغة مبطّنة بغير قليل من السخرية قائلًا :” كمذهب يبدو فى الظاهر وكأنّه مناهض ومضادّ للماريكسية، وأكثر من ذلك فإنهم فى كثير من الأحيان يسبّبون لك الأذىَ، والمتاعبَ، والضررَ، والمضايقات “. أما العرقلة الثانية التي واجهت جيفارا- ” فهي ليست أقلّ أهميّةً من سابقتها، إنها عدم معرفته للّغة الفلسفية ، لقد تصارع جيفارا بكلّ ما أوتي من قوّة وضراوة مع المُعلّم “هيغل” ولكنّه لم يُمهله طويلاً، إذ فى الجولة الأولى من هذه المصارعة الفكرية أوقعه وطرحه الأرض.

الكلمة والسلاح: أداتان للنصر

   يقول الباحث “نيستور كُوهَان” :”غيفارا فى خواطره وكتاباته يؤمن بالإنسان الجديد، كما أنه لا يرفض كلّ ما هو رأسمالي، إننا أمام رجل يمارس الماركسية، وهو يصارع من أجل تحرير وفكّ الإشتراكية من قيودها المذهبية الجامدة، كما أنه واجه بقوّة الميولات والإتجاهات البيروقراطية التي تعمل على تجميد الثورة وتكبيلها، وتقليصها فى بلد واحد وحبسها بين الدهاليز والممرّات الوزارية، وكان يومئ بذلك عن عدم قبوله بشكل كلّي للنموذج السّوفياتي آنذاك.

   كتابات غيفارا تقرّبنا من حياته الخاصّة، ومن أعماله الأولى، وإهتماماته المبكّرة .وتشير الباحثة الكوبية “ماريا ديل الكارمن أرييت”: ”قراءات ثم كتابات إرنيستو تشي جيفارا جاءت لتملأ فراغا حول كلّ ما كناّ نعرفه عن الفكر الفلسفي عنده، وصلته أوعلاقته بالماركسة” وتضيف الباحثة أنّ هذه النصوص تعرّفنا عن مختلف مراحل حياة إيرنيستو جيفارا بدءاً بمرحلة المراهقة عنده، وشرَخ شبابه الأوّل، ثم دراساته للأعمال النظرية التي طفق الخوضَ فيها بعد وصوله إلى بوليفيا”. لقد كان إيرنيستو تشي غيفارا يحمل فى يدٍ البندقيةَ (السلاح)، ويحمل فى اليد الأخرى القلمَ (الكلمة)، حيث كان يعتبر هاتين العنصرين أداتين أساستين للنّصرعنده ،وكانت إهتماماته الثورية تتوازَى مع تطلّعاته وانشغالاته الفكرية.

   إيرنيستو تشي غيفارا كان معروفاً فى العالم أجمع باسمه المختصر ”تْشِي”، أتمّ دراسةَ الطبّ عام 1953 ثمّ سخّر حياته وأوقفها على الثورة الكوبية وذلك منذ أن انخرط فى المكسيك ضمن البعثة الثورية المسمّاة ”يَاتيِ غْرَانْما”التي حرّكت وحفزت عام 1956 الكفاحَ النهائي من أجل التحرير الوطني لجزير كوبا. وفي عام 1997 تمّ العثور على رفاته الذي تمّ نقله إلى كوبا، حيث دُفن بكلّ المراسيم الشرفية المَهيبة فى ضريح “سانتا كلارا ” بهذه الجزيرة الكاريبية الصّاخبة.

الاستخبارات المركزية الأمريكية تدخل على الخط

   وكانت جريدة “صحافيّون في اللغة الإسبانية” (Periodistas en Español) قد نشرت استجواباً مثيراً للصّحافية، الأرجنتينية “أدريانا بيانكو”، مع أحد المشاركين، إلى جانب الجنود البوليفييّن  الذين شاركوا في تصفية جيفارا وهو أحد رجال وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية السّابق، المواطن الكوبي فيليكس رودريغيس، حكت لنا أدريانا بيانكو، في سرد مثير، نهاية حياة جيفارا على لسان واحد من أشدّ المعارضين لفيديل كاسترو ، والذي كانت الحكومة الأمريكية قد أوفدته في مهام سرية خلال الغزو الأمريكي لخليج الخنازير بكوبا عام 1961، كما أُرْسِل إلى بوليفيا ليساهم في إلقاء القبض على تشي غيفارا. كان فيليكس رودريغيس آخر إنسان استجوب غيفارا، وكان بجانبه لحظة مصرعه، وهو أوّل من تحدّث عن هذا الموضوع اليوم، انطلاقا من منظور تاريخي واقعي، وأفصح لنا عمّا دار بينه وبين هذا المتمرّد الاسطوري.

   يحكي لنا رودريغيس أنه عام 1967 جاءه موظف سامٍ في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية من ميامي ليختار اثنين من الكوبيين للذهاب في مهمة سريّة إلى بوليفيا لإلقاء القبض على غيفارا، فوقع الاختيار عليه وعلى زميل له، فشدّا الرّحال معا إلى بوليفيا، التي كان بها بعض المواطنين الكوبيين، الذين يعملون مساعدين لوزير الداخلية البوليفي وجهاز المخابرات البوليفية. وعلى إثر وصولهما انطلقا في العمل على الفور، إلى جانب القوات المسلّحة البوليفية، وطفقا يجمعان المعلومات من الأسرى الذين كانوا مُوالين لجيفارا الذين قدّموا لهم معلومات دقيقةعن تحرّك تشي جيفارا في الأراضي البوليفية.

   وقال رودريغيس إنهم “في بداية الأمر لم يكونوا يعرفون بعد بالضبط مكان تواجد غيفارا في السابع من أكتوبر، أي قبل يوم واحد من وقوعه في الكمين، إذ عند صبيحة 8 أكتوبر بدأت المعركة حوالي الحادية عشرة صباحاً، جرح على إثرها تشي في قدمه اليمنى، وعلمنا أن مواطناً بوليفيا كان يساعده على الفرار من الكمين الذي نصب له، وعندما دنونا منه صاح تشي بصوتٍ عالٍ: لا تطلقوا النار إنني تشي غيفارا أساوي حيّاً أكثر ممّا أساويه ميّتاً”. في تلك اللحظة تمّ إلقاء القبض عليه، أما باقي المحاربين الذين كانوا معه فسقطوا في تلك المواجهة، ونقل تشي إلى مكان يُسمّى “هيغيرا”. ويحكي رودريغيس: “وصلتنا كلمة السرّ، وهي (الوالد مُتعب)، التي كان مفادها أنّ تشي غيفارا قائد المحاربين وقع في الأسر، وهو جريح وحيّ”.

   ويقول رودريغيس: “عمل البوليفيون في البداية على الحصول على جميع الوثائق التي كانت بحوزة تشي جيفارا، أما أنا فقد طلبت من العقيد البوليفي سينتيرو أن أرافقه في اليوم التالي عند ذهابه لرؤية تشي، والتحقيق معه، وعندما استشار رؤساءه، وافقوا على مرافقتي له لعدة اعتبارات، منها معرفته بالمساعدة الثمينة التي قدمتها لهم، وماذا كان يعني ذلك بالنسبة إلي على اعتبار الضّرر الجسيم الذي سببه هذا الشخص (تشي) لبلدي، فوافقوا جميعهم على ذلك على الفور”. ويضيف رودريغيس: “انطلقت بنا الطائرة الصغيرة، التي لا تسع سوى لربّان الطائرة ولشخصين إضافيين فقط، وحطّت بنا في  منطقة “هيغيرا”، حيث يوجد تشي أسيراً”، مشيرا إلى أنهم عندما دخلوا إلى المدرسة الصغيرة المتهالكة، التي كان قد نقل إليها تشي أسيراً، “وجدوه موثقاً من قدميْه ويديْه، وهو ملقىً ومُسجًّى على الأرض بجانب مدخل الغرفة تحت نافذة صغيرة، ووضعوا أمامه جثتين عائدتين لمحاربين كوبيين كانوا رفقته”.وأضاف أن العقيد البوليفي سينتيرو قال لتشي جيفارا، الذي كان ينظر إليه بإمعان: “أنت أجنبي، وقد هجمتَ على بلادي، أجبني”. إلاّ أنّ تشي لم ينبس ببنت شفة، ولم يجب العقيد. وعندما خرجا من الغرفة طلب رودريغيس من الكولونيل أن يسلّمه الوثائق التي كانت مع جيفارا ليصوّرها للحكومة الأمريكية، فأمر أحد أعوانه بمنحه الوثائق، التي كانت ضمنها محفظة كبيرة ، تفتح من أعلى إلى أسفل. ويخبرنا رودريغيس أنه كان بداخل المحفظة دفتر مذكرات، كان قد اشتراه تشي من ألمانيا، كان مكتوباً باللغة الإسبانية. كما كانت بداخل المحفظة صور لعائلته، وبعض الكتيّبات الصغيرة لتشفير المراسلات التي كانت تُستعمل، قبل أن يتمّ حرقها، وقد كانت لديه الكثير منها، بعضها كان أحمر اللون، والبعض الآخر كان أسود، كانت مجموعة منها للاستقبال، وأخرى للإرسال.وكانت بالمحفظة أيضا بعض الأدوية لمعالجة داء الرّبو. ويشير رودريغيس إلى أنه بعد أن قام بتصوير تلك الوثائق دخل إلى الغرفة التي كان بها تشي، وقال له: لقد جئت لأتحدّث معك. عندئذ نظر إليه تشي شزراً، وقال له: أنا لا يستجوبني أحد. فقال له: كوماندانتي، أنا لم آتِ لأستجوبك، بل جئت لأتحدّث معك، حتى وإن كانت أفكارك تختلف عن أفكاري التي أظنها خاطئة، مع ذلك فأنا من المعجبين بك. فنظر إليه تشي، وعندما وجده جاداً في كلامه، قال له: هل يمكنك أن تجعلني أجلس قليلاً؟ هل يمكنك أن تفكّ وثاقي؟، فنادى رودريغيس عسكريا وأمره بأن يفكّ وثاقه، وجعله يجلس على كرسي مستطيل كان بالغرفة، وصار الرّجلان يتبادلان أطراف الحديث عن تحركات تشي جيفارا في بعض بلدان أمريكا اللاتينية وإفرقيا، ولكن تشي كان يتحدّث بتحفظ شديد لأن مثل هذه الأمور كانت ذات حساسية مفرطة بالنسبة إليه، وبالنسبة إلى المهام التي أنيطت به.

   كان العميل فيليكس رودريغيس قد تلقى تعليمات محدّدة في حال وقوع تشي في الأسر، لذلك بذل قصارى جهده لإنقاذ حياته وإحضاره إلى الولايات المتحدة الأمريكية لاستجوابه. وقد حاول رودريغيس بالفعل إنقاذ حياة غيفارا، حسب تصريحاته، حيث طلب ذلك من العقيد الذي كان برفقته، إلاّ أنّ الرئيس البوليفي كان له رأي آخر، هو تصفية غيفارا.

كُنْ هادئاً، إنّك ستقتل رجلاً!

   كانت الرسالة التي وصلت واضحة ، أيّ غيفارا ميّت، وكان أمراً نهائياً لا رجعة فيه. عندئذ اتصل رودريغيس على الفور بالعقيد سينتيرو، وأخبره بأنّ التعليمات وصلت من حكومته لقتل غيفارا، فيما كانت تعليمات الولايات المتحدة الأمريكية هي إبقاؤه على قيد الحياة لاستجوابه، وقال له: لدينا طائرات مروحية لنذهب به إلى بنما لاستجوابه. فأجابه العقيد سينتيرو: لقد عملنا جنباً إلى جنب، ونشكر لك مساعدتك كثيراً، ولكنّها تعليمات السيّد الرئيس، القائد الأعلى للقوّات المسلّحة. إنني أعرف جيداً الضّرر الذي ألحقه تشي ببلادك، وأريد أن تعطيني كلمة الرّجال، في الساعة الثانية ظهراً أريدك أن تسلّمني جثّة تشي غيفارا. فأجابه رودريغيس قائلاً: لقد حاولتُ إقناعكم، ولكن إذا لم تكن هناك تعليمات جديدة، فأنأ أعدك بتسليمك جثة تشي.ويشير رودريغيس إلى أنه قبل ذلك التقطت له صور مع تشي غيفارا وبعض الجنود البوليفيين، وكان رودريغيس قبل ذلك يداعب تشي ويمازحه وهو يقول له – كما يُقال للأطفال الصغار- عندما كانت تلتقط لهم صور تذكارية: تشي اُنظر إلى العصفور الصغير..!. وأضاف “في البداية كان تشي يبتسم قليلاً، ولكن عندما التقطت الصّور لنا أصبح وجهه واجماً مُمتعضاً”. ويحكي رودريغيس أنه في الوقت الذي كان يتمّ التقاط الصّور حضرت سيدة وبيدها راديو ترانزيستور محمول، وكانت الأخبار تنطلق منه وتقول إنّ تشي غيفارا قد توفّي متأثّراً بجراحه خلال المعركة..!

   ويشير رودريغيس إلى أنه عندما سمع ذلك قال في نفسه: “يبدو أنّه ليس لدينا ما نفعله الآن، عندئذ دخلنا إلى المدرسة وقلت لغيفارا: كوماندانتي أنا جدّ متأسّف، لقد فعلت كلّ ما في وسعي لإنقاذك، ولكن التعليمات جاءت من أعلى”. ويضيف رودريغيس قائلاً: “تغيّر وجه تشي وامتقع واعتلاه لون أبيض مثل الورق عندما سمع ذلك وتيقّن أنّ ساعته قد أزفت، إذ فهم كلّ شيء”، فقال له تشي بكل جرأة: هكذا أحسن، فأنا ما كان عليّ أن أقع حيّاً أسيراً بين أيديكم. وقال لرودريغيس: أريد أن أسلّم هذا الغليون لأحد الجنود البوليفيين الذي عاملني بكرامة. فسلّمه إيّاه، وطلب منه أن يبلغ رسالة إلى فيديل كاسترو، وأن يقول له: قريباً سيرى ثورة منتصرة في أمريكا. كما طلب منه أن يُبلغ زوجته بأن تتزوّج من جديد، وأن تكون سعيدة. كما قال لـ”العشماوي”، الذي أطلق عليه النار فيما بعد  كلمته الشهيرة: كن هادئاً، إنّك ستقتل رجلاً…وتلك كانت آخر كلمات فاه بها تشي غيفارا، بعد أن سلّم على رودريغيس وعانقه، وكان يظنّ أنه هو الذي سيطلق النارَ عليه وبعد دقائق سُمع صوت انفجار مكتوم. وأضاف “ثمّ حضر القبطان سيلسو توريليُو، الذي سيصبح فيما بعد رئيساً لبوليفيا ودخلنا الغرفة. كان سيلسو يحمل في يده عصى، أتذكر أنه نظر بإمعان إلى تشي ووضع بها علامة الصّليب على وجهه، وقال: هب! لقد قتلتَ لي الكثيرَ من الجنود. عندئذ نطق أحد الحاضرين من الضبّاط وقال: بموت جيفارا قضينا على حرب العصابات في أمريكا اللاّتينية.

Visited 20 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا