“الموتشو” في قصر قطع الواد

“الموتشو” في قصر قطع الواد

إسماعيل طاهري

     عندما انتهيت من قراءة رواية “الموتشو” للكاتب المغربي حسن أوريد، تأثرت لمصير بطل الرواية اليساري أمين الكوهن الذي اضطر، في النفس الأخير للرواية، إلى مغادرة العاصمة الرباط، بعد أن طرد من عمله كصحفي مهني ناجح في جريدة ذات توجه إسلامي، لكنها غيرت خط تحريرها بضغط من السلطة في سياق ترتيبات ما بعد إخفاقات حركة  20 فبراير.. كما فشل أمين في تجربتين عاطفيتين الأولى مع ناشطة فبرايرية اتضح لاحقا أنها بوليسية سرية،وآخرها مع نعيمة التي غادرت إلى إسرائيل مع عشيق يهودي من أم يهودية مغربية.

    انتهت الرواية بقرار عودة أمين الكوهن إلى مدينة فاس مسقط رأسه، حيث تعيش أمه.

   كما تذكرت بحرقة كيف قرر السي أحمد مغادرة مدينة المحمدية نهائيا وبلا عودة في 1987، ولم يكن ليقوم بمهمة نقل مكتبته الضخمة ومتاعه الفخم سوى قريب لي عبر سيارته من نوع بوجو بيكوب.

   الحكاية سمعتها عدة مرات من فم ابن عمي، الذي ذكر أن السي أحمد لم يتكلم طيلة مسار الرحلة الطويلة من المحمدية إلى الرشيدية. وكان يطلب بين الفينة والأخرى التوقف في الطريق للتنفس ويبتعد عن السيارة، ويتوقف للتأمل في قمم ومنحدرات جبال الأطلس وفيافي الرشيدية الممتدة. ثم يعود إلى مقعده لاستئناف الرحلة.

  وليس السي أحمد سوى أحمد اردي مناضل  23  مارس/ منظمة العمل، الذي طرد من سلك التعليم العمومي منذ 1984 لأسباب سياسية ونقابية. وفقد عقله جزئيا وتخلى عنه رفاقه، ومنهم محسن عيوش وحسن السوسي ومصطفى مسداد وشوقي بنيوب.. لأنه رفض أن يكتب رسالة اعتذار إلى الملك الراحل الحسن الثاني، بعد المكيدة التي حكيت له في الثانوية التي كان يدرس بها مادة الفلسفة، ولفقت له تهمة إهانة الملك. وعندما ساءت نفسيته غادر بغير رجعة إلى مسقط رأسه بقصر (دوار) قطع الواد بالرشيدية.

     السي أحمد اردي يعيش في قصر قطع الواد 

     في منزل والده الراحل وحيدا بلا عقل ولا معيل، ينتظر الذي يأتي ولا يأتي. وقد صار شيخا مهاب الطالع.

   وقد اضطرت عائلته إلى تغيير اسمها من لقب اردي إلى “بلمالكي”، حتى تتفادى انتقام المخزن منها، خصوصا وأن أباه كان يشتغل فقيها مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. ومع ذلك لم تتوقف مضايقات السلطة لعائلته، وأخطر ها حرمان والده من المعاش والتخلي عنه بعد مرضه بالسكري، وإجرائه لعملية جراحية لبتر  إحدى رجليه. توفي بعدها بسنوات قليلة من العملية وفي قلبه غصة.

   وملف السي أحمد اردي شاهد على فظاعة سنوات الجمر والرصاص، وما حدث له يعتبر جريمة ضد حقوق الإنسان غير قابلة للتقادم.

  ولازال السي أحمد اردي إلى اليوم متقد الفكر سريع البديهة. وهو فيلسوف أقرب منه إلى مناضل يساري أو أستاذ فلسفة. يناقش بعمق مختلف القضايا ذات الصلة بالفكر بعمق فلسفي. ولكنه يلتزم الصمت كلما سأله أحد عن حياته الشخصية أو أسباب مغادرة ما يسميه “المركز” على طريقة الموتشو.

  وأحس بوخز الضمير لأني لم أتمكن من زيارته خلال عطلتي القصيرة بالرشيدية لمناسبة عيد الأضحى الماضي.. ففضله علي كبير في فهم آليات اشتغال المنهج في الاتساق الفلسفية عبر تاريخ الفكر منذ عصر اليونان…

   السي أحمد اردي لازال صامدا، ومعاناته طالت وعلى رفاقه القدامى –  خصوصا شوقي بنيوب المندوب الوزاري لحقوق الإنسان- أن يفتحوا ملف رفيقهم السابق في 23   مارس/ المنظمة وجريدة الشباب الديمقراطي. لقد طال المطال كما تقول الأغنية الشامية.

  صحيح أن السي أحمد طلق تفاصيل الدنيا وملذاتها ورفض مؤسسة الزواج، بعد تجربة فاشلة، لأنه لا يريد أن يتحمل أحد وزر وضعيته المتردية. ويقول إنه لا يريد شيئا. ويردد دائما أن المناضل يجب أن يدفع ثمن نضاله.

ولكن “حقوق العباد لا تسقط” كما يقول الفقهاء. 

***

ما هو مصير الموتشو/ أمين الكوهن اليوم في مدينة فاس. هل عاد إلى “محنة” الصحافة؟ هل وجد شغلا في مهنة أخرى، وهو الذي أقصي من التدريس في الجامعة بسبب اسمه (الكوهن) الذي يحيل على الديانة اليهودية؟ هل ركب قارب نعيمة التي تحولت إلى راشيل ويرحل إلى إسرائيل ويعود إلى ديانة أجداده اليهود الذين تحولوا منذ قرون إلى الإسلام؟ هل تخلى عن غنوصيته وعلمانيته؟

   أم أن أمين يسير في طريق السي أحمد الوردي. الذي طلق الدنيا وتحول إلى زاهد في كل شيء إلا من الأوكسجين وما يرد به الرمق لكي يبقى على قيد الحياة (يتناول ثلاث وجبات صغيرة جدا في اليوم ولا يطلب طعاما ولو ظل على الطوى ليومين أو أكثر). وزاده الأمل في غد أفضل للإنسانية.

***

    وبالمناسبة أشكر عائلة السي أحمد الوردي على عنايتها به طيلة مدة محنته. كما أشكر أصدقاء طفولته ومجايليه في الدراسة على قيامهم باللازم على قدر المستطاع طيلة أربعين سنة من الضياع.

    لهذا يجب تظافر الجهود لنقل أحمد اردي إلى مستشفى خارج الوطن لتلقي العلاج من الصدمات النفسية التي تعرض لها منذ منتصف الثمانينات بعد طرده تعسفيا من التعليم، وهو المناضل الذي أطر نضالات شركة لاسامير في تلك الفترة العصيبة من تاريخ المغرب.

   وهذه دعوة للمنظمات الحقوقية للتحرك وفتح هذا الملف لاستطلاع الحقيقة وجبر الضرر وربما تنظيم قافلة تضامنية للتخفيف من معاناته.

Visited 12 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

اسماعيل طاهري

كاتب وباحث من المغرب