جمال عبد الناصر
محمود القيسي
“نزلتَ علينا كتاباً جميلاً
ولكننا لا نجيدُ القراءهْ..
وسافرتَ فينا لأرضِ البراءهْ
ولكننا.. ما قبلنا الرحيلا…”
نزار قباني
كنت لم أتجاوز العاشرة من عمري حين الهب الرصاص الغزير من كل العيارات.. والقذائف على كل الأنواع والعيارات.. سماء مدينة صيدا العروبة لحظة إعلان وفاة رئيس جمهورية مصر العربية سيادة الرئيس جمال عبد الناصر كما جاء في نشرة الأخبار المسائية آنذاك.. الحدث الجلل الذي أدمى القلوب – قلوب الناس الطيبين.. الخبر الذي وقع كالصاعقة على أقلام الصحافة والمفكرين والكتاب والمثقفين والشعراء الذين الهبوا حماس الجماهير.. والتي اعتبر النقاد قصيدة شاعر التجديد في تاريخنا الحديث نزار قباني “جمال عبد الناصر” إحدى اهمها على الاطلاق.. القصيدة الطويلة التي طلب مني أستاذ مادة الأدب العربي في المدرسة ان أحفظها عن ظهر قلب والقيها أمام جمهور غفير في تلك المناسبة على مسرح سينما شهرزاد في مدينة صيدا سبعينات القرن النصرم..
ولد جمال عبد الناصر في مدينة الإسكندرية عام 1918 لأسرة بسيطة تعود أصولها إلى صعيد مصر وكان والده موظفاً بهيئة البريد. وقد تنقل مع أسرته بين عدد من محافظات مصر بحكم عمل والده. وبدأ نشاطه السياسي في سن مبكرة مشاركاً في مظاهرات طلابية مناهضة للاستعمار البريطاني، أصيب في إحداها في رأسه ما ترك ندبة على جبهته.وقد تسبب نشاطه الطلابي في حرمانه من الالتحاق بالكلية الحربية في بادئ الأمر، فدرس بكلية الحقوق لبضعة أشهر، ثم عاود المحاولة مرة أخرى وقُبل في الكلية الحربية وتخرج فيها عام 1938 بعد مرور 17 شهراً فقط نتيجة استعجال تخريج دفعات الضباط في ذلك الوقت.التحق جمال عبد الناصر فور تخرجه بسلاح المشاة وخدم في مواقع مختلفة ما بين صعيد مصر والعلمين والسودان وتعرف خلال هذه الفترة على زملائه الذين أسس معهم تنظيم الضباط الأحرار فيما بعد، كما عُين مدرساً بالكلية الحربية.
وشارك عبد الناصر في حرب فلسطين عام 1948، متطوعاً في البداية ثم ضمن صفوف الجيش المصري حين شنت الدول العربية هجوماً عسكرياً لطرد الميليشيات اليهودية من فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني، وصدور قرار من الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية وعربية. وفي كتاب “فلسفة الثورة” الذي صدر عام 1954، يقول عبد الناصر عن تطوعه في صفوف الفدائيين في فلسطين قبل دخول مصر حرب 1948: “لما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة، وهو ليس انسياقاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس”.
ويُعتقد أن تلك الحرب التي انتهت بسيطرة الجيش الإسرائيلي على معظم منطقة النقب وتطويق القوات المصرية المتمركزة قرب بلدة الفالوجة شمال غزة كانت من بين أسباب قيام تنظيم الضباط الأحرار بثورة يوليو/ تموز عام 1952، التي أنهت حكم أسرة محمد علي لمصر، في ظل ما أثير عن مخالفات شابت صفقات أسلحة للجيش في تلك الفترة. ويرى أنصار عبد الناصر انه انحاز للفقراء بسياساته الاشتراكية، فيما يتهمه منتقدوه بشن حملات ” قمع ” ضد معارضيه ويحملونه مسؤولية تدمير الحياة السياسية والحزبية في مصر لعقود من خلال حل الأحزاب واعتماد سياسة الحزب الواحد. جاء تأميم قناة السويس وما تبعه من استخدام بريطانيا وفرنسا وإسرائيل القوة العسكرية ضد مصر فيما عُرف بـ”العدوان الثلاثي” ليدشن مرحلة جديدة في حكم عبد الناصر، فقد أُعتبر تأميم القناة في حد ذاته عنواناً للكرامة الوطنية فيما أدى النصر “السياسي” الذي خرج به الرئيس المصري الأسبق بعد انتهاء “العدوان الثلاثي” بضغوط دولية إلى ترسيخ صورته كزعيم مناهض للتبعية ومساند لحركات التحرر في المنطقة وداعم لاستقلال الشعوب.
ولعب عبد الناصر دوراً محوريا في تأسيس حركة عدم الانحياز التي انعقد مؤتمرها الأول في بلغراد عام 1961، وكان هدفها الرئيسي الابتعاد عن سياسات الحرب الباردة والاستقطاب السائد وقتها بين المعسكرين الغربي والشرقي. ويُعتبر عبد الناصر من مؤسسي الحركة الأوائل، مع رئيس الوزراء الهندي نهرو والرئيس اليوغوسلافي تيتو والرئيس الأندونيسي سوكارنو. ساند عبد الناصر حركات التحرر في القارة الإفريقية، انطلاقاً من إيمانه بكون أفريقيا “دائرة محورية بالنسبة لمصر”، كما ساهم في الجهود الساعية آنذاك إلى تكوين منظمة الوحدة الأفريقية التي اتخذت من أديس أبابا مقرا لها، ومن الدول المحررة نواة لها. طالما نُظر إلى جمال عبد الناصر كأحد دعاة فكرة القومية العربية انطلاقاً من إيمانه بأن “الدائرة العربية هي أهم الدوائر وأوثقها ارتباطاً بمصر”، فتمكن من تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 (تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة) وإن كان ما لبث أن انفرط عقدها بعد ثلاث سنوات.
أيد عبد الناصر كذلك ثورة قادة الجيش العراقي على الحكم الملكي عام 1958، وكان له دور بارز في مساندة ثورة الجزائر، وكذلك ثورة اليمن عام 1962. ويظل قرار إرسال قوات إلى اليمن موضع انتقادات شرسة حتى الآن، إذ رآه كثيرون إهداراً لموارد البلاد وإنهاكاً للجيش المصري على سفوح جبال اليمن، معتبرين ذلك أحد الأسباب وراء هزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل في يونيو/ حزيران 1967. وفي مؤتمر القمة العربي الأول عام 1964 الذي دعا إليه جمال عبد الناصر تم الإعلان عن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية “قيادة معبئة لقوى الشعب العربي الفلسطيني لخوض معركة التحرير، ودرعاً لحقوق شعب فلسطين وأمانيه، وطريقاً للنصر”. وجاءت حرب يونيو/ حزيران 1967 لتكون بمثابة الانتكاسة الأكبر في مسيرة عبد الناصر ومشروعه القومي العروبي، إذ تمكنت القوات الإسرائيلية من اقتطاع شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، والضفة الغربية والجولان السوري. ولم يجد عبد الناصر بُداً من إعلان التنحي عن منصبه وتحمل مسئولية الهزيمة، إلا أنه تراجع في اليوم التالي بعد خروج مظاهرات ترفض تنحيه.
حين كان يخرج عبد الناصر في خطاباته الجماهيرية الشهيرة، رجلا يسحر الناس بلسانه، ويتوغل في عقولهم بما كان يُلهبه من مشاعر الوطنية والقومية والشخصية المصرية التي تستطيع تحدي الأعداء، فإن فهم الرجل كظاهرة تاريخية من هذا الجانب، وهو الذي كان مسيطرا فيها على وسائل الإعلام كلها، والوظائف كلها، والصحف كلها، تعتبر قاصرة نوعا ما، فهناك في بطون الكتب، ومذكرات من عاشوا تلك الحقبة، ومن خرجوا يدلون برواياتهم للإعلام بعد زمن عبد الناصر.. هناك تتكشف أجزاء واسعة من صورة أخرى لـ”الزعيم”، صورة مظلمة تحتاجُ فقط إلى من ينفض عنها غبار النسيان والإهمال، ويُلملم حلقاتها المتباعدة، وشتاتها المقصود! على أرض مطار القاهرة، وبينما كان ناصر ينتظر تحرّك طائرة أمير دولة الكويت، شعر بألمٍ في صدره، وراح العَرَق يتصبَّب منه بغزارةٍ، فطلب سيارته إلى حيث كان يقف لأنه لا يستطيع أن يسير بنفسه إليها كما كان يفعل عادة. ومع اقتراب عقارب ساعة يوم 28 أيلول/ سبتمبر 1970 وصل كل من حسين الشافعي، وعلي صبري، ومحمّد حسنين هيكل، وتمّ الاتصال بكلٍ من الفريق أول محمّد فوزي وأمين هويدي اللذين وصلا فوراً، وانقسم الحضور بين مَن يدعو ومَن يُصلّي ومَن يتطلَّع إلى السماء راجياً، وحدث أن اهتزّ الجسد بسبب إحدى الصدمات الكهربائية فاستبشروا خيراً، ولكن كان عبارة عن ردّ فعل الصدمة الكهربائية، ثم حان الوقت الذي ليس للبشر فيه أية قُدرة على التدخّل.
هنا نأتي لعلاقة هيكل وعبد الناصر، فهي ليست علاقة صحافي برئيس، كما شاهدناها في عصورٍ لاحقة، لكنها كانت صداقة فكرية، بين دماغين قلّما وجدت هذا التطابق والتكامُل بينهما. هيكل كان رفيقاً لعبد الناصر، حتى أنه كان مُحيطاً بسريره، وهو في لحظاته الأخيرة. فهو مَن وصف نفسه أكثر من مرة بأنه كان على علاقة حوار مع عبدالناصر استمرت منذ العام 1948 حين التقى به أثناء حرب فلسطين الأولى، وحتى رحيله في 1970. وقائع ليلة الرحيل بالذات، رواها هيكل في كتابيه “عبد الناصر والعالم”، و”الطريق إلى رمضان”، وفيهما وصفٌ دقيق لتفاصيل ما حدث في اللحظات التي تلت مؤتمر القمّة العربية الذي دعا إليه عبدالناصر بعد أحداث “أيلول الأسود” الدامية بين الفلسطينيين والأردنيين، حتى الوفاة، وترتيباتها. إلا أن أسباب الموت ومرضه بالسُكّر والضغط ذكرهما هيكل فقال “الجهد والعمل والقلق المُتّصل كلَّفه غالياً. فقد كان في هذه المرحلة رجلاً قد حلّ به التعب وأنهكه المرض، فقد كان يعاني من مرض السُكّر منذ سنة 1958، وكنتيجةٍ لمرض السُكر أصيب بحالٍ موجٍعة من تقلّص شرايين ساقيه وطلب منه الأطباء أن يُقلِع عن التدخين”. تبقى هي اللحظات التي جاءت مع مساء الإثنين 28 أيلول/ سبتمبر 1970، فيها واجهت مصر إحدى أدقّ لحظات تاريخها الحديث. من دون مُقدّمات مُعلَنة، وخارج أيّ توقّع مُسبَق أعلن أنور السادات عبر شاشات التلفزيون المصري من القاهرة رحيل جمال عبد الناصر.