ياسر عودة: النَّبيُّ غيرُ المعصوم…

ياسر عودة: النَّبيُّ غيرُ المعصوم…

نجيب علي العطار

لم تزلْ جَعْجَعةُ الحَملاتِ المَسعورةِ، التي تقومُ بها شِرذِمةٌ من مُنتعلي الأقلامِ ومُمتَطي المَنابِر وما وراءَهما من بَعوضٍ إلكترونيٍّ، على «رجُلِ الدِّينِ» اللُّبنانيِّ ياسر عودة، تهبِطُ بالحَامِلين وتسمو بالمَحمولِ عليه. ولا يَخفى على المُطِّلعين أنَّ الحملاتِ والتَّهديداتِ والاعتداءاتِ المَعنويَّة والمادِّيَّة عليه، وعلى عائلتِه، ليستْ جديدةً وليسَ حديثَ العَهْدِ بها. وبَعيدًا عنِ العُنوان، أو العَناوين، التي قدْ تُعَنْوَنُ بها هذه الحملات، إلَّا أنَّ الذي لا رَيْبَ فيه أنَّها لا يُمكنُ أن تُحمَلَ على مَحمَلٍ حَسَنٍ في أيِّ حالٍ منَ الأحوال. إذ أنَّها، أي الحَملات، ليستْ مُتفلِّتةً من كُلِّ ضوابِطِ الأدب وحسب، بل هي لا تَرتقي إلى الحَدِّ الأدنى من أصولُ الاختلاف والنِّقاش. وليسَ الدِّفاعُ ههُنا عن شَخصِ ياسر عودة بقَدرِ ما هو دِفاعٌ عن الحقِّ في طُروحاتِه ومواقفِه من جِهة، وعنِ القِيَم التي تُستَهدَفُ باستهدافِ شَخصِه.

لا غَرابةَ إذا قرَّرْنا أنَّ ياسر عودة، من حيثُ هو «رجل دين»، يُشكِّلُ ثَورةً حقيقيَّةً على الصُّورةِ النَّمطيَّة لـ «رِجال الدين»، وحَرَكةً تطوُّريَّةً، وتَطويريَّةً، على مُستوى العِلاقةِ بينَ «رجُل الدِّين» والنَّاس. وليسَ مَرَدُّ هذا إلى كَونِه يعيشُ معَ النَّاس، وإنَّما مَرَدُّها إلى كَونِه اختارَ أنْ يعيشَ معَ النَّاس، وهذا أوَّلُ ما يُميِّزُه عن الكثيرينَ مِنْ «رِجال الدِّين» المُنفصلينَ عنْ واقعِ النَّاس ومُعاناتِهم. فياسر عودة إمامُ مَسجِدٍ في حيٍّ بائسٍ وفقيرٍ من أحياءِ الضَّاحيةِ الجنوبيَّة لبيروت، ويعيشُ في مِنطقةٍ ليستَ أكثرَ غِنًى ورَفاهيةً من هذا الحَيْ. وتاليًا، فإنَّ طُروحاتِه النَّاقمة على الواقع ومَنْ سبَّبَه منَ السِّياسيين الفاسدين أو الفاشلين، على حدِّ تعبيرِه، تنبثقُ من واقعٍ يعيشُه ويشعرُ به كغيرِه منَ النَّاس ويرفضُه كما ترفضُه قِلَّةٌ قليلةٌ من اللُّبنانيين عمومًا، وسُكَّان الضَّاحية الجنوبيَّة على وجه الخصوص. واقتضاءً، فإنَّه حينَ يتحدَّثُ عن الفسَاد والظُّلمِ اللَّاحقِ بلُبنان فإنَّه يتحدَّثُ من حيثُ هو مُواطنٌ يقعُ عليه فسادُ منظومة الطُّغاةِ وظُلمُها من جهة، وبصفتِه مَعنيًا بتغيير هذا الواقع من جهةٍ أُخرى. وقد يرى البعضُ أنَّ انتفاضةَ 17 تشرين قد أعطتْ ياسر عودة شُهرةً واسعة بين اللُّبنانيين بيدَ أنَّ الواقعَ يُؤكِّدُ أنْ ليسَ الحَدَثُ هو الذي أعطاهُ هذه الشُّهرةَ وهذا القبولُ عندَ شريحةٍ واسعةٍ منَ اللُّبنانيين، وإنَّما موقفُه منَ الحَدَثِ هو الذي أعطاهُ الشُّهرةَ والقبول. والمُتابعُ لعودة يعرفُ أنَّ طروحاتِه الثَّوريَّة كانت سابقة على حدث 17 تشرين بسنواتٍ لم تتبدَّلْ فيها مواقفُه الرَّافضةُ والمُنكِرةُ لظُلْمِ الحُكَّام وخُنوعِ المحكومين على حدٍّ سَواء.

أمَّا على المُستوى الدِّيني فإنَّ طروحات ياسر عودة تقومُ على إعمالِ العَقلِ في التَّديُّنِ من حيثُ هو فَهمٌ للدِّين. والمُتابعُ لمُجملِ طروحاتِه يتلمَّسُ الحضورَ الهائلَ للضَّوابطِ العقليَّة والمَنطقيَّة فيها. ولعلَّ الخَطَرَ الذي يُشكِّلُه ياسر عودة، وطروحاتُه، على سُلطةِ الكهنوت الاستغلاليَّة، لا يَكمنُ في إعمالِه العقلَ في الدِّين وحَسْب وإنَّما في دعوتِه النَّاس إلى عَقْلَنَةِ تَدَيُّنِهم وإعمالِ التَّفكير العقلاني في شؤونِهمُ الدِّينيَّة والسِّياسيَّة والاجتماعيَّة على حدٍّ سَواء. بعبارةٍ أُخرى، إنَّ مَشروع ياسر عودة، إذا أَجازَ لي التَّعبير، يقومُ على طَرَفِ نقيضٍ مع مشروعِ سُلطةِ الكهنوت التي لا تني تسخدمُ الدِّينَ من أجل مصالِحِها الشخصيَّةِ وحِساباتِها السِّياسيَّة التي تتعارضُ بدورِها مع روحِ الدِّين الذي احتكرتْ النُّطقَ باسمِه.

ويَلعبُ اعتدالُ عودة، ومُواجهتُه للتَّجييشِ والتَّعبئةِ مِنْ على المنابرِ الدِّينيَّة، دورًا في كَونِه عُرضَةً لحملاتِ «التَّكفير» و«التَّضليل» من قِبلِ سُلُطاتِ الكهنوت، والسُّلطة السِّياسيَّة مِنْ ورائها. فالخِطابُ المُعتدلُ والدَّاعي إلى الحِوار والابتعادِ عن التَّنابُذ والتَّناحر الطَّائفي والدِّيني، يُشكِّلُ خطرًا حقيقيًّا على مَنظومةِ الطُّغاةِ، ومَنْ شَرْعَنَها مِنْ «رجال الدِّين»، التي لا يُمكنُها، من حيثُ طبيعتِها، أن تعيشَ إلَّا على تزكيةِ الاقتتال الطَّائفي والدِّيني بين أتباعِها.

إنَّ ما يقومُ به ياسر عودة، رغمَ ما قد يُختَلَفُ معَه فيه، لكنَّه عينُ ما نحتاجُه، نحنُ اللُّبنانيين والمُسلمين، لنَخطو أولى خطواتِنا في مسيرةِ القيامِ من تحتِ الأرضِ التي دفنَّا أنفسَنا فيها لمَّا دفنَّا عقولَنا في أرض الخُرافةِ. وإذْ أنَّ النُّبُوَّةَ الوَحيانيَّةَ قد خُتِمَتْ بمُحمَّد، وإذْ أنَّ النُّبُوَّةَ هي فِعلُ تغيير وإصلاح، وإذْ أنَّ المُصلحينَ هم وَرَثَةُ الأنبياء، يصِحُّ أنْ نقولَ، والعُهدةُ على التَّمثيل، أنَّ ياسر عودة نبيٌّ غيرُ معصوم.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نجيب علي العطار

كاتب لبناني