المهدي بن بركة :هل تمت مقايضة رأسه بمحاضر القمة؟

المهدي بن بركة :هل تمت مقايضة رأسه بمحاضر القمة؟

جورج الراسي

لعل المهدي بن بركة هو المغربي الأكثر معرفة في العالم ، لا بسبب دوره “الأممي”  فحسب، ولكن بسبب ظروف خطفه وإختفائه التي تمر ذكراها  الثامنة والخمسين 58 بعد أسابيع في 29 أكتوبر/ تشرين الأول  1965 والتي لم يتم حتى اليوم كشف ظروفها وملابساتها.

        من القمة آلى غرف الموت: الخطوات الناقصة

المهدي المولود عام 1920 بدأها من القمة: الأستاذ المشرف على مولاي حسن (الحسن الثاني مستقبلا ) في المعهد الملكي في الرباط ، ثم  رئيس  “الجمعية الوطنية الاستشارية”  بين عامي 1956 و1959.

في أيار/ مايو 1960 أقال الملك محمد الخامس مولاي عبد الله ابراهيم الذي ينتمي الى حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية من منصبه كرئيس للحكومة ،  تسلم هو شخصيا هذا المنصب، ثم عين ابنه  مولاي حسن  نائبا لرئيس الوزراء، مما أثار موجة غضب عارمة في اوساط المعارضة  التي طالبت بمجلس تأسيسي بغرض الحد من صلاحيات الملك والتحول إلى  ملكية  دستورية

وفي 26 فبراير/ شباط  1961 ، ارتقى مولاي حسن إلى سدة العرش  بعد وفاة والده ، في أجواء مضطربة  داخليا  بايحاء من المهدي بن بركة ، الذي حمل لواء “الاختيار الثوري”، وفي ظروف من العزلة الخارجية شبه الشاملة.

لكن الملك الحسن الثاني كان على درجة عالية من النباهة، فأعلن في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني  1962 عن إصدار دستور ارفقه بالدعوة إلى استفتاء  قرر اليسار مقاطعته.

لكن بعد أربعة أشهر فقط أعلنت قوى المعارضة عن مشاركتها في تشريعيات جرى تنظيمها في شهر نيسان/ أبريل1963، وحققت نتائج طيبة فيما عرف “بالمغرب  النافع” أي في التجمعات الحضرية الكبرى  والمدن الكبرى، فيما كان الغلبة للقصر الملكي في أرجاء الريف وعلى المستوى الوطني.

يبدو ان هذا الوضع  جعل فكرة “الإنقلاب” تتخمر في رأسين على الأقل من رؤوس المعارضة  ، هما  الفقيه محمد البصري والمهدي بن بركة ويقول من عرفوا تلك المرحلة وعايشوا الرجلين ان الثقة بينهما كانت منعدمة تماما، إذ كان البصري يرى أن المهدي شديد التقلب، وربما كانت  لديه بعض الميول الإنتهازية. فإذا بالرجلين يعدان كل واحد على حدة “إنقلابه الخاص”.

الفقيه اعتمد على صداقاته في صفوف القوات المسلحة بصفته من قادة جيش التحرير ، في حين  نادى المهدي على مؤمن ديوري القريب من احمد افوليز الملقب”بشيخ العرب ” وكان هو أيضا من قادة جيش التحرير، لكنه على خلاف مع الفقيه، ولا يكن له كثيرا من الود.

ويقال ان ديوري سعى لجلب الأسلحة من القاعدة الأميركية في القنيطرة.تم افشال المحاولتين بمنتهى السهولة، واعترف ديوري بكل ما عنده في حين غادر المهدي المغرب في الوقت المناسب.

                                    صداقة بن بله

التقارب الايديولوجي” بين المهدي و أول رئيس للجزائر المستقلة حديثا  في تموز/ يوليو  1962، احمد بن بله، جعل الجزائر بوابته إلى العالم  وقاعدته الخلفية. وكان قد أتم دراساته العليا في العاصمة الجزائرية وحاز على شهادة في الرياضيات، وعينه الرئيس بن بله مستشارا له.

لقد وقف في صف الجزائر إبان إندلاع  “حرب الرمال” مع المغرب في شهر تشرين الأول / أكتوبر عام 1963، وفتحت له إذاعة  “صوت العرب” من القاهرة أثيرها لكي يهاجم بعنف “النظام الملكي” في الرباط، ويدافع عن  “الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية” التي تتعرض “لهجمة امبريالية”. وصدر عليه فورا حكم بالإعدام عن محكمة عسكرية بتهمة الخيانة العظمى.

لم تمض بضعة أشهر فقط حتى صدر بحقه حكم ثان بالإعدام  في 14 آذار / مارس  1964 ، بعد  محاكمة دامت أربعة أشهر ، فيما عرف  “بمؤامرة تموز/ يوليو” التي كانت تهدف إلى اغتيال الملك الحسن الثاني  والإطاحة بالنظام الملكي. وشمل الحكم كذلك رفيقيه الفقيه محمد البصري وعمر بن جلون. وحده المهدي صدر عليه الحكم غيابي فقد كان يتمتع بحاسة شم قوية  جنبته الكثير من الأخطار المحدقة إلى حين.

وهكذا فإن “الإتحاد الوطني للقوات الشعبية” الذي ولد من إنشقاق في حزب الإستقلال في أيلول/ سبتمبر عام 1959، يكون قد فقد قيادته ولم يبق  طليقا سوى عضو القيادة الجماعية للحزب ومحاميه عبدالرحيم بوعبيد، لكن الملك بحنكته المعهودة طلب من العدالة أرجاء تنفيذ احكام الإعدام، لا بل ذهب إلى حد العفو عن المحكومين واطلاق سراحهم في آذار/ مارس   1965 ، اي بعد عام كامل بالتمام والكمال على المحاولة الإنقلابية، كدليل على رغبته في الانفتاح والإصلاح،  وذلك بعد الاضطرابات الطلابية الدامية التي شهدتها  شوارع  الدار البيضاء.

وظل بن بركة في حماية بن بله حتى الإنقلاب على هذا الأخير في حزيران/ يونيو 1965، مما اضطره للجوء إلى القاهرة.

مفاجأة مؤتمر طنجة

من المفارقات العجيبة في مسار بن بركة أنه بقدر ما كان  مؤيدا للجزائر  في حرب الصحراء ، بقدر ما كان حريصا على ما سمي “بالوحدة  الترابية للمغرب”  قبل حصولها على استقلالها.

فقد روى لي المناضل الجزائري الكبير عبد الحميد مهري في أحد لقاءاتنا،   ما احدثه المهدي من لغط خلال انعقاد مؤتمر طنجة المغاربي في شهر نيسان/ أبريل  1958 لدعم الثورة الجزائرية وارساء دعائم مغرب عربي موحد .يقول مهري الذي كان عضوا في الوفد  الجزائري، كما كان المهدي عضوا في وفد حزب الإستقلال الحاضن للمؤتمر، ان المهدي قام في كواليس المؤتمر بتوزيع خريطة حزب الإستقلال  للمغرب العربي ، وفيها  “مراكش الكبرى” التي تمتد شرقا إلى عين صالح  داخل التراب الجزائري، وجنوبا الى نهر السنغال. ويضيف مهري ان تلك المناورة كانت بهدف إثارة مشكلة حدود مع الجزائر، استفزت وفد جبهة التحرير الوطني.

وقد طرح بومنجل عضو الوفد، ثلاثة احتمالات للرد على ما اعتبر “استفزازا ” واضح المعالم: هل نواصل المشاركة في المؤتمر؟ أم نقاطع؟ أم نتجاهل الأمر؟ وتم اعتماد  الموقف الأخير .

وعندما طرحت المسألة في المداولات حدد رئيس الوفد الجزائري موقفه بما يلي :

ــــ الحدود الفرنسية يمكن النظر فيها، لكننا لسنا مؤهلين الآن للحديث في هذه المسألة . فعندما تستقل الجزائر يمكن أن نتحدث مع المغرب المستقل حول مسألة الحدود  أسوة بالبلدان الأخرى المجاورة .

