فعل التجريب بين التخريب والتهريب
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
هذه الأيام، وتلك الليالي، تتتابع في حياتنا اليومية، وتوهمنا وكانها كلها مجرد يوم واحد، يدور حول نفسه ولكن الحقيقة عكس هذا تماما، خصوصا عندالاحتفاليين مثلي، والذين يعتنقون فلسفة التعييد الاحتفالي.
هي أيام تمر حقا، مسرعة مرة وبطيئة مرات أخرى، وقد يظهر بأنها متشابهة، وأنها تستنسخ ذاتها، وبالتأكيد فإن هذه الأيام، بليالبها، لا تتشابه، وكأنها مجرد موال من مواولينا الغنائية مركبة فقط من كلمتين هما (يا ليل يا عين)، ويتكرر في هذا الموال نفس الكلام، وذلك امتداد تاريخي جغرافي واسع جدا، ولكن الإحساس في هذا الموال الواحد مختلف، والحالات أيضا فيه مختلفة، وفضاء الموال مختلف، ومناخه مختلف، وظروفه مختلفة والسياق الذي يسوقه مختلف بكل تأكيد، وإنني أقول هذا الكلام اليوم، لأنني أصبحت أعيش هذا اليوم وأحياه بشكل مختلف، وأجد نفسي أعيش نفس اليوم القديم، ولكن بإحساس جديد ومتجدد، وبغير هذا، فهل كان ممكنا أن يكون لفعل التعييد الاحتفالي معنى؟
ولمن يهمه أمر هذه الأيام، في صدقها وزيفها، وفي جدها ولهوها، أقول اليوم ما يلي، أنا الاحتفالي، العاشق للجمال، والمؤسس الفلسفة الفرح والتعييد، والداعي للتلاقي الإنساني، في المكان العام وفي الزمن المقتسم والمشترك، قد كنت سعيدا يوم السبت الماضي، وبشكل صادق، ولم أكن وحدي من استطاع أن يختلس من مولانا الزمن ساعات صادقة وناطقة بالحق، وفي ملتي اعتقادي فإن الفرح الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا مشتركا ومقتسما، ولا أحد يمكن أن يسعد وحده، أو أن يفرح ويعيد مع الجدران الصماء والبكاء والعمياء، وفي هذا اليوم الاستثنائي، من ديوان الأيام والليالي، جدددت قناعاتي المبدئية (القديمة)، وأعلنت مرة أخرى، أمام نفسي وأمام كل الناس، بأن الفرح ممكن، وبأنه حق، وبأنه أهم وأخطر كل حقوق الإنسان في الوجود، ولقد آمنت دائما بأن النسبية السيكولوجية حقيقة، وقد تكون أم كل الحقائق ونحن لا ندري، أو لا نريد أن ندري، وعليه، فإن وجود يوم واحد، من الإحساس الصادق بالسعادة الصادقة، قد يساوي مليون سنة من الإحساس بالسأم وبالملل وبالكآبة وبالضجر.
ويحدث كل الإحساس الاستثنائي، في مدينة استثنائية تسمى مدينة تيفلت، سمتها الأساسية هو أنها مدينة ثقافية بامتياز أولا، وأنها مصالحة مع نفسها ثانيا، وأنها مدينة احتفالية وعيدية الروح والوجدان ثالثا، وهي مدينة مؤمنة بإنسانية الإنسان وبحيوية الحياة وبمدنية المدينة وبعيدية الأيام والليالي، وبحقها المشروع في الاحتفال الحي والحيوي، وذلك في فضاء المدينة المفتوح، على الأرض والسماء، وعلى أسئلة ومسائل الناس في حياتهم اليومية العادية، وأقول هذا عن مهرجان تيفلت، وذلك في دورته الثالثة، والذي كان مناسبة لنشر ثقافة الفرح.
ولعل ما يميز هذه المدينة، هو أنها مدينة تتحرك بسرعة العصر، وأنها تتحرك باتجاه الآتي الممكن، وهي تتغير شكلا ومضمونا في كل حين، وهي تتحول وتتجدد وتتغير، حتى تكون في مستوى هذا المغرب الجديد، وأن تكون أيضا في مستوى هذا الزمن الجديد وفي مستوى العالم الجديد والمجدد والمتجدد.
كتبت أول إبداعاتي المسرحية، كتبت عن عطيل الأمازيغي الذي في مسرحية (عطيل والخيل والبارود)، والذي قال (راعيا كنت في الأطلس والأوراس) كتب.
هذه المدينة تعرفني وأعرفها، وبيننا محبة ومودة ورحمة، وبيننا صحبة ورفقة قديمة جدا، وكثير من أبناء هذه المدينة كانوا تلامذتي، وذلك بثانوية موسى بن نصير بمدينة الخميسات، ولقد كرمتني المدينة من خلال مهرجانها ومن خلال نخبتها، وكان ذلك في آخر أيام المهرجان، وبحضور أسماء وازنة في عالم السياسة والفكر والثقافة والفن والرياضة، ولقد كرمت معي أسماء كثيرة تنتمي إلى الفن والثقافة والرياضة، وقد كرمتني كما لم تكرمني أية مدينة أخرى، وقد جاء التكريم من الأستاذ محمود عرشان، السياسي والمثقف والإنسان الجميل والنبيل، وجاء من ولده الأستاذ عبد الصمد عرشان رئيس المجلس البلدي لمدينة تفلت.
في مدينة الخميسات كتبت أول إبداعاتي المسرحية (سالف لونجة) و(عطيل والخيل والبارود) والتي أعدت فيها عطيل، أو عطاء الله، أو العاطي الله، إلى أصوله الأطلسية والأمازيغية، وجعله في المسرحية (راعيا كنت في الأطلس والأوراس).
ومن وحي جبال الأطلس كتبت مسرحية (عرس الاطلس) والتي أخرجها عبد الرزاق البدوي في أواخر السبعينات من القرن الماضي، كما أخرجها المخرج المسرحي الاحتفالي محمد بلهيسي، وأخرجها أيضا المخرج المثقف والموسوعي امحمد الأزهر،
وفي الرحلة من الرباط إلى الخميسات، ومن الخميسات إلى الدار البيضاء، عشت لحظات جميلة برفقة صناع الاحتفال والفرح، مع النجم محمد الجم، ومع النجمة المتألقة نزهة الركراكي، ومع الفنانة الأصيلة خريجة الدفعة الأولى للمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي سعاد خي، ومع الفنان المسرحي المتجدد محمد بن بار..
وعلى مائدة الغذاء كنا بصحبة الرائدة الحاجة مالكة العماري، وبصحبة الفنانة المسرحية نعيمة إلياس، والتي كانت أول من مثل دور مريم في مسرحية (عرس الأطلس)، وسعدت بوجود رفيقي في المسيرة المسرحية، الرائد المسرحي في فن المونودراما عبد الحق الزروالي.
وكان في التكريم الأستاذ مصطفى الكثيري، إلى جانب الزعيم السياسي الأستاذ محمود عرشان، وقد تولى التقديم المثقف والفنان المنشط إدريس الكيسي.
الاحتفالية القوة الناعمة
لهذه الاحتفالية رأيها ولها رؤيتها، ولها نظامها الوجودي ولها منظومتها الفكرية والجمالية والأخلاقية، وهي بالتأكيد طاقة خلاقة، وهي تمثل القوة الناعمة في سلم القوة، وهي هادئة وهامسة وناعمة، وذلك في مقابل القوة الخشنة والمدمرة، وهي بهذا قوة (جميلة ونبيلة) للبناء وللتأسيس وإعادة التاسيس، وللتفسير العلمي والفكري، وللتغيير والتجديد، والتحديث والتحيين، وهي قوة شفافة، مثل الماء والهواء، ومثل النور والنار.
والاحتفالية تؤمن بالتجريب، في الفكر والعلم وفي الفنون الصناعات، وهي توصي بالفعل التجريبي العلمي والجمالي والأدبي، وتحرض عليه، ولكنها بالتأكيد ضد التخريب باسم التجريب وضد فعل تهريب التجريب الآخر، في السباقات الفكرية والجمالية الأخرى، وإعطاؤه اسم التجريب.
وفي بداياتها الأولى راهنت هذه الاحتفالية على المستقبل، وراهنت على الممكن الآتي، وقالت دائما بأن الأجمل والأكمل والأصدق هو ما سوف يكون، ولقد ظلت، الأيام و الأعوام، تتتابع وتتجدد في نهر هذه الاحتفالية، هذا النهر الذي له منبع فياض، له مجرى ثابت، وله مياه متجددة بكشل دائم.
ومنذ البدايات الأولى آمن الاحتفاليون بالمستقبل، آمنوا بأنهم ليسوا وحدهم الاحتفاليين، في هذا الوجود الإنساني والكوني الاحتفالب، ولذلك فقد تخلوا، منذ البيان السابع لجماعة المسرح الاحتفالي بمدينة سلا، وأصبح همهم هو المجتمع الاحتفالي الإنساني والكوني أولا، واقتنعوا بأن التاريخ الأصدق في الحياة، يأتي دائما من المستقبل، ولذلك فقد قالوا كتبوا وأكدوا على الشعار التالي:
الاحتفاليون الجدد يأتون من المستقبل
واحتفالية اليوم تتسع وتنمو في احتفاليات الغد
هذه الاحتفالية آمنت بأن كل شيء في الوجود موجود، وان ما قد نسميه العدم هو شيء غير موجود، وآمنت أيضا بأن كل شيء ممكن، وأن ما قد نسميه المستحيل فهو ذلك الممكن الذي قد محققه غدا، وذلك بمساعدة الزمن، وبفعل عامل هذا الزمن، فقد نضجت كثير من الأفكار، وازهرت كثير من المعاني الجديدة في جسد هذه الاحتفالية المتجددة.
إنها تدور، هكذا قال ذلك العالم عن الأرض في ذلك الزمن المتقدم، وهكذا يقول الاحتفاليون اليوم وغدا عن العجلة الاحتفالية، والتي مازالت لحد هذا اليوم تدور، تماما كما تدور الأرض حول الشمس.
لهذه الاحتفالية نقطة بدء، ولها مسار سارت فيه، ولها امتداد جغرافي وتاريخي تتمدد وتتجدد وتتعدد فيه، ولقد انطلقت جغرافيا من المغرب، ولكنها، ثقافيا وحضاريا قد انطلقت من الإرث الثقافي المغربي العربي الامازيغي الافريقي الموريسكي المتوسطي المشترك.
في ذلك الزمن السبعيني الذي كان إذن، كانت بداية الرحلة نحو الذات الممكنة الوجود، وبهذا فهي مغربية المولد والنشاة، ولكنها عربية الرؤية والرأي، وعربية اللسان والوجدان وعربية القضايا والأسئلة، وعربية المسائل والقضايا، ولعل هذا هو يفسر ذلك الاهتمام الاستثنائي، والذي لاقته الدعوة الاحتفالية، في بداياتها الأولى عربيا، ولقد تم الترحيب بها إعلاميا في كل المنابر الصحفية العربية، وتجاوبت معها تجارب مسرحية كثيرة، في الأردن وفي العراق وفي مصر وفي السودان وفي المنطقة الكردية من العراق.
يقول الطائر الاحتفالي جناح التامي
(نحن نحب جمالية الحياة بمعناها الحقيقي، ونؤمن بالفصول الأربعة ولقوة المد والجزر.. لا نأتمن أبدا لأصحاب المصالح البائدة..” نحن هنا الآن” لا أحد يكتشف معانيها إلا من مارس دخول البحر الهادئ والميت والأحمر والأبيض والمحيط والخليج كلها بحار ومحيطات، لكنها محطات للقروش والدلافين والحوت الكبير والأخطبوط الأبيض والأرزق والأسود والقناديل.. هكذا نحن نعيش حريتنا في الخيال والواقع، فقط هو الموت برج يفرض نفسه، لكنه يدفعنا لنعيش.. لنصرخ.. لنقول الحقيقة.. لنبكي.. لنغازل وننافق .. ولنرسم في الكون أشكالا تشبه أفراحنا واحتفالاتنا وتعازينا .. ما أروع أن نعزي أنفسنا، ونشرب نخبنا ونحن مؤمنون أن هذا العالم مقنع بأقنعة، وأنه أشباح ولا شيء حقيقي.. أو خالد أبدي وسرمدي . تحياتي للجميع رحلة وحيدة تنتهي بلباس بدون جيوب . وا فرحتاه يا الله! من غير هذه الوجوه؟).
الاحتفالي والاحتفالية الطارق والطريق
في الطريق نولد، وفي الطريق نعيش، وفي الريق نمشي، باتجاه ماذا؟ لست أدري..
هناك في الناس من يمشي في الطريق، بطموح أن يصل في يوم من الأيام إلى نهاية الطريق، وهناك من يمشي في الطريق، حبا في المشي فقط، يمشي وهو يردد أمام نفسه (هذه خطوات كتبت لنا لو علينا ومن كتبت عليه خطوات مشاها)، وهناك في الناس من يقنع بأن يبدأ السير في الطريق، ويبدأ من درجة الصفر في المشي ويبقى فيها، وهناك من يصل إلى نصف الطريق ويقف، معتبرا أن هذا الوسط الذي أدركه هو أعز ما يطلب،
و(احتفاليون بلا حدود واحتفالية بلا ضفاف) كما هو موجود في الأبيات الاحتفالية، هو بالتاكيد أكبر من مجرد شعار عابر في زمن عابر، وهو في الحقيقة تعبير عن قناعة بأن حرية الاحتفالي لا تحدها الحدود، وبأن السفر الاحتفالي ليس له حد ينتهي اليه، لأن الاحتفالية هي الحياة، والحياة هي الفيض، وهي الحرية، وهي التدفق، وهي التمدد، وهي التعدد، وهي التجدد.
الأحتفالية حد التجربة وحد التجريب
لقد أكد الاحتفالي دائما على أن الحياة تجربة وتجريب، وعلى أن كل ما نفعله في حياتنا اليومية هما فعلان اثنان، أحدهما تسوقه إلينا الصدفة، العاقلة أو المجنونة، والثاني نسعى نحن إليه، ونبدعه ونفكر فيه، والتجربة الصادقة لا نختارها، وهي نختار نفسها، وتختار توقيتها، وهي جزء من حياتنا، ومن مسيرة وجودنا، وفي الأمثال المغربية نجد المثل التالي (اسأل المجرب ولا تسأل الطبيب) وهل هذه الحياة إلا حزمة تجارب؟
والأصل في هذه الاحتفالية هو أنها تجارب عشناها، وأنها خطوات مشيناها، وهي بهذا معارف عرفناها، وهي حقائق تحققنا من حقيقتها، وهي أسئلة طرحت علينا واجبنا عنها، أما التجريب فهو فعل اخترناه، وكنا فيه فاعلين ومنفعلين ومتفاعلين، ولقد اخترنا التجريب لنتحقق من صدق فرضيات نظرية، ومن أجل أن نعرف اكثر، ومن أجل أن نبدع في الآداب والفكر والفن أحسن، ومن أجل أن نتواصل مع ذواتنا ومع الآخرين ومع الأفكار الأخرى ومع المفكرين بشكل سليم.
وأنا الكاتب الحالم، علاقتي بالقلم والورق والدواة علاقة عشق قديمة جدا، ولكن، ولأن فعل الكتابة وحده لا يكفي، فقد يحدث في مرات كثيرة أن أستعير جبة الحكواتي، وأجد نفسي، من حيث أدري أو لا أدري، أحكي حكايتي وحكاية كل أصحابي ورفاقي الاحتفاليين مع هذه الاحتفالية، والتي أسعدتنا قليلا، و أتعبتنا كثيرا، وأدخلتنا في متاهات لم نخترها.
وبوحي هذه الاحتفالية كتبت، أو انكتبت، لست أدري، وامتثالا لأمرها قلت كلاما كثيرا، ونطقت وتكلمت، وأبدعت، وفكرت، وتخيلت، واقترحت، وسافرت في كل الاتجاهات، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وكانت أصدق وأغرب وأعجب وأخطر كل رحلاتي هي التي قمت بها داخل خيالي، ولقد رأيت في يقظتي حلما، وكان هذا الحلم أكبر من ليلة واحدة أو من ليلتين، لقد كان ذلك الحلم بعمق الوجود وبسعة الحياة وبعمق التاريخ، ولقد خاطبت في هذا الحلم العقول، وخاطبت الأرواح وخاطبت النفوس أولا، ولقد كان حلمي هذا غامضا ومبهما في بداية الأمر، ولكنه أخذ يتضح شيئا فشيئا مع توالي الايام والأعوام، ولقد اقترحت على الناس فنا مركبا، يليق بهذا العالم المركب والمعقد، وقبله اقترحت فكرة، هي مجرد فكرة صغيرة، واختزلت هذه الفكرة في كلمة احدة، وكانت هذه الكلمة هي الاحتفالية، وظلت تلك الفكرة تتناسل وتتسع، وأصبحت لها ظلال ملونة، ولقد خرجت من رحمها أفكار أخرى كثيرة جدا، حتى أصبحت هذه الفكرة الصغيرة بحجم فكر كبير، أو بحجم مشروع فكري جديد ومجدد ومتجدد.
وبخصوص فعل التجريب يقول الاحتفالي في حوار مع موقع (اندبندنت)، وذلك ردا على سؤال عبد الرحيم الخصار ما يلي: (التجريب ليس وليد اليوم، وليس نتاج المجتمع الصناعي الجديد، ذلك لأن لكل فترة تاريخية تجريبها الخاص على قدر الأسئلة المطروحة فيها).
والتجريب لا يتعلق بفن واحد دون غيره من الفنون الأخرى، ولا بصناعة واحدة دون الصناعات الأخرى، وهو موجود في كل الأجناس الأدبية المختلفة، وفي الشعر العربي مثلا وعندما (ينتهي الشاعر من كتابة نص ما يطرح السؤال التالي: وماذا بعد؟ هذا المابعد هو بداية التجريب، الشاعر يريد أن يطور تجربته بشكل مختلف، التفكير في نص جديد، مغاير السابق هو دخول في التجريب).
في هذا السؤال (وماذا بعد) تكمن الحركة، وفي هذه الحركة يوجد الانتقال، وفي هذا الانتقال يتحقق المختلف والمغاير والجديد
والذين ينتظرون أن يكون للبيانات الاحتفالية وللكتابات النظرية الاحتفالية حد تنتهي عنده، اقول نفس ما قلته عند تقديم كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث) لقد قلت ما يلي:
(هذا كتاب آخر، له ما قبله بكل تأكيد، وسيكون له ما بعده بالضرورة، وأصدق كل الأفكار هي التي لها ما قبل، ولها ما بعد، ولها شجرة انتساب تنتسب لها).
لا شيء ياتي من لا شي، ولا شىء موجود يمكن أن ينتهي إلى العدم، وكل شيء في هذا الوجود يتطور ويتحول ويتجدد، وينتقل من هيئة إلى أخرى، ومن حالة إلى غيرها، وهذه الأفكار الاحتفالية الجديدة هي نفس الأفكار الاحتفالية القديمة، ولكنها اليوم مركبة تركيبا جديدا، وكل ما له ما قبل، له ما بعد بالضرورة، والولادة الواحدة لها اعمار متعددة.
إدرجات الوجود ودرجات التجريب
التجريب هو أن تفعل الفعل، وأن تكون عالما بعلم ما تفعل، وأن تكون على بينة بما تفعل، وأن تبني هذا الفعل، والذي هو أساسا مخاطرة، هكذا قلت وكتبت في يوم من الأيام، وهكذا سوف أقول وأكتب في الآتي من الأيام والأعوام، وردا على السؤال المركب التالي:
ماذا أريد تحديدا من فعل التجريب؟ ولأية غاية أريد أن أصل؟
فإنني اقول ما يلي: بالتأكيد فإن التجريب الفوضوي ليس تجريبا، والتجريب للتجريب، وليس لأي شيء آخر غيره، هو عبث في عبث، وهو فعل بلا معنى، واقول هو فعل، والصحيح هو أن اقول هو اللافعل، والأصل هو أن نقدم المقدمات لنصل إلى الخلاصات، وأن ننطلق من الفرضيات النظرية وليس من الخواء المعرفي، وعليه فينبغي أن نعرف الطريق، وأن تكون لدينا خارطة الطريق، وأن نعرف، أولا نحن نجرب ماذا على ماذا لنصل إلى ماذا؟
ولهذا يكون السؤال المهرب، في كل النقد المسرحي العربي، هو السؤال التالي:
ما هي نتائج التجريب المسرحي العربي؟ وما هي مخرجاته؟ وما هي الاشياء التي بحث عنها ووجدها؟
يقاس فعل التجريب، في الأدب والفكر والفن، بحسب مقياس التجربة الحية، وبمقياس حياتها وحيوتها واصدقها ومصداقيتها ايضا، وقد يكون في فعل التجريب الاختباري شيء من الصدفة، ولكنها الصدفة الموضوعيةًً بكل تأكيد، في هذا التجريب نعيش الشك، ونعيش الخوف، ونعيش القلق، ولا وجود التجريب حقيقي بلا قلق حقيقي،
عن سؤال باي يد يكتب الاحتفالين نجد الجواب التالي هو يكتب باليد اليمنى نيابة عن اليد اليسرى.
لقد كانت للاحتفالي دائما مناعة ضد الايدويوجيا، وضد الحزبية، وضد المذهبية الضيقة، وضد العشائرية، وضد الشللية، وكانت الشعارات الفارغة لا تقول له شيئا، ولقد ميزت دائما بين التجريب الذي يبني الجديد، وذلك في مقابل ذلك التجريب الذي يخرب القديم المعروف بحثا عن المجهول.
ولهذه لاحتفالية، ففمىها وفنها وعلمها، عنوان في التاريخ، عنوان ثابت لا يعرفه إلا العارفون من اهل المعرفة والحلعلم والحكمة.
وما حكم من قال انا لا اعرف الاحتفالية؟
كثيرون جدا هم من قالوا مثل هذا القول، والذين قلنا لهم في حينه، من كان منكم لا يعرفها اليوم، فمن الممكن أن يعرفها غدا، ومن كان يريد أن يعرفها بالتأكيد سوف يعرفها، والأيام والليالي كفيلة بأن تتولى فعل التعليم، وتتولى تصحيح كثير من الأخطاء.
Visited 17 times, 1 visit(s) today