شعبوية بوربوك .. وأثمان المستقبل
د.خالد العزي
لم تستطع أنالينا بوربوك، وزيرة الخارجية الاتحادية لجمهورية ألمانيا الاتحادية تفويت فرصة ذكرى السنوية الخامسة والعشرين للمحكمة الجنائية الدولية لتقدم صورة عن بلدها، إذ قالت في حفل أقيم في نيويورك للمناسبة، إنه “لا ينبغي لأحد أن يكون قادرًا على شن حرب عدوانية والإفلات من العقاب في القرن الحادي والعشرين”. وتشير إلى أن أي جرائم جديدة يجب أن تخضع لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وهي هنا قصدت الرئيس الروسي.
وزيرة الخارجية الألمانية تفرض فهمها للعالم الحديث على الأمم المتحدة، حيث يمكن فهم السياسة الألمانية. فالتصنيفات هذه تحدد مستقبل أي سياسي في ألمانيا، إذ يدرك الخلفية العامة لأي موقف، ومنها استياء الناخبين من أنشطة حزب الاتحاد الأخضر الذي تمثله بوربوك.
وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، فهو في المركز الراب ، خلف حزب البديل لألمانيا والحزب الديمقراطي الاشتراكي، ويمكن لأي مبادرة ان تحدث تقدم طفيف. بالعودة إلى عام 2022، كانت بوربوك في الصدارة تلقى تعاطفا من الناخبين، وقد ترددت شائعات في وسائل الإعلام أنها تترأس قائمة المرشحين لمنصب المستشار من حزب الخضر في الانتخابات المقبلة العام 2025.
اذن من الواضح أنها كانت تنفذ الاتجاه الرئيسي للسياسة الخارجية الألمانية التي صاغتها بنفسها، والتي تبدو في جوهرها محاولة لعزل القيادة الروسية ودفع المانيا للسير بدعم اوكرانيا وحماية الدول الشرقية من الاخطار الروسية
يمكن القول إن جوهر استراتيجية الأمن القومي الجديدة لألمانيا هو التعاون عبر الأطلسي ولعب دور نافذ في داخل دول الكتلة الشرقية. ويتم تفسير قضية الأمن الأوروبي على أنها أمن من روسيا، وليس مع روسيا. ويفرض هذا التشديد على المواجهة على السياسة الخارجية الألمانية ظلًا حاولت جميع الحكومات الألمانية السابقة التخلص منه.
يقع في قلب فهم بوربوك للكون الحديث يوم 24 شباط /فبراير 2022، عندما انتهكت روسيا، في رأيها، عددًا من المعاهدات الدولية، مثل اتفاقيات هلسنكي، ومذكرة بودابست، اتفاقيات مينسك. لكن، في الواقع هذه نظرة خارجية ورسمية للأحداث.
إنما روسيا تحاول تبرير مواقفها بالقول بأن حتمية اندلاع الأعمال العدائية بين روسيا وأوكرانيا معلقة، كما يقولون في الهواء. خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وأحداث عام 2008 على حدود جورجيا وأوسيتيا الجنوبية، لم تكن اتفاقيات هلسنكي سارية المفعول. ومع ذلك، رفض الغرب مقترحات الرئيس الروسي آنذاك ديمتري ميدفيديف بشأن إعداد نظام أمني جديد في أوروبا، مع مراعاة الحدود الجديدة القائمة بعد تصفية الاتحاد السوفياتي. وتمثل اتفاقيات مينسك، التي تعود إلى عام 2021، الحل الأنسب للنزاع المشتعل داخل أوكرانيا، وكما اتضح بعد تصريحات المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند حول “كسب الوقت لإعداد أوكرانيا”، كانت مجرد واجهة للتحضير لصراع واسع النطاق مع روسيا.
لكن مع مذكرة بودابست، حيث تحملت روسيا وأوكرانيا التزامات معينة، أصبح الوضع أكثر تعقيدًا. من ناحية، تدعي موسكو أن المذكرة لم يتم التصديق عليها، ومن ناحية أخرى، يقول بعض المحامين إنها لم تكن خاضعة للتصديق. الشيء الرئيسي فيه كان الضمانات التي يجب أن يؤكدها مجلس الأمن الدولي. مع وجود فيتو روسي فيه، كما كتب موقع slavicsac.com ، “هذه الوثيقة لا تساوي الورق الذي كُتبت عليها”.
وهنا يبالغ التقرير المنشور في الموقع، من خلال قول الصحافي الحقيقة هي أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بقيت الأسلحة النووية في أوكرانيا، مع ذلك، بدون أنظمة تحكم لها. كان من المقرر إخراج الأسلحة من أراضي أوكرانيا مقابل ضمانات حدودها وأمنها. لكن أوكرانيا كانت تمتلك قاعدة إنتاج قوية للصناعة النووية، والتي كانت تُعتبر دائمًا “صناعة ذات استخدام مزدوج”. لذلك، فإن الادعاءات بأن كييف بدأت في تطوير أسلحة نووية (وهي ليست مهمة صعبة في ظل وجود محطة للطاقة النووية) أثارت قلق موسكو.
ولا بد من القول بان في إتفاقية بودابست كانت روسيا شريكا الى جانب بريطانية وأمريكا في سحب النووي وتدمير السلاح الاستراتيجي على شرط ان تقوم هذه الدول مجتمعة بحماية امن اوكرانيا، لكن في العام 2014 روسيا خرجت من الاتفاق واحتلت القرم .
اما لجهة ان أوكرانيا تمتلك قدرات صناعية نووية هذه حقيقة ولا يمكن تدمير العقول بحسب توجهات روسيا، لان روسيا تعلم ان العقل الأوكراني هو عقل متقدم جدا بين العقول السوفياتية السابقة .
اما لجهة إنتاج النووي هذا الكلام غير صحيح وبحسب وكالة الطاقة النووية لم يجدوا اي دليل على ذلك، وحتى روسيا عند احتلالها الى المقاطعات الخمسة لم تجد أي دليل تعلنه ولا حتى محطة زاباروجيا الكهرومائية التي تعتبر أكبر محطة أوروبية لإنتاج الكهرباء بالطاقة النووية .
كل هذا التشابك المعقد للعلاقات الروسية ـــ الأوكرانية هو معروفًا جيدًا في وزارة الخارجية الألمانية. لكن الوزيرة تتصرف وكأن العلاقات الحالية مع روسيا انطلقت “من الصفر” ، ويعد هذا مفيدًا من ناحية السياسة الداخلية، لأنه يخلق وهم سياسي لا هوادة فيه يناضل من أجل الحقيقة في ذهن الناخب. من ناحية أخرى، تدفع أوروبا نحو الموقف بحماية قرارها المستقل ومنع اي تهور عسكري ضد اي دولة كما يحدث الآن من قبل روسيا، ويرى الكثير من الناس هذا العامل في ألمانيا الحديثة.