شاهدان يخالفان رأي الطاهر بنجلون
الـمصطفى اجماهري
ليس في نية هذه المقالة التطرق أو الحديث عن الأعمال الأدبية الغزيرة للكاتب الفرنسي-المغربي الطاهر بنجلون، فقد كتب عن ذلك الكثير وما زال يكتب، إنما الغاية سرد بعض وجهات النظر المخالفة لبعض ما سبق أن ردده بنجلون، عدة مرات في وسائل الإعلام الفرنسية، وخاصة بالنسبة لموضوعين اثنين : يتعلق الأول باعتباره لفترة تجنيده ضمن الخدمة العسكرية الإجبارية بمثابة عقوبة، ويتعلق الثاني بادعائه التخلي عن عمله أستاذا للفلسفة بثانوية محمد الخامس بالدار البيضاء بسبب تعريب هذه المادة.
وفي هذا الصدد، يؤكد ذ. سعيد بنسعيد العلوي (في حوار مع مجلة زمان عدد أكتوبر 2022) أنه ليس صحيحا البتة أن يقال إن تعريب الفلسفة كان، في تلك الحقبة تحديدا، يعني حذف الفلسفة جملة واستبدالها، وأن ذلك هو السبب الذي حمل الطاهر بنجلون على الانتقال إلى فرنسا. ففي سنة 1971، خلف ذ. بنسعيد العلوي الطاهر بنجلون لتدريس مادة الفلسفة في قسم الباكلوريا الأدبية بثانوية محمد الخامس بالدار البيضاء. وقتذاك يوضح ذ. بنسعيد كان مقرر الفلسفة، يشمل الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، في حين كان الفكر الإسلامي (والقصد به أساسا علم الكلام وفلسفة فلاسفة الإسلام، ولا صلة له بالتربية الإسلامية)، يقتصر على ساعتين في الأسبوع من أصل ثمانية ساعات. ولذا يقول ذ. بنسعيد، إن ما قيل عن تعريب تدريس الفلسفة في التعليم الثانوي في المغرب يدخل في باب معاداة تعريب التعليم لأسباب إيديولوجية وشخصية.
ويمكن أن أضيف لذلك، وقد كنت تلك السنة تلميذا لدى سالم يفوت، أستاذ الفلسفة المعروف بثانوية الإمام مالك بالبيضاء، أن الدرس الذي تلقينا منه بالعربية لم يكن يختلف البتة عن مثيله باللغة الفرنسية. بل إن طريقة تدريس مادة الفلسفة بالعربية من قبل سالم يفوت كانت تتم بطريقة راقية وبيداغوجية عصرية لم نشعر فيها بأن تعريب المادة مس بمستواها. وقد استمر ذ. يفوت يلقن دروسه دون التقيد كلية وحرفيا بالمقرر المعمول به آنذاك.
أما بخصوص رأي الطاهر بنجلون بكون فترة تجنيده العسكري كانت بمثابة سجن مغلف أو اعتقال مهذب فهو أيضا يدخل في باب المغالاة. حتى أنه أفرد، سنة 2018، رواية تحت عنوان “العقوبة” للحديث عن هذه التجربة بشكل دغدغ فيه العواطف “الغربية”. ذلك أن المناضل العربي مفضال في سيرته الذاتية الصادرة سنة 2012 تحت عنوان “زهرة العمر”، والذي كان بدوره مجندا في نفس الفوج مع الطاهر بنجلون له موقف مغاير في الموضوع. يقول مفضال : “أفزعني استمرار بنجلون في ترويج صورة مختزلة بائسة عن الخدمة العسكرية التي شارك في فوجها الأول مثلي… ما زال بنجلون يعتقد أن الخدمة المذكورة لم تكن إلا خطة للتحكم في الشبيبة التعليمية وقمعها مستدلا على ذلك بالشدة التي كان يتعرض لها المجندون أثناء التداريب وهي شدة هينة بالمقارنة مع ما يتعرض له المتدربون في جيوش الدول المتقدمة… ولا ينبغي أن ننسى أن التجنيد شمل فئات مختلفة ولا أن ينسينا ما اكتسبه هذا الشاب من تكوينات حديثة سهلت عليه الانخراط في الحياة الاقتصادية والاجتماعية”. ناهيك على أن هذه الخدمة تبقى واجبا وطنيا مفروضا على كل مغربي ولا يعفى منها إلا في حالات محددة.
وكان سالم يفوت بدوره، في وقت سابق، قد خصص مقالة للحديث عن رواية “صلاة الغائب” للطاهر بنجلون أشار فيها إلى أن الروائي قدم في روايته صلاة الجنازة بطريقة مخالفة لما هو معمول به في هذه الصلاة. بينما روايته “تلك العتمة الباهرة” الصادرة عام 2000، التي استند فيها إلى شهادة أحد الناجين من تازمامرت (عزيز بنبين)، قد جرت عليه بدورها انتقادات لاذعة من الضحايا ومن عزيز بنبين تحديدا لما طالها، في رأيهم، من تشويه للتجربة.
إن حرية أي كاتب في قول ما يريد والتعبير عنها بالطريقة التي تريحه لا ينبغي أن تمنع غيره من أن يكون له رأي مخالف كما عبر عنه الشاهدان اللذان أتينا على ذكرهما، في هذه المناسبة، والحال أن أقوالهما لم تأت من فراغ بل عاشا مع بنجلون نفس التجربة في نفس الزمان والمكان، ولهما من الكفاءة العلمية والفكرية والاتزان ما يسمح لنا بالثقة في موضوعيتهما.