بين روح الدين والإيمان الحر (حلقة 1)

بين روح الدين والإيمان الحر (حلقة 1)

لحسن أوزين

إنّ إمكانيّة التّفكير الّتي نحاول اكتشافها في هذه القراءة النّقديّة المزدوجة، ليست بين كتابين أو مفكّرين، بل بين الحقيقة المطلقة الجاهزة والنّهائيّة في سعيها المثاليّ والكماليّ، وبين “السّؤال باعتباره تقوى الفكر”، هو امتحان مدى قدرتنا على التّفكير المؤلم في الاعتراف باقتدارنا الأخلاقيّ والعلميّ المعرفيّ على خوض تجربة سلخ الجلد، وقبول الصّيرورة الدينيّة كورشة تأويليّة، حيث العالم الغيبي” الله” يحضر كفكرة مهدّدة في سيرورتها بالاهتراء والتّرهل، والفناء الأخلاقي. والعمل على إسقاط أقنعة لم تعد قادرة على حمايتنا من النّهر الجارف لسرديتنا المنهكة والمرهقة بأعباء ثقل إحياء فائدتها وهي رميم، تحت وقع ضربات أسئلة الحداثة كتراكم إنساني في المباينة وتوليد الفروق والاختلاف. ” المباينة هي بالضّبط ما يسمح للكائن بأن يبتعد عن ذاته، أو لنقل بالأولى، بألاّ يحضر إلّا مبتعدا عن ذاته”. إنّه لقاء بين فكر تلبس وجه القداسة والخير والكمال والطّهارة في بعدها التّدميري لشروط حياة إنسانيّة تعيش صراعها وأسئلتها وتناقضاتها وظلال عتمتها، إنّه فكر يسيج الفرد أو الذّات في الوجود الضّيق لكينونتها تحت غطاء ادّعاء انفتاحها المزدوج والمتعدّد على عوالم الحياة الّتي يخفيها ضيق العلمانيّة والتّدبير السّياسي للحياة المجتمعيّة والإيكولوجيّة. روح الدّين دعوة إيديولوجيّة لمعاودة إنتاج وتكريس العبوديّة الدينيّة والاسترقاق السّياسي والضّحالة الفكريّة. دعوة تأخذ على عاتقها بجديّة وضع قوانين، على طريقة الشّافعي في الفقه وابن خلدون في التّاريخ…،” ولا يقف الدّين عند التّقنين لجزء معين من أفعال الإنسان ومن الأحداث المرتبطة بوجوده كما لو كان هو الجزء الّذي يعنيه مآله، تاركا للإنسان المجال للتّصرف، على هواه، في باقي الأفعال والأحداث، وإنّما يتعدّى تقنينه هذا الجزء الخاصّ إلى أن يسع كلّ الأفعال وما يتّصل بها من الأحداث، ذلك لأنّ قيام الإنسان بمقتضيات هذا التّقنين الكلّي هو وحده الكفيل بأن يوصله إلى الغاية الّتي خلق من أجلها، وهي كمال التّعبد لله…

إذا كان التّعبد لله وحده هو الغاية من خلق الإنسان، لزم أن تهيمن هذه الغاية العظمى على جملة أفعاله، بحيث لا يحصل منه الفعل إلّا وهو يقصد أن يسير به قدما إلى تحقيق هذه الغاية، ولا يقين في قدرة أي فعل على ذلك إلّا إذا جاء على مقتضى الحكم الالهيّ، وكلّ فعل لا يتبيّن فيه صاحبه هذا المقتضى لا يأمن من أن يفضي به إلى التّعبّد للطّاغوت.”1   قوانين نمطيّة صارمة سياسيّة إستبداديّة بمظاهر إيمانيّة تعبديّة للسّطو على إمكانيّة التّفكير وانبثاق السّؤال النّقديّ أفقا للاختيار الحرّ لشكل الوجود ونوع الحياة والإيمان والانتماء…، كما لو أنّها دعوة لتأسيس فرقة دينيّة جديدة لبعث الرّوح في الجثّة الميتافيزيقية الّتي انتهت صلوحيتها.

لذلك هي دعوة عدوانيّة في اعتراضها ورفضها المطلق للإنسان في تدبير صراعاته الماديّة عبر الآليّة السّياسيّة، فهي في عمق استراتيجيّة الكتابة الّتي تنهجها والأهداف الّتي تتوخّاها تمارس تمييزا عنصريا حاقدا ممزوجا بالكراهيّة للذّات والآخر كأنا نفسي، وهي دعوة تعلن صراحة عن نفسها كفكر تكفيري رغم تبجّحها بالاتّساع الكاذب، وتعلن أيضا عن أحاديتها الطّهرانيّة الانغلاقيّة في إقصاء التّنوع والتّعدد والاختلاف في الفكر ونمط الوجود وأساليب الحياة، وفي الدّين والإيمان…، وفق ثنائيات: مؤمن/كافر، تعبد لله/تعبد للطاغوت، تبخيسيّة قدحيّة وتكفيريّة، مشحونة بدلالات الكراهيّة والعنف الرّمزيّ والتّمييز الفاشيّ في اعتقاد امتلاك الحقيقة والحقّ والجواب الصّحيح، والخير والكمال والأفضليّة…

وكلّ ما تطرحه من أفكار وهميّة في الاتساع، هي ليست أكثر من اختيار أحادي صراطي بين الإسلام والطّاغوت، تحت شعار من ليس منا فهو عدونا، أو بتعبير أدقّ من ليس مني كبنيّة فكريّة، فهو من عبدة الطّاغوت، والكفر والإلحاد. فكلّ هذه الأوصاف القدحيّة الملعونة بالفطرة والتّشهيد، وكلّ آليات التّنزيل للعالم الغيبيّ في العالم المرئي على حدّ تعبير طه عبد الرّحمن ، تجمعها وتجسدها في نظره العلمانيّة كشر شيطاني طاغوتي يجب سحقه والتّخلص من أسسه الخصبة الّتي تولدها السّياسيّة كأساس تملكي ينتج نزعة التّملك السّلطوي المؤدّي إلى الاستبداد والطّغيان والتّعبد للطّاغوت. مجرّد مبرّرات إيديولوجيّة لا علاقة لها بالفكر والتّفكير، بل تشتغل في أفق إنتاج آليات إيقاف التّفكير وهي تتوهّم نفسها أنّها وحيا منزلا يكفر بالسّياسة باعتبارها جاهليّة مولدة للطّغيان والتّعبد للطّاغوت. إنّه تهجم عدواني للتّأسيس لشرعيّة الحاكميّة والسّلطة الإلهيّة، وهي تؤسّس لقرية روحيّة لأتباعها يسميها “حيزات بلا دولة”، أي لعبيدها على هامش الإنسانيّة. وتكريس الجماعة والفرقة العبوديّة وفق منطق الملّة الّتي لا يزيغ عنها إلاّ هالك، في زمن ما بعد الملّة.

والأخطر من ذلك أنّها تسعى للقضاء على إمكانيّة إنسانيّة الإنسان في أن يكون فردا حرّا مستقلّا قادرا على التّفكير والسّؤال والاختيار لنفسه وهويّته وإيمانه…

أمّا بالنّسبة للإيمان الحرّ فهو تدريب أنفسنا على حُرقة الأسئلة والتّفكير المرعب والمؤلم في كلّ ما يشكلّنا من بقايا خرق سرديتنا البالية في الإيمان والكفر والإلحاد. أي عيش تجربة الشّر والنّقص والفقد في كوننا بشر نرغب بالضّرورة التّاريخيّة في التّخلص من أسر الآدميّة الدينيّة لعيش التّجربة الإنسانيّة وفق الشّرط الإنسانيّ وما وصل إليه من تطور حضاري. ومن ثمّة التّموقع في المنطقة المظلمة لحصة الشّر المحتوم دون ادّعاء الطّهرانيّة المتورطة في البحث عن السّمو والكمال وجنّة الخلد، بل جهدا في الفكر والوعي والإيمان بضرورة الهجرة إلى الإنسانيّة بعيدا عن متخيّل ميثاق العهد المحفور في ذاكرة الفطرة والتّشهيد المزعوم، وضدّ القوالب الجاهزة والانتماءات الموروثة للهويّات والانتماءات والسّرديات الّتي فقدت رشاقتها وإفادتها.

والإيمان الحرّ يبتعد  في أدواته ومفاهيم أفق تفكيره عن رواسب متخيّل الفكر الهووي ليتجرأ على اعتبار نفسه اختيارا حرّا لإمكانيّة نشأة مستأنفة في المشاركة في النّقاش العالميّ  من زاوية ما يعذبه ويؤرقه ويقضّ مضجعه كأيّ كان في الفهم والفعل، وفي الانتقال من العبد إلى الفرد، وفي القدرة على اختيار نفسه دون التّنكر لمصادر أنفسنا من خلال الكراهيّة والنّقد التّهجمي للتّنوير العدواني في الرّفض المطلق لمصائبنا ومشاكلنا وحرقة أسئلتنا وما تتطلّبه من ضرورات اكتشاف إمكانيات التّفكير وإعمال العقل والتّجرّؤ على الحسم دون تلفيق ولا توفيق. كورشة تأويليّة تهدف إلى تكوين القدرة على الخروج من صندوق القمامة الباعث على الغثيان لاختيار أنفسنا دون السّقوط في الوجه الآخر للفكر الدينيّ المتغطرس سواء في تسامحه الاعتقادي في إطار ما يعرف بحريّة المعتقد وتشكلّ الضّمير الحرّ، أو في عدوانيته كإلحاد يخاصم نفسه بنوع من التّآكلّ الذّاتي دون أن يدرك أنّه ليس أكثر من شكل آخر للإيمان المسدود. وهذا ما يتناقض كلّيا مع الإيمان الحرّ الّذي لا يتورّط في هذه الانغلاقات القاتلة، بمساحيق التّسامح والإلحاد، لقدرات الإنسان في أن يكون ويصير، وفي القدرة على اختيار ذاته والآخر والعالم، كهم إنساني يؤسّس تدريب وجوده على الحريّة المتحرّرة من أسر القوالب الموروثة أو الرّاهنة الّتي لا تكفّ عن ابتزازنا في إيماننا وموتنا وهويّتنا وانتماءاتنا…

الإيمان الحرّ إذن هو القدرة على عيش الفعل الإنجازيّ الخلّاق، دون خوف من ثقافة الخوف والابتزاز والتّملق، وبجرأة لا حدّ لها في التّحرر من السّرديات المتهالكة للدّين والملّة، كواقع محسوم في جده وجديّة أسئلته الّتي تجد أفقها الرّحب والعميق والواسع في الانفتاح على الإنسانيّة، بالضّد من روح الدّين الّذين يبتزّنا  في حقّ عيش لحظة عبورنا هذا العالم الدنيوي بمسرّاته وأحزانه، بخيره وشرّه، بنهاره وليله، بنوره وظلامه، بصراعاته وتناقضاته، يبتزّنا بتملّق يشي بالمذلة والمهانة في موتنا ملتهما حياتنا.

فما الّذي يجعلنا نعتقد في قدرة الإيمان الحرّ أو ما بعد الملّة على مواجهة الأسئلة الصّعبة الّتي تفرض نفسها ولا تقبل التّأجيل في انتزاع حريّة الاختيار والانتماء والإيمان بعيدا عن ثقافة الكهوف المسكونة بالنّكوص المرضي الّذي يقاتل إيديولوجيا فكر روح الدّين لترميم شبكته لمعاودة إنتاج الوصاية الدينيّة، وتكريس سطوة التّاريخ الدينيّ على الفرد خارج أفقه العقليّ والمعرفيّ للحياة الإنسانيّة، من خلال متخيّل ميثاق العهد بين الإنسان والإله الموشوم بالتّشهيد في ذاكرة العدم للفطرة البشريّة، كما يهلوس روح الدّين؟ وكيف يمكننا صياغة وجهة نظر نقديّة ونحن نفكّر الانفصال كما يطرحه التّفكير الفلسفي؟.

(يتبع حلقة ثانية)

Visited 10 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي