صخرة أمين معلوف

صخرة أمين معلوف

محمود القيسي

“مَنْ نحن؟
ورقةُ شجرٍ على نعلِ الرّجلِ الأبيض؟
المياهُ التي تُعَكِّرُها حوافِرُ الخيولِ الحربيّة؟
قلبٌ مزقتهُ شظايا الرّصاص؟…
قِيلَ لنا
إنّ المؤرّخينَ يُطلقونَ علينا لَقَبَ
“الآخرين”…
نحنُ البعيدون عن
اللغةِ والتّراثِ والثّقافة.
المحاصرونَ هناكَ
في مخطوطاتِهم
في وهمِ الّلغة الّلعينة…”
*كمال كومار تانتي

احد أذكى القرارات الذي أتخذته اللغة “الفرنكوفونية” منذ تأسيسها تاريخيًا.. القرار الذي جعل أحد أهم مثقفي “الشرق” والمستعمرات الكولونيالية امين معلوف صاحب كتاب “غرق الحضارات” و “سمرقند” و “ليون الأفريقي” يتربع على أرفع كرسي ثقافي في تاريخ لغة فولتير وروسو وموليير وسارتر وكامو بإمتياز.. وخصوصًا، بعد “صراع الحضارات” الطويل المستمر بين الكولونيالية الفرنكوفونية من ناحية.. والمستعمرات التي خرج أمين معلوف من رحمها.. رحم صخور الصوان.. صخور الصوان الناطقة باللغات الام.. من صخرة طانيوس اللبنانية.. إلى صخرة أمين معلوف اللبناني الأصل والفصل.. والتاريخ والجغرافية والهوية.

كم هو مؤسفا لشعب ما، أيا كان كما يقول أمين معلوف، أن يُمجد تاريخه أكثر من مستقبله. وكلّ شيء في هذا العالم، القوانين والعلوم والدول، من صنع أشخاص مثلي ومثلك، وبالتالي كل شيء قابل للدراسة والنقد والتقويض والبناء، لسنا ضيوفًا على هذا الكوكب، فنحن ننتمي إليه بقدر ما ينتمي إلينا، وماضيه ملك لنا وكذلك مستقبله. والعالم مثل هذا المصباح، استهلك الزيت المخصص له، ولم يبق إلا النقطة الأخيرة، انظر، الشعلة ترتعش، سينطفئ العالم قريباً.

يستطرد معلوف قائلاً: يوجد في مقابل رجل دين واحد مخلص، آخرون يحلمون بالسلطة ولا يحيون إلا بالدسائس والمكائد، ومهمتهم أن يملون على كل أحد كيف يلبس ويأكل ويشرب ويسعل ويتجشأ ويعطس، وبأية عبارة يجب أن يغمغم في كل مناسبة، ويجعلون الكبار والصغار يعيشون في هلع الدنس والكفر. الوطن الذي بوسعك العيش فيه مرفوع الرأس، تعطيه كل ما لديك وتضحي من أجله بالنفيس والغالي حتى بحياتك، أما الوطن الذي تضطر فيه للعيش مطأطئ الرأس فلا تعطيه شيئا، فالنبل يستدعي العظمة، واللامبالاة تستدعي اللامبالاة، والازدراء يستدعي الازدراء، ذلك هو ميثاق الأحرار ولا أعترف بغيره.

عمل معلوف بعد تخرجه، في تحرير جريدة النهار، وفي الملحق الاقتصادي للجريدة، كذلك في الأحداث السياسية الدولية، فزار من أجل ذلك ما يزيد على ستّين بلداً، وغطّى أحداثاً كبرى من بينها حرب فيتنام. بقي في الجريدة، إلى حين اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 حيث انتقل في العام 1976، للحياة في باريس ومازال مقيماً فيها حتى اليوم.

في فرنسا عمل في مجلة إيكونوميا الاقتصادية، واستمر في عمله الصحافي فرأس تحرير مجلة “إفريقيا الفتاة” أو (جون أفريك)، كذلك استمر في العمل مع جريدة النهار اللبنانية، وفي ربيبتها المسماة “النهار العربي والدولي” في 2010. أصدر أول أعماله التاريخية: الحروب الصليبية كما رآها العرب في العام 1983م، عن دار النشر لاتيس التي صارت دار النشر المتخصصة في أعماله. وترجمت أعماله إلى لغات عديدة، ونال عدة جوائز أدبية فرنسية وعربية، وقد ترجم د. عفيف دمشقية جلّ أعماله إلى العربية، وهي منشورة لدى دار الفارابي في بيروت.

تميز مشروع أمين معلوف الإبداعي بتعمقه في التاريخ، من خلال ملامسته أهم التحولات الحضارية التي رسمت صورة الغرب والشرق على شاكلتها الحالية. فكتب العديد من الروايات غير أن أعماله تضمنت دراسات بحثية ككتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب، كما كتب مسرحيات شعرية مثل كتاب الحب عن بعد. أصبح معلوف عضواً في الأكاديمية الفرنسية في 2011 بعد انتخابه من قبل أعضائها. منح معلوف عدة شهادات أكاديمية، منها: الدكتوراة الفخرية من جامعة لوفان الكاثوليكية ببلجيكا، وشهادة من الجامعة الأميركية في بيروت، ومن جامعة روفيرا إي فيرجيلي الإسبانية، ومن جامعة إيفورا البرتغالية.

تميزت روايات أمين معلوف بتعمقها في التاريخ من خلال ملامستها أهم التحولات الحضارية التي رسمت صورة الغرب والشرق على شاكلتها الحالية، واتسمت لغتها التي تمزج بين التاريخ والسرد، بالجدّة والتوثيق والبناء التفاعلي، فضلا عن تناوله موضوعات وشخصيات وأحداث قديمة/حديثة قدمها من زاوية إبداعية سردية، ويمكن القول إن تركيزه الأبرز كان حول “الهوية الثقافية لحوض البحر الأبيض المتوسط”. ومن أعماله التاريخية والروائية والمسرحية والسياسية:

ليون الأفريقي (1984)، حدائق النور (1991)، سلالم الشرق أو موانئ المشرق (1996)، القرن الأول بعد بياتريس (2001)، رحلة بالداسار (2000)، التائهون (2013)، الهويات القاتلة (2016)، إخوتنا الغرباء (2021)، الحب عن بعد، مسرحية شعرية (2001)، بدايات، سيرة عائلية، دار (2004)، اختلال العالم، مقالات سياسية (2009)، مقعد على ضفاف السين؛ أربعة قرون من تاريخ فرنسا، (2017) وأعمال عديدة آخرى..

يرجع متابعون إحجام الجزائر عن الانضمام إلى فضاء الفرنكوفونية إلى كونه “يندرج في إطار الاستعمار الجديد، الذي تتخذه فرنسا لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية، فيما يلقي الماضي الاستعماري بظلاله على أي احتمال لالتحاق البلاد بالمنظمة الفرنكوفونية”. إلى ذلك يقول أستاذ الفلسفة في إحدى جامعات في غرب الجزائر ميلود بلعاليه إن موقف الجزائر من الفرنكوفونية تاريخي بالدرجة الأولى، وامتداد طبيعي لرفض الاستعمار الفرنسي.

وأوضح بلعاليه أن رفض الجزائر الانخراط في نشاطات المنظمة الدولية للفرنكوفونية يعبر عن تخوف من تحول الفرنكوفونية إلى شكل من أشكال الاستعمار الجديد، بخلاف ما تعبر عنه المنظمة في نواميسها. ويذهب إلى القول بـ”وجوب التفريق بين اللغة الفرنسية كرصيد ثقافي، والفرنكوفونية كأيديولوجية تهدد الهوية الوطنية”، مشيراً إلى أن القبول بالانخراط في المنظمة يعني بالضرورة القبول بالمشاريع التي تحملها، وهو ما ترفضه الجزائر والمليون شهيد.

عندما فهم ما يحدث على أرضه وفي قارّته، كتب صاحب “طبول الذاكرة مستعيداً مجزرة رواندا “بوبكر بوريس ديوب” بالفرنسيّة رداً على خطاب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي ألقاه في داكار في 26 تموز (يوليو) 2007. رأى ديوب أنّ الخطاب يشبه إلى حد بعيد خطاباً يلقيه مستعمر في إحدى مستعمراته القديمة/الجديدة.

ديوب، الكاتب والصحافي السنغالي، الذي تربّى في أحضان المدارس الفرنسيّة إلى درجة أنّه وجد نفسه في احد الايام عاجزاً عن كتابة بحث بالولوف، لغته الأم. في شبابه، رفض اللّحاق بسنغور وتيّار “الزنوجة”. “لم نكن نظن أنّ التمييز كان بسبب لون بشرتنا. كنّا من أتباع الماركسيّة، نعتقد، بسذاجة، أنّنا ضحايا التمييز الطبقي” فقط!

رفض فيلسوف مقاومة العنصرية والاستعمار “فرانتز فانون” النزعة الإنسانية المعلنة في أوروبا القائمة على أساس الاستعمار والاستغلال والعبودية والعنف، لذلك قال إنه “يجب أن نجد شيئًا مختلفًا”، وإنه “إذا لم يتم تعديل الظروف الإنسانية، فستكون هناك حاجة لقرون من العمل على أنسنة هذا العالم الذي أجبرته القوى الإمبريالية على النزول إلى مستوى الحيوانات”.

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمود القيسي

كاتب لبناني