ومع ذلك، يضيف مهري، اعاد بن بركة الكرة محاولا ان يستصدر توصية في هذا الموضوع  من المؤتمر،  لكن بوصوف اعترض على ذلك بقوة وهكذا تجنب المؤتمر الخوض في هذا الموضوع الشائك.

حماية جمال عبد الناصر

استقر المهدي في القاهرة مع أولاده الخمسة الذين تابعوا دراساتهم فيها وفق المناهج المصرية (أسوة بأولاد باتريس لومومبا)،  وقد حماه عبد الناصر حتى أنه تدخل لدى الملك الحسن الثاني لمصلحته خلال انعقاد  قمة الدار البيضاء في خريف العام 1965 ، قائلا  له انه يعتبره “صديقا”، وهو يقوم بعمل كبير لمساندة حركات التحرر في العالم. وحذر الملك من  “مكائد” بعض “الحاشية” والمقصود كان الجنرال اوفقير الذي سيسعى إلى تنفيذ انقلاب بعد سنوات قليلة ويدفع حياته ثمنا لذلك.

لقد حمل المهدي جواز سفر دبلوماسيا مصريا تحت اسم “الخولي” وفضل مغادرة مصر بعد اشتداد المخاوف عليه. وكان في وداعه في مطار القاهرة  الأخضر الإبراهيمي الذي كان قريبا منه، وسعى المهدي فيما بعد إلى  رأب الصدع بين عبد الناصر وحزب البعث  في كل من دمشق وبغداد، لكن المحاولة لم تنجح لانه كان لكل طرف حساباته الخاصة.

في حمى الأميرة مي جنبلاط

وبعد اشتداد المخاطر عليه لجأ المهدي إلى لبنان لقد ربطته علاقات وثيقة مع العديد من القيادات البعثية واليسارية في لبنان، فسعت إلى حمايته، ولكنها لم تجد افضل من إمراة  لتنفيذ مثل هذه المهمة هي الأميرة مي ابنة الأمير شكيب ارسلان، زوجة “المعلم” كمال جنبلاط ، التي رحلت عام 2013.

المهدي بن بركة على اليمين عبد الرحيم بوعبيد في الوسط، والفقيه محمد البصري على اليسار

وفي ذكرى رحيلها الثالثة عدد ابنها الوحيد وليد جنبلاط مناقب والدته قائلا إنها آمنت بحرية الشعوب، وفي طليعتها شعبي الجزائر وفلسطين  ، وسارت على خطى والدها الأمير شكيب ارسلان الذي حضن كل النضالات العربية منذ عشرينيات القرن المنصرم. وذكر”غضبها واستنكارها لخطف المناضل العربي الكبير المهدي بن بركة”.

من لبنان إلى المصير المجهول

كان المهدي يعرف انه مستهدف من طرف أكثر من جهة، في الرباط رصدوا مركزا للبوليس السري يلاحقه، وفي القاهرة لاحظوا غرباء يحومون حول منزله، اما في لبنان فحدث ولا حرج خاف من النزول في فندق وفضل الإبتعاد عن منازل أصدقائه الخاضعين للرقابة، ولولا الأميرة الأرسلانية لما غمضت له عين.

لم يبق إلا الرحيل إلى باريس شارل ديغول الأكثر امانا في تقديره، بخاصة وإنه انخرط مع رفيقه عبد الرحيم بوعبيد في ما سمي حينها “القارية الثلاثية  التي تضم حركات التحرير في القارات الثلاث ، والتي كان يجري التحضير لمؤتمر تعقده في العاصمة الكوبية هافانا في مطلع العام  1966.

لكن يد الغدر كانت اسرع، فقد تم استدراج المهدي أمام مقهى باريسي على يد عملاء مخابرات عديدة بحجة التحضير لفيلم حول حركات التحرير. واختفى منذ ذلك اليوم في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1965.

وتعددت الروايات منذ ذلك الحين وصدرت عشرات الكتب بعضها يقول انه جرى تذويب جثته بالنار الحارقة.وبعضها يدعي انه  جرى دفن جثته في أساسات بناء قيد الإنشاء في ضواحي باريس وبعضها اخيرا يقول انه جرت مقايضة رأسه بمحاضر قمة عربية؟!..

Visited 76 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني