عن روبرت مالي وذويه..

عن روبرت مالي وذويه..

جورج الراسي

     أواخر العام 1975 قررت أن لا أكون لا من القاتلين ولا بين المقتولين… فالتحقت بأصدقائي الذين سبقوني إلى باريس… وتركت البلد للأوباش الذين يتناتشونه منذ نصف قرن.. و حتى هذا اليوم..!

  لقد خطفت مرتين وأنا ذاهب إلى عملي نزولا من برمانا في جبل لبنان إلى مقر مجلة “البلاغ “وسط شارع المزرعة، وفي مبنى مجاور للمقر الذي كانت تشغله “منظمة التحرير الفلسطينية”… يعني مسار استراتيجي يجعلك على تماس مع كل أنواع الوحوش الموزعين بين “شرقية” و”غربية”…

أول وصوله شمعة على طوله”.. كما يقول المثل..

وبالفعل لم أضطر للبحث عن عمل فور وصولي لأن العمل كان يبحث عني

سليم مالك

   في الأسبوع الأول لوجودي في العاصمة الفرنسية اتصل بي Simon Malley الذي كان يصدر مجلة نصف شهرية تحمل اسم Afrique-Asie باللغة الفرنسية، واقترح علي الانضمام إلى فريق العمل والاهتمام بتحرير الشؤون العربية

   واقع الأمر أنه كان يعرف كل شيء عني دون أن أعرف شيئآ عنه. ذلك أن مجلته كانت غالبا ما تترجم المواد والمواضيع التي كنا ننشرها في “البلاغ” في بيروت، نظرا لتقارب التوجهات بين المجلتين… ورأى أن وجودي معه سيوفر عليهم عناء الترجمة وتكون المواد “أكثر سخونة”

   وافقت بالطبع على العرض وبدأت بالتعاون معه، أكتب عدة مواضيع في كل عدد وأستعمل كالعادة عدة أسماء مستعارة، إضافة إلى اسمي الصريح، وكان من بينها “جواد رامي”، وجهاد رشيد”، و”جودت”… الخ

   استمر التعاون خمس سنوات حتى العام 1980 حين انفجر الإعلام العربي في ” مربط خيلنا “…فانتقلت إليه

  تلك السنوات الخمس كانت بالكاد كافية للتعرف على شخصية معقدة مثل شخصية Simon’…

   علمت أولا أن سمه الحقيقي هوسليم مالك” وهو من يهود مصر الذين هاجروا تباعا باتجاه الولايات المتحدة وفرنسا قبل قيام الدولة العبرية. وقد تنامت تلك الهجرة بشكل كبير بعد قيام ثورة الضباط الأحرار عام 1952.

   عمل سليم- سيمون في مطلع حياته المهنية صحفيا في جريدة “الجمهورية”. وهو من مواليد القاهرة في 25 -5 – 1923. انتقل إلى نيويورك في سن السابعة والعشرين، أي قبل عامين من قيام الثورة، وكان شديد الانتقاد لها ولم يترك لها “ستر مغطى”

   أول “خبصة” صحفية أقدم عليها سيمون، كانت نشره مقابلة مع شو ان لاي، الرجل الثاني في الصين بعد ماو تسي تونغ، في سنوات الجمر وأيام “الثورة الثقافية”… و تعتبر اليوم مقابلة كيم جونغ أوون زعيم كوريا الشمالية في حجره النووي نزهة بحرية إذا ما قورنت بإجراء مقابلة مع شو إن لاي في تلك الأيام… وأحدثت المقابلة خضة واسعة… قبل أن يتبين أن لا أساس لها من الصحة… وأنها من نسج خياله… لكنها كانت قد فعلت فعلها..!

 برباره

   أول عمل قام به سيمون في نيويورك كان التحاقه ببعثة جبهة التحرير الوطني الجزائرية FLN التي كانت تخوض الكفاح ضد فرنسا. كان يرأس البعثة مناضل جزائري مخضرم ووزير لاحق في أول حكومة جزائرية مؤقتة، هو محمد يزيد. ومحمد يزيد يعرفه المشارقة جيدا إذ كان سفيرا فوق العادة لبلاده في بيروت في مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكان أول من نسج العلاقات مع الفصائل الفلسطينية والأحزاب المشرقية وكان مديرا لمكتب الجامعة العربية في باريس في ثمانينيات القرن الماضي..

   محمد يزيد كان لديه في نيويورك مساعدة أمريكية تدعى برباره، يقال إنه كان معجبا بها، وأنه كان “يدبل لها عينيه”، وربما ساورته فكرة الزواج منهآ… إلا أن “المتعاونالجديد مع البعثة سيمون دخل ساحة الوغى واقتنص برباره منه وتزوجها.. وظلت معه حتى وفاته عام 2006 وأنجبت له… Robert Malley. .

   عدا تلك الموقعة فإن العمل مع الجزائريين وهم في خضم صراعهم مع المستعمر الفرنسي، فتح عيني سيمون على الصراعات الدائرة في العالم الثالث وفي إفريقيا على وجه الخصوص

 طرده جيسكار

   عام 1969 قرر سيمون الانتقال إلى فرنسا حيث أطلق مجلته آنفة الذكر. والحقيقة أنه منذ وطئت رجلاه تلك البلاد لم يكن في معظم الأحيان على توافق مع السلطات فيها. فلم يمنح إلا تراخيص إقامة مؤقتة من ثلاثة أشهر في معظم الأحيان

   وفي عامي 1971-1972 تم تهديده بالطرد لأن المجلة اتخذت موقفا داعما لتأميم شركات النفط في الجزائر .

وفي 15 كانون الأول/ ديسمبر من عام 1971 زادوا التضييق وأصبحوا يضنون عليه حتى بترخيص الإقامة ثلاثة أشهر...

واستمرت الأمور على هذا المنوال إلى أن جاءت الضربة القاضية في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان.

ففي 27 حزيران/ جوان 1980 صدر عن السلطات الفرنسية قرار يسحب بموجبه ترخيص الإقامة الفصلي الممنوح له، وكذلك ترخيص العمل ومدته ثلاث سنوات… وطلب منه وجاهيا أن يغادر الأراضي الفرنسية فورا هو وعائلته دون تفكير بالرجوع نهائيا

   وصدر عن وزير الداخلية الفرنسي آنذاك Christian Bonnet بيان يقول فيه: “إن سيمون ماليه، مواطن مصري من مواليد القاهرة في 25 أيار / مايو 1923، يحمل الجنسية الأميركية منذ ما لا يقل عن عشرين سنة. هو اليوم مواطن أميركي ولم يكن يحمل أي ترخيص إقامة كما ينص على ذلك التشريع الفرنسي… وقد قررت وزارة الداخلية الفرنسية وضع حد لهذا الاستثناء بخاصة وأن المعني لم يلتزم بواجب التحفظ المفروض على كل أجنبي..”

   وأضافت وزارة الداخلية أن ماليه يحمل على الأقل جنسيتين المصرية والأمريكية.. وبالتالي لا يمكن اعتباره  apatride    

   وبمجرد صدور قرار الطرد تدخل زعماء 22 بلدا من بلدان العالم الثالث، ومعظمهم من الأفارقة، لثني السلطات الفرنسية عن تنفيذ هذا القرار.. وبعث ياسر عرفات في 13 آب /أغسطس 1980 برسالة إلى سفارة فرنسا في بيروت يقول فيها: “إذا تم طرد سيمون ماليه فإن ذلك سيضعف بشكل خطير الأمل الذى أحيته السياسية الفرنسية في الشرق الأوسط..”*…

   وكتب ريجيس دوبريه Régis Debray في 11 – 7- 1980 مقالة في إحدى اليوميات الباريسية يدين بشدة هذا الإجراء ويعتبره غير مشرف لبلد “حقوق الإنسان”، لمجرد أن الصحفي المعني يدافع عن مصالح إفريقيا التقدمية، لا عن مصالح الدول الإفريقية المرتبطة بالإستعمار القديم

   لكن رغم هذا كله تم تنفيذ قرار الطرد في شهر تشرين الأول / أكتوبر من عام 1980… ولم يعد سيمون إلى باريس إلا بعد 10 آيار/مايو، أي بعد انتهاء عهد Valéry Giscard  D’Estaing  وانتخاب الاشتراكي François Mitterand  رئيسا للجمهورية

   وبمجرد عودته ذهب لزيارة أحد مستشاري الرئيس في قصر الإليزيه وأخذ معه المصور لكي يلتقط له صورة وهو على باب القصر لدى خروجه… من باب التشفي بالرئيس السابق

ذكرني ذلك المشهد بالصديق الكاتب والناقد المصري الراحل غالي شكري، الذي عمل معي في بيروت، فقد كان من عادته ان يصطحب المصور كلما ذهب لإجراء حديث مع شخصية مهمة.. وبعد انتهاء المقابلة كان يحرص على التقاط صورة مع المعني عند باب الخروج… بحيث يخيل للقارئ أن الشخصية المعنية هي التي كانت تجري المقابلة مع غالي..!

 عبقرية سيمون

   لكن بغض النظر عن كل تلك الحيثيات فقد كان سيمون يتمتع بعبقرية سياسية حقيقية جعلته يحير الكثيرين. فقد وصفه البعض بأنه يعمل لحساب السوفيات وضالع مع الـ KGB لأنه يدافع عن الدول والحركات الثورية في العالم وفي إفريقيا على وجه الخصوص. ونعته البعض الآخر بأنه لصيق بالإدارة الأميركية وبجهاز الـCIA بحكم يهوديته وجنسيتهوحقيقة الأمر أنه لم يكن لا هذا و لا ذاك … أو إذا شئنا التبسيط كان هذا وذاك

   واقع الأمر أنه التقط لحظة تاريخية مهمة كان فيها هم السوفيات الأميركان على حد سواءوما زال – إخراج أوروبا من دول العالم الثالث ومن إفريقيا على وجه التحديد للحلول محلها

   ونرى اليوم أوجه ذلك الصراع في كثير من الدول بأشكال وتسميات مختلفة.. وعلى وجه الخصوص فيما يعرف بـ “دول الساحل”… (لا أعرف من هو العبقري الذي أطلق تلك التسمية على منطقة ليس فيها قطرة ماء)…

   إفريقيا تاريخيا كانت موزعة بين دول استعمارية أوروبية: فرنسا- بريطانيا- اسبانيا والبرتغال

   محاربة ذلك الاستعمار بكل أشكاله كان مطلبا أمريكيا وسوفياتيا مهما

هنا كانت تكمن عبقرية ماليه وتفسر كره الأوروبيين – و بخاصة الفرنسيين له..!

Robert …  الوريث

    من هذه المنابع كلها العربية-المصرية، واليهودية، والشرقية، والفرنسية… تكونت شخصية Robert Malley الذي وجد فيه الحزب الديموقراطي ضالته لمحاورة إيران التي لا تخفي فرحتها بهذا الخيار

ما هي البيئة المحيطة به..؟

الرئيس الأميركي الأسبق باراك اوباما كان زميله في هارفارد، أنطوني بلنكن وزير الخارجية الحالي صديق طفولة، جون كيري وزير الخارجية السابق يثق به… إيران ترتاح له منذ إبرام الاتفاق النووي عام 2015 ذلك الذي انسحب منه ترامب عام 2018، و الذي يحاولون ترقيعه اليوم

   عندما عملت مع والده عام 1975  كان عمره اثني عشر عاما.. فهو من مواليد العام 1963

   مرة واحدة فقط أحسست بوجوده في البيت… كنا نراجع عددا من أعداد المجلة في صالون الفيلا الصغيرة التي كان يسكنها سيمون في الدائرة السادسة عشرة في باريس، فدخلت طابة من الشباك وكادت تطيح ببعض الأواني الزجاجية النفيسة…!!

 

الصورة  Malley بين بيل كلينتون وياسر عرفات في محادثات Camp David عام 2000.

Visited 12 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني