خارج السرب: رهاب الحدود في القراءة الذكورية للنسوية الحرة
لحسن أوزين
يتكون كتاب (خارج السرب بحث في النسوية الإسلامية الرافضة واغراءات الحرية) لفهمي جدعان من مقدمة وستة فصول. تناول في الفصل الأول بشكل عام التيارات التي يشملها مفهوم النسوية الإسلامية، التي قسمها على الشكل التالي:
أولا : النسوية الاسلامية التقليدية، الاتباعية التي تعتمد القراءة الظاهرية والحرفية للنصوص الدينية( القرآن والحديث) وهي تكرس كل ما جاء في المدونة الفقهية النسائية من أحكام ذكورية قهرية في حق المرأة، ولا تعترف حتى بالمساواة الانطولوجية بين الرجل والمرأة. ناهيك عن الحديث عن الحرية والحقوق والعدالة. لذلك يرى فهمي جدعان أن هذه الفئة من النسوية سقطت ضحية الموروث الثقافي الديني الذي سيج نفسه إلهيا بالمقدس الديني. مدعيا امتلاكه الحقيقة المطلقة النهائية التي لا تقبل النقاش والسؤال التأويلي. و تكتفي بهذا الاجترار الماضوي لما سطرته أقلام الفقهاء، كقراءة بشرية تاريخية تعالت عن الوحل البشري، وسمت بنفسها في سماء المتعالي، مفارقة الزمان والمكان، معتبرة نفسها قراءة مطابقة للنص الديني، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، في صورة أقرب الى الوحي المنزل.
ثانيا : النسوية الاسلامية الإصلاحية التوفيقية الترقيعية في التعامل مع التحولات المجتمعية التاريخية، وما أفرزه التغير المجتمعي على مستوى البنيات والعلاقات الاجتماعية والممارسات، والتصورات والمعتقدات، ومختلف أنماط الحياة الحديثة والحداثية. تكتفي بالتلفيق للظهور بمظهر التجديد والإصلاح، بدعوى أنها تعمل على مسايرة العصر، دون التجرؤ معرفيا على القراءة التأويلية، وتجاوز حرفية وظاهرية النصوص الدينية. وهي بذلك قد كرست هي الأخرى المدونة النسائية الفقهية التي أنتجتها سياقات اجتماعية سياسية وظروف تاريخية، تبعا لمستوى تطور الشرط الحضاري للمجتمعات العربية الإسلامية في الماضي.
ثالثا: النسوية الإسلامية التأويلية التي لم تقبل بالمدونة الفقهية النسائية جملة وتفصيلا، لأنها قراءة ظاهرية وحرفية في إنتاج المعنى وتوليد الدلالة الذكورية المتحيزة، والتمييزية العنصرية والطائفية الى حد فرض العبودية على النساء. لذلك لا تقبل بكل الاحكام والقوانين التي تبخس المرأة في حرياتها وحقوقها وكينونتها الوجودية، وقيمتها الإنسانية المعترف بها بشكل صريح وواضح في النص القرآني. فآيات القرآن لا تقبل التعمية والتعتيم على المساواة الانطولوجية و الدينية الروحية والاخلاقية والاجتماعية. بل القرآن ينقض الاحكام والقيم التي أسستها وأحكمت بنودها مدونة العقلية الفقهية الذكورية المتحيزة. وقد أنتجت هذه المدونة تفككا مجتمعيا، وتصدعا قيميا وأخلاقيا بين الرجل والمرأة. كما تولدت بسبب ذلك الكثير من المظالم الاجتماعية والثقافية والدينية والإنسانية والوجدانية. فارتفعت الأسوار والحدود في وجه النساء. وتم تضييق الخناق عليهن، وعزلهن في مجالات خاصة محدودة. وقامت العلاقات الاجتماعية على أسس السمع والطاعة والخنوع والاخضاع والقهر دينيا وثقافيا وسياسيا. وهذا يعني سيادة الريبة والشك والاقصاء والاستعباد للنساء باسم القراءة البرغماتية التي تحكمها المصالح الذكورية الانانية الضيقة في توزيع السلطة والثروة والملكية والنفوذ. وهذا ما لم تقبل به النسوية الإسلامية التأويلية التي أسست وجهة نظرها ابستمولوجيا ومنهجيا وهيرمنوطيقيا انطلاقا مما تتيحه السيرورة التدليلية SIGNIFIANCE للنص القرآني من تأويلات. وقد ساهمت في وجود وتبلور هذا التيار النسوي مجموعة من الأسماء نذكر على سبيل المثال لا الحصر كما أشار الى هذا فهمي جدعان: فاطمة المرنيسي، أمينة ودود، أسماء برلاس ورفعت حسن…
ولا يخفي الكاتب تحيزه الى هذا التيار النسوي الإسلامي التأويلي الذي يحاول في نظره قراءة النصوص الدينية بمنهجية معرفية نقدية، في سياقها التاريخي من خلال الهرمنوطيقا القرآنية. وهي قراءة تكشف عن الحيف الثقافي، الى جانب تعرية التصورات والمعتقدات والأعراف والعادات القبلية الاجتماعية التي تلبست المعاني والدلالات الدينية الاسلامية، الى درجة حجب الإسلام في تعاليمه وقيمه الروحية والأخلاقية التي ترفع من قيمة وحرمة وحصانة الكرامة الإنسانية لكل من الرجل والمرأة.
رابعا: النسوية الإسلامية الرافضة، وقد خصص لها الكاتب خمسة فصول، لأنها كانت وراء كتابة هذا الكتاب. ففهمي جدعان بعد أن اطلع على بعض كتابات هؤلاء النسويات المسلمات، أصيب بنوع من الذعر والخوف، وهو يرى مجموعة من النساء: تسليمة نسرين، عيان حرسي علي إرشاد منجي ونجلاء التركية، يتجرأن على اختراق الأسوار العالية لأقبية الحريم، واسترداد شرعية وأحقية وجودهن الأنطولوجي. وانتزاع قيمتهن الإنسانية المغتصبة باسم التصورات والمعتقدات الثقافية الذكورية، التي تلبست المقدس وصادرت المعاني والتعاليم الدينية. القراءة التأويلية النقدية التي ينصحنا بها الكاتب، جعلتنا ننتبه الى ما يختفي وراء الموقف السلبي العدائي للكتاب من هذا التيار النسوي، من اغراء عيشهن الحرية، الذي سبب له الرعب والذعر، الى حد التهجم، الذي مس استراتيجية الكتابة في كتابه، وهو يرفع سوطه الفكري الاعتراضي، بقسوة بليغة، مفعمة بالعدوانية النقدية، الخالية من أي قبول وتقبل واعتراف بالوضع المأسوي للمرأة المسلمة. بدل وصمهن بلغة الاضطراب النفسي الوجداني الاجتماعي في قوله: إنهن يعبرن عن العقل الوجداني المأزوم. نعتقد أن كتاب “خارج السرب” ممسوس بجنون رهاب انتهاك الحدود الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية، وخلخلة الخلفية الانثربولوجية التي أسست النظام الذكوري البطريكي، وسيدت البنيات الاجتماعية والدينية الثقافية، والعلاقات الاجتماعية التمييزية القامعة وغير العادلة الى حد سلخ القيمة الإنسانية للمرأة. بعد أن سيجت بالحدود المرئية واللامرئية، التي تم اجتيافها كشفرة نفسية في اللاشعور الثقافي الاجتماعي الجمعي، بآليات الاستيلاب العقائدي التي تحدث عنها بشكل مدقق ومفصل مصطفى حجازي في كتابه، سيكولوجية الانسان المقهور.
الخوف من الفراغ الهائل الذي لاح للكاتب فهمي جدعان في النقد الجذري، الذي مارسته النسوية الإسلامية الرافضة، كوجهة نظر تأويلية، ورؤية نسوية إسلامية للذات والأخر والعالم، لها خلفياتها التاريخية الاجتماعية، كما لها بنياتها الاجتماعية والثقافية والدينية، بالإضافة الى هويتها الفردية المقهورة ونرجسيتها المجروحة والكرامة المهدورة التي كان يمكن أن تمنحها معنى للحياة والوجود، ذلك الخوف ولد الفزع والذعر في كتابة الرجل. لم يكتف تيار النسوية هذا باختراق ما ترسخ من فهم ضيق للدين انطلاقا من الدولة العباسية. بل جعل الكاتب يشعر بتهديد سقوط النموذج الحلم/الاسلام، كما فهمته وعاشته النسوية الإسلامية الرافضة، إنه في نظرها عبارة عن النموذج الابوي السلطوي، والاستبدادي القهري، في قيمه ومعاييره الروحية والأخلاقية الدينية، والاجتماعية الثقافية، وفي نمط حياته المشحونة بحدود العزل والاقصاء، والنفي والاسترقاق. لم يتحمل الكاتب نزع سقف التأويل الذي مارسته النسوية الإسلامية التأويلية، الذي رأى فيه الكاتب مثالا يحتذى للعقل المعرفي، الراغب في تحرير أصالة الحلم من تحت وطأة ثقل تاريخ الاتباعية والتقليد والاصلاحية التلفيقية. لقد تخطت النسوية الرافضة هذا السقف الصراطي، ورأت فيه هدما للواقع والحلم الماضوي الديني، وبناء اسلام متحرر من التحكم والقهر، وقادر على عيش التحولات الدينية الثقافية الاجتماعية الحديثة، بما يسمح بقراءة اللحظة التاريخية والمرحلة الحضارية التي من حق الانسان المسلم رجلا كان أو امرأة أن يستفيد من شرطها الإنساني في الحريات والحقوق والعدالة والديمقراطية…
وما يشرح لنا العدوانية النقدية للكاتب تجاه هؤلاء النسويات، في استناده الى تاريخهن الفردي والأسري، الى حد النبش في كل ما يشكل خصوصيتهن الذاتية، بحثا عما يسوغ التقليل والتبخيس والوصم السيء لوجهة نظرهن في كل ما يخص وضعية المرأة المسلمة في المجتمعات العربية والإسلامية، هو شعوره وهو يقرأ كتابات وتجارب هؤلاء النسويات باضطراب سقوط الحلم الخلاص/ الإسلام في موروثه الثقافي والديني كما فهمه الفقهاء الأوائل. وكما رأى إصلاحه رواد النهضة والتنوير، أو مارسته النسوية التأويلية. وبين طيات كتابات هؤلاء النسويات رأى فهمي جدعان الفراغ الرهيب، بانهيار النموذج الابوي الذكوري المتسلط/الحلم الإسلامي كما عاشت المرأة بشكل مرعب ومؤلم ومأساوي في بنياته الاجتماعية والثقافية، وضمن علاقاته الاجتماعية، ووسط الممارسات المجتمعية القيمية والمعيارية الأخلاقية والروحية…
إن واقع وضع المرأة عبر التاريخ العربي والإسلامي الى اليوم، كان مؤلما ومروعا في أغلب محطاته ومنعطفاته. وتميز بالقهر والهدر لقيمتها الإنسانية، فكان دائما مأزوما على مختلف المستويات، كما لم يكن يتيح هذا النموذج /الحلم مخرجا من داخله، الشيء الذي أنتج سيكولوجية الانسان المقهور والمهدور، وليس فقط تلك التجليات التي سماها الكاتب بالعقل الوجداني المأزوم.
وأخيرا يمكننا أن نقول بناء على ما أشرنا اليه سابقا أن الهدف من تأليف الكتاب، ليس كشف وتعرية، أو الرد على النسويات الإسلامية الرافضة، بقدر ما كان مشغولا بالفراغ الهائل من انهيار الحلم/ تصور وفهم معين للإسلام. لذلك كان على الكاتب ان يحترم وجهة نظرهن، من خلال النقاش النقدي و العقلاني. والنظر إليهن كذوات حرة مستقلة في اختياراتهن، من زاوية الايمان الحر. فبعيدا عن معاودة إنتاج سطوة التّاريخ الدّينيّ يطرح الإيمان الحرّ نفسه كورشة تأويليّة تحرّكها حرقة الأسئلة الفلسفيّة في قراءة التّاريخ والواقع الحيّ الملموس في تحوّلاته الماديّة ومعطياته الفلسفيّة والفكريّة والحضاريّة لعصور ما بعد الدّين والملّة وفق إطار معرفي حداثي بلوره السّؤال الفلسفي منذ كانط إلى وقتنا المعاصر، كما بلورته حركة تطوّر السّيرورة التّاريخيّة للحداثة بشكل عامّ، ليس في المجتمعات الغربيّة وحدها، بل على المستوى العالميّ كشرط إنساني حضاري، حيث إمكانيّة أن تجد المجتمعات نفسها مساهمة ومشاركة في البناء والتّفاعل والتّواصل كانفتاح إنساني ما بعد الدّين والملّة، أو سيتمّ الاستغناء عنها بشكل عفوي تلقائي. وهذا المنظور الفلسفي في معانقة حرقة الأسئلة كورشة تأويليّة يتأسّس بناء على كتابات فلسفيّة في مسائل الدّين قصد فكّ الارتباط بين فكرة الله كمشكل فلسفي داخلي، أي قول كلّي في الكائن الأسمى، والأديان التّقليديّة، بمعنى الاعتراف بالإنسان بشكل غير مشروط بالأوامر والنّواهي المنزلة كحقيقة جاهزة، بل إعادة حريّة الاختيار للإنسان في تحديد ما يمكن أن يؤمن به بعيدا عن سطوة الفكر الدّينيّ في لجم التّاريخ البشريّ في حريّته واختياراته وإيمانه، أي رفع وصاية القبول المشروط في الاعتراف بالإيمان الحرّ، أي بالإنسان كفعاليّة بشريّة يميّزها العقل في التّحكم في الذّات وصناعة المصير في الهويّة والانتماء والاختيار…، بما يرفع الحجر العقلي، وينقض إستبداديّة المعايير والقوانين الدّينيّة والسّياسيّة بذريعة القصور العقليّ البشريّ في عيش الإيمان الحرّ، دون أيّ التباسات منمّقة وبرّاقة للاستعارات اللّفظيّة الّتي تعمل على تكريس ما يسمّى إيمان الأتباع والقطيع. أو تلك الّتي تتحايل إيديولوجيا، من خلال الإيحاءات الدينيّة لما يسمّى روح الدّين في دعوى حرّاس الملّة، أو جوهر الدّين وصميم الدّين…، في دعوى الّذين يتملّقون، باسم التّقدميّة والتّنوير والعلمانيّة، الملّة والدّين خوفا واحتسابا.” الإيمان الحرّ هو ذلك الّذي يريد تحرير العلاقة البشريّة بفكرة الله من سلطة الأديان التّقليديّة الّتي وقفت في شكل الملّة وإعادتها إلى العقل البشريّ بما هو كذلك”.