هكذا تكلم العبد (6)

هكذا تكلم العبد (6)

 لحسن أوزين

“دخول الحمام ماشي بحال خروجو”…

     لقد فتحت المحرقة ولا أظنك أهل لها، وإن كنت لا أتهمك بالتطفل، فأنا أرى بأن الترامي على ملك الآخرين جريمة أخلاقية. إن آلام ومعاناة وعذاباتنا ليس سلعة تباع في السوق، أو توضع في المزاد العلني، لإثارة فيض من الشفقة والعشرات من العواطف الكاذبة. فليتسع سردك أيها السارد لجميع الأصوات، واحذر أن يورطك هذا الكاتب المزعوم، و المشبوه فيما لا تحمد عقباه. فهو ليس من طينتنا، وبعيد عن جلدتنا، ولا شأن له بالوقائع الأليمة التي تشكل تاريخنا الرهيب. فأنت تعرف بأن طريق جهنم مبلط بذوي النيات الحسنة. وعليه أن يلزم حدوده ولا يقوم بالسطو على تركة ثقيلة لم يتم الحسم فيها، والاعتراف بوجودها، كحقيقة حية طرية تاريخية. فالدماء ماتزال عالقة في القيد، والركبات مستمرة في الضغط بقوة على الرقاب الى حد الاختناق. لذلك يبدو لي أن دفن هذا العبء التاريخ من المآسي لا يزال بعيدا، مما يجعل إعلان الحداد مستحيلا.

   أريد أن أعترف أنا الاخر، ذلك العبد المنسي في زحمة الكلام المشقوق بالعي واللف والدوران على غير هدى خلف قلم هذا الكاتب المزعوم. يضحكني الى حد السخرية والاستهزاء، انتصارك لهذا الكاتب البليد. كلامك السخيف المحير عن عبد مثلي لا تعرفه وقد أتت عليه كتب الأولين والمحدثين بالكثير من التزييف والتدليس، جعلني أقف مدهوشا وراء سر هذا الهوس الأقرب الى هلوسة رواية. فمن سماك وأعلاك ومنحك هذا الحق في مثل هذا القول المسطور والمنقوش في قلوب وأجساد العبيد؟ ومن أهلك لتكتسب جدارة قراءة هذه الرموز وتاريخ المحن؟

   الحكي ليس نبتة برية على قارعة الطريق في متناول كل من هب ودب مثلك. قل لي بربك كيف يمكن لهذا الكلام المقرف الرديء الذي دونته دون حياء أن يعادل يوما واحدا من حياة العبيد؟ مشكلتك أنك تورطت مع هذا الكاتب في نوع من الاسترقاق السري المسموم، دون أن تنتبه العبودية التي يكرسها في الوقت الذي يدعي انتهاك المستور، وكشف حقائق التاريخ المنسي والمطموس للمهمشين ومنهم العبيد. افسح الطريق ودعني أقول كلاما، قد يمنحك بعد النظر النقدي والاستقلال. وإلا لن يكون لسردك الملغوم غير ضحايا جدد، والكثير من الحقد والضغائن. الكثير من الشعوب عاشت المآسي والحروب، ولكن الآباء العقلاء لا يحاولون شحن عقول الصغار بهذا الكم العائل من الآلام والعذاب. أحيانا البساطة المشوبة بالتعقل وعمق التفكير، وإثقان النظر، تحل كل الكيز من الأحاجي والألغاز. هون على نفسك، ودع مجرى الحياة يواصل سيره محملا بالوحل، أو الجثث. لأن المياه الصافية العذبة ناذرا ما كانت هي النهاية الجميلة لظمأ البشر. يشربون الدماء أولا وبعدها الطوفان أو الجحيم.

   والآن، ها أنت تعود الى عمل تركته في دفتر النسيان لأنك كنت تدرك أنك بعيد عن حقل الابداع، الذي تفصلك عنه مسافات ضوئية، وإلا ما الذي جعلك تقتحم عالمنا نحن العبيد بهذا الشكل الغريب الذي تسميه جلسة واحدة؟ هل هكذا يكون سجود السهو حتى في الخيال الخلاق ،أيها المبدع الحقير؟

   خلل في شهوة السرد أم لعنة العبد أن لا يكون له تاريخ، ويقبر في النسيان؟

   لن أخرج عن صوابي وأشبعك شتما وسبا، لكن لا أملك إلا أن أقول لك بكل وضوح، والوضوح هو المطلوب اليوم، خيالك أعمى في شد القارئ الى هذا السرد المتهاطل، و المعتل الرجيم، دون أن تقوى على النفاذ عمقا لفهم جدل السيد والعبد في تاريخنا الموبوء بلوثة فقر الدم التاريخي، في معرفة ما حصل على ضوء السراج الوهاج لحكايات شهرزاد في وجه شهريار السفاح. وإلا ما الذي جعلك تعتلي منصة الابداع، وأنت تفترض علاقة الحقد والجحود بيننا وبين الأسياد؟

   اطمئن لم يكن هناك شك ولا ريبة في علاقة الإذعان والحماية التي كانت تجمعنا على مر القرون منذ غابر الأزمان، منذ خلق الله الأرض ومن عليها وقسم الأرزاق، وجعل الناس منازل، لا يزيغ عنها إلا هالك. جنح بك خيالك المرهق التعيس نحو خيالات الظل العرجاء، وصرت تسبح في ظلمة الأوهام. ليس الأمر كما توهمت أيها الوغد النبيل في أن تنطق بلساننا مدعيا كشف المستور، وانتهاك المحظور، والإتيان على الطابو من بابه العريض، ومنح الصوت لمن لا صوت لهم. ليتك مزقت ذلك الدفتر المشؤوم وطويت الحكاية الرديئة التي مرت، كسحابة صيف عابرة في خاطرك الكئيب. إن كان لك من حساب مع سيدك الآن، وهو يمارس في حقك لعبة الاسترقاق، فلا تجعلنا مطية لهذا الغرض الدنيء. عليك أن تحسن النظرة والطلقة قبل أن تبحث عن المتراس في حكاية العبيد. وإنه لأمر مضحك أن تبحث عن حريتك في ظل شجرة عبد وضيع مثلي طواه غدر النسيان. فاعلم أيها الرجل أننا لم نكن نشك في عبوديتنا، أو ننكر حق السادة في ملك رقابنا كما تريد أن توهم القارئ غير النبيه، أو فقير الدم التاريخي، وإنما كان همنا رفع ظلم القسوة والقهر الشديد الذي طالنا من بعض الأسياد، ولا نطلب غير قليل من الشفقة والرحمة، والنزر اليسير من الطعام واللباس، لا أقل ولا أكثر. صحيح أننا عشنا العذاب في العذاب وتولينا كل المهام الحقيرة والرفيعة، عند علية الناس وفي أجنحة بلاط السلطان، بين الوظائف السهلة والوعرة، ونحن ندس أنوفنا في كل شيء استجابة لرغبة السادة. وقد نفشل فيطالنا العقاب المروع، أو نُقتل أو نباع، أو نرمى على قارعة الطريق حين نتقدم في العمر، أو حين تسكننا الأمراض التي تعجز أجسادنا المنهكة على دفعها.

   بهذه البساطة الى حد الوقاحة مررت علينا في حقول الحصاد بعيون الأمة الخليلة التي هزها حالنا وبؤسنا الرهيب فحمدت الله الذي جنبها هذا العذاب الأليم، وهي تحظى بامتياز الجمال ومهارة الطرب والغناء. فما الذي منعك، وأنت ظل الكاتب العليم، بما حصل في غابر الزمان من قهر للعبيد، من العيش معنا لأيام معدودة، أو على الاقتراب من حالنا لتدرك حجم القسوة الفظيعة والعمل المنهك والمرهق، في الحر والبرد، المتواصل طيلة اليوم من شروق الشمس الى غروبها، الى درجة لا نتبين قوة العفونة والرطوبة والروائح الكريهة التي تملأ الكهف الذي ننام فيه، كما لو أننا فقدنا كل الحواس. نرمي بأنفسنا فوق الأعشاب الجافة الممزوجة بقليل من التبن. ننام نوم الميت، خارج الوعي وصحو الذاكرة. بقليل من الطعام كنا نحاول البقاء على قيد الحياة. ولا أعرف لماذا كنا نرغب في الحياة بعد كل هذا الخراب ونحن نحلم بيوم جديد.

   قد تسخر من هذا الكلام، وهو بعيد عن التصديق، لكن تأكد أنه كانت لنا أفراحنا وقهقهات و جلجلات الضحك العميق، حين نكون وحدنا بعيدا عن السادة الكرام. نسخر من بعضنا، ولا نوقر بعض الأسياد الخبثاء في ظلمهم لنا.

   آه.. لو قدر لك أن تمضي معنا قليلا من الوقت حين يطيب مرح الهم والغم والقهر مولدا فرحة كالبلسم، لعرفت كيف يتغلب العبد على عذابات الألم، ولحن الموت والفجيعة. كانت لنا صلواتنا ونحن نشكو حالنا لرب العبيد، قريب منا، بعيد عن السادة، يمنحنا قوة حلال التحايل في الغش والكذب، والنفاق وسرقة محصول هؤلاء السادة الذي تمادوا في إنهاكنا وقهرنا وتجويعنا.

   أذكر في ذلك اليوم الجميل من أيام بداية الربيع، وقد قرر سيدنا أن يقوم برحلة الى البلدة المجاورة وهي مدينة حضرية، تبعد مسافات طويلة عن قريتنا. كان في رفقة سيدنا خمسا من الإماء، وعددا مجهولا من السراري. فكانت أكبر وأجمل رحلة عشتها في حياتي مع عبيد آخرين. حيث كنا عين السيد التي لا تنام، ويدا من حديد، نضرب بقوة دون رحمة ولا شفقة من إشارة بسيطة من السيد. فرأيت العجب العجاب الذي أنساني تعب الطريق الطويل الذي قطعناه سيرا على الأقدام. أزقة المدينة مملوءة بالإماء السافرات شبه العاريات، وقيل لي أن بعضهن مستعدات لكل فعل شنيع، ولا وقت للحديث عن الحياء والأخلاق. والأخرون لا يكفون عن الابتسام خدمة لسادتهم وإدخال الفرحة الى قلوبهم دون أن يكلف هؤلاء أنفسهم عناء السؤال من يدخل السرور الى قلب العبد الحقير الوضيع؟

   وخلال هذا السفر الجميل تدهورت الحالة الصحية لعشرة من العبيد، فتخلص منهم سيدنا، عند مرورنا على أول سوق، بيعا لأحد تجار العبيد الذي أغراه السعر الرخيص. لكن الشيء الذي لن أنساه ما حييت، والذي لم أتخيل حدوثه أن أسمع وأرى أمورا غريبة في المدينة عن عبيد أسياد كبار من ذوي الجاه والشرف والسلطان، عبيدا يملكون زمام الأمور ويتحكمون في الأموال والأبواب، في الحلال والحرام. واستغربت سر هذا الوضع في ثقة الأسياد الى هذا الحد في هؤلاء العبيد من بني جلدتي. وكنت أتساءل في نفسي دون أن أقوى على طرح السؤال على عبد مثلي. فكرت، قدرت، خمنت، هلوست، لكن لم أجد في العقل والأعماق ما يشفي غليل السؤال. لذلك قلت لك أيها العبد الحقير، لم يكن حالنا على حال واحد، وإن كان الكثيرون منا في محرقة عذاب أليم.

   دعني أحكي لك، لكي تفهم قدر الانسان، وتعرف حكمة الله في شؤون خلقه. فسبحان مغير الأحوال، فمن أعظم إحدى حسنات هذا الدهر الكافر أن سيدي اضطر الى أن يبيعني لأحد الأسياد المعروفين بالخير والفضل والإحسان الى كل ما ملكت أيمانه من الخلق. ورث ثروة هائلة من أبيه أحد شرفاء البلدة الذي تحكى سيرته على ألسنة كل قبائل المنطقة. كان شيخا تقيا ورعا، ما كان يظلم عنده لا صغير ولا كبير، لا حر ولا عبد، لا رجل ولا مرأة. فبحكم مهارتي في التجارة، وحسن تدبيري للمال في البيع والشراء، كتاجر متمرس يحسب له التجار الأحرار ألف حساب. دفع سيدي ثمنا باهظا لسيدي الأول الجشع، حين علم هذا الأخير بحاجته القصوى الى عبد يتقن الصيرفة والتجارة والحساب، والاستقامة في حب العمل. وكان ذلك فتحا من الله مكنني من عيش أحلى سنوات العمر. فالأجمل الرفيع الذي جعلني أقرب الى الخنوع والخضوع لسيدي هذا الى حد الطاعة العمياء، وبعيدا عنك أيها الجاحد الحقود على رزق السادة، في العبيد الذين ساقهم الله إليهم رزقا حلالا. ما كنا نطلب سوى المعاملة بالحسنى .. أجل الأجمل الأعظم الذي أريد بكل شغف أن أحدثك عنه هي الرحلة الى الحج برفقة سيدي رحمة الله عليه وأسكنه جنة عدن إنشاء الله.

   كم كانت فرحتي كبيرة حين علمت أنني واحد من العبيد الذين سيرافقونه الى بيت الله الحرام. وأخيرا تحقق حلمي الكبير الذي يتمناه كل عبد مؤمن تقي طهور. صحيح أننا لم نكن نحن العبيد في أعين الكثيرين سوى مجرد أنصاف البشر النجسين الذين لا يحق لهم الصيام والعبادة إلا بإذن من سيدهم، وذلك حسب ظروف الخدمة في البيت وخارجه، زد على ذلك ما يبديه هؤلاء حول رائحتنا العطنة التي تزكم الأنوف، وتلك في نظرهم طبيعة من الله في سر خلقه، وهو أعلم بما في ذلك من حكمة لأولي الألباب. هكذا يردد أهل الفقه والفتاوي كلما سألهم الأسياد، وقد قيل إن هذا مسطور في مخطوطاتهم والله أعلم.

   دعنا من كل هذا، فقد كان من حسن حظي في هذه السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر أن أجد نفسي عبدا مملوكا لسيد تأخذه خشية الله من كل فعل شنيع. فبفضله كانت تلك الرحلة الى الحج من أروع الأقدار والأحداث التي غيرت حياتي. فقد انشرح صدري وقوي عزمي، وتحفزت كل حواسي، وأنا أقبل على كل ما أراه يمكن أن يرضي سيدي في هذه الرحلة المباركة التي جاءت كمكافأة للخير العميم والثروة الهائلة التي حصلت بعدما سلمني كل أعماله التجارية. فاستطعت بفضل الله وعونه، الذي يسر لي كل المهمات الصعبة، وفتح في وجهي سبل الفوز في كل تجارة أدخل فيه بالقليل من المال، فتتضاعف أضعافا مباركة بفضل الله وعزته. وكنت أرى الرضا الكبير على وجه سيدي الذي لا تكف تقاسيم محياه الوضاء الحبور عن التعبير عن الثقة المفعمة بالكثير من التشجيع، وهو يكرر على مسمعي عند نهاية كل لقاء به” فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” .

   مررنا بالكثير من المناطق المختلفة التضاريس، وتعرفت على بلدان ما كنت أعتقد بوجودها على الأرض، والناس فيها منازل، كما هو الشأن عندنا في المغرب. لكنهم جميعا مسلمون لهم بيوت الله يقصدونها عند كل صلاة. وكنت محط أنظار الكثير من العبيد والإماء، مما أثار حرجي وأيقظ في نفسي ماضي البعيد حين كنت مجرد عبد حقير تغطي بدني أسمال ما عرف الماء إليها الطريق، وجسدي ينز برائحة روث البهائم الدافئ الذي كنت أجعله فراشا للنوم. ولأبسط الأسباب في التهاون والاخطاء، أو فقط بسبب توتر وغضب سيدنا لأمر بعيد لا يد لنا فيه من قريب أو بعيد، كنت أنال حصتي كباقي العبيد من السوط دون شفقة ولا رحمة. وأفرح بهذا العقاب البسيط رغم قسوته الرهيبة، وأنا في ذلك على مر الأيام أحاول بكل جهدي أن أكون عند حسن ظن سيدي حتى يغفر لي أخطائي التي لم تكن أخطاء، وأرجو رحمته وعفوه. ما كنت لأكون كذلك إلا لأني رأيت سيدي كيف يجرب سلاحه الجديد في عبد مثلي فيسقطه جثة هامدة لا يتبعه لا بكاء، أو حزن من طرف أم، و إخوة. إن حالفه الحظ يرمى في حفرة فيهال عليه التراب، كأن شيئا لم يحدث. أما العبد الشاب القوي الكتفين، والعريض الصدر فقد جرب فيه السم القاتل حسب توصية أحد الخبثاء الذي أشار عليه بالتضحية بعبد حقير، ليختبر مدى فعالية هذا السم الذي ابتاعه لغرض في نفس يعقوب، لاغتيال أحد خصومه في الجاه والثروة.

   لا شيء يمحى من الذاكرة يكفي أن تثار بهذا الشكل العنيف لينفجر نزيفها الرهيب، فتعرض عليك كل الألم الذي اعتقدت شفاءك منه. تفتح جراحات سرديات حياتك من جديد. ويقف الزمن عاريا لا يقوى على دفن الماضي. الذاكرة مقبرة حية، الموت فيها مجرد لحظة عابرة في مهب الريح. هكذا إذن يعود البركان المخيف لاشتغاله من جديد، تخرج الحمم من حيث لا تدري، وهي تعرض نفسها بسخرية لاذعة، وكأنها تذكرني بمقامي الوضيع الحقير. تجلدني بقسوة وهي تصرخ في وجهي” هل نسيت أيها العبد الحقير من تكون؟

   انزع ثيابك لنرى عشرات الندوب والعلامات الفارقة لعبودية وشمتك بكي الحقارة. نحن وحدنا نعرف التشوهات التي طالت عمقك الدفين”.

   هل حقا عيونهم العميقة الإبصار قالت كل هذه الأشياء أم أن حالهم اشتغل في داخلي، بصورة خارجة عن إرادتي. وهو يضعني وجها لوجه أمام ماضي الأليم. هكذا في لحظة صغيرة توقف الزمن بعنف مروع وانطلق شريط ذاكرة الجسد والروح ينزف بعرض صور الأوجاع والفجائع الفظيعة المكبوتة في الأعماق. كنت في حالة خارج المكان والزمان، كأني في إسراء ومعراج انحدار الزمن الرهيب الى قاع الحقارة وهي تولد من جديد.

   لكن الحياة عندما تفتح ذراعيها للمرء فلا أحد يستطيع تغيير القدر المحتوم. تجره الأقدار في منعطفاتها المفزعة مثل المخاض الذي يفرض رعب عذابات ألمه الحافر العميق، قبل أن يسمح بصرخة فرحة الحياة من جديد.

   ما كنت لأغادر قبو الماضي برعبه المخيف، إلا من خلال زلزال هزني في الأعماق. كان ذلك في القيروان عندما نزل سيدنا ضيفا في مزرعة مترامية الأطراف عند أحد أصدقائه الذي جمعته به رحلات التجارة. في تلك المزرعة اهتزت نفسيتي، لأن سهم أمة أصابني في نواة القلب، فخفت على نفسي من حالة الجنون التي شرعت تطل برأسها الخبيث من خلال نافذة الأرق الذي لا زمتني باستمرار. غادر النوم جفوني ولم أعرف طعما للحياة. وأنا بين عشق القلب وعذاب النفس اللوامة. وكيف لي بحب أمة سوداء وأنا في طريقي أرجو حب الله وزيارة بيته الجليل، وقبر رسوله الكريم وصحابته رضوان الله عليهم؟ ومن أين لعبد وضيع حقير مثلي بحق الحب والعشق، وأنا لا أملك نفسي؟ وكيف سمحت لنفسي بهذا التهور الشنيع وتجاسرت على النظر الى أمة في ملك سيد آخر؟ أي شيطان لعين ورطني في هذه المصيبة التي لا تحتمل عند سيدي، إذا علم بالأمر سوى قطع الرأس؟

   هكذا كانت الأسئلة تعذبني وحدي، وعيوني مفتحة في ظلمة الليل، دون أن أقوى على حكاية السر حتى لأعز أصدقائي “سالمي” وهو عبد مثلي. لقد فضحتني الأيام الأربعة التي قضيناها هنا في المزرعة كاستراحة، في انتظار اليوم السابع لاستئناف الرحلة نحو الحج. لم يكن حالي ليخفى عن سيدي، فصديقي “سالم” تكفل دون علم مني بنقل حالتي الحرجة لسيدي عثمان بن محمد الزموري. فقد كنت في وضعية حرجة أفقدتني الاتزان النفسي، والقدرة على التحكم في قدراتي الانفعالية والعقلية، لأن عقدة الذنب والتأثيم فعلت فعلها الرهيب، وهي تسقطني صريع الأسئلة بين النار والنار، نار التجاسر على انتهاك المحظور لعبد قذر مثلي، ونار السحر الذي اشتغل في داخلي وهو يسطو على عقلي وقلبي. وقلت في نفسي عشرات المرات “كيف لأمة أن تهدم المكانة الرفيعة التي نلتها بجهد كبير؟”. لكن كان سحرها رهيبا وقفت أمامه منهزما خائبا لا أقوى على الوقوف في وجه هذه اللوثة التي مستني في الأعماق، وهي على وشك حرماني من حلمي الكبير حج بيت الله الحرام. تجنبت الصدق مع سيدي وهو يسألني عن أحوالي الصحية التي تغيرت فجأة، تذرعت بتعب الطريق وتغير الجو ، ربما الذي انعكس سلبيا على جسدي. لم يكن متوقعا مني أطلاقا عن أتحدث عن شيء اسمه نفسيتي، ليس لأن ذلك كان محرما علي كعبد، بل لأن ذلك كان من المستحيل التفكير فيه بالنسبة لعبد أمام سيده. صحيح أنني كنت ألتقي بالتي صوبت عيناها سهما حادا لم يخطئ نواة قلبي. كنت أراها مرة عن قرب ومرات كثيرة عن بعد، في أرجاء المزرعة وهي تقوم بأعمالها المطلوبة. عندما تلتقي العيون تنتفض الحواس المعروفة والمجهولة، وأقف عاريا من كل شيء، كما لو كنت أقف على حافة الموت، أو ألج باب العدم غير مكترث بما يصدره العالم من ضجيج، في انفلات ذاتي من بين أصابعي، في انصات عميق للوجود.

   إذا كان هذا هو الحب فقد جربته بألم المعنى والوجود. وربما كانت هذه التجربة الحارقة هي التي فتحت صدري لطاعة أكثر، لشيخي وسيدي، فهو رجل صوفي ممسوس بحب الله. لم أكن أعتقد أن الحب ألم وعذاب في الاعماق الى هذا الحد، كما كنت أجهل ما يكتنف لحظة إعلان الفراق من حرقة قاتلة، خاصة وأنني عبد وضيع، كذبابة ليس لها قيمة، فكيف لي بنيل هذا الشرف الرفيع في حب أمة مثلي. خشيت من نفسي، ومن دونيتي المترسبة في الأعماق، خفت من عيون السادة، وانتبهت أكثر لسخرية العبيد مثلي، أن تقودني نحو المسلخ أو المذبح. لهذه الأسباب وغيرها كثير اكتفيت بالتفرج على نفسي التي كانت تصلب عشرات المرات، وهي تحترق بصمت داخلي. ففي اليوم السابع انطلقت القافلة…

Visited 9 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي