غاستون باشلار : رامبو الطفل

غاستون باشلار : رامبو الطفل

ترجمة : سعيد بوخليط              

”أيَّتها الحروف الصوتية،لقد صنعتم حكايات”

تريستان تزارا

(عكس الانقياد)

 منذ سنوات،تجلت أولى ملامح كتاب رامبو الطفل (1)،عبر صيغة أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في السوربون. اشتغل عليها كاتب انجليزي شابّ،أبدى شغفا نحو قصيدة رامبو. صار بعدها أستاذا يدرِّس حاليا الفرنسية في جامعة غلاسكو.

احتفظ الإصدار الجديد للكاتب سيسيل أرثر هاكيت،بنفس المعطيات الكبيرة للنسخة الأولى من هذه الدراسة.بل راهن أكثر على الاستفاضة في تبسيط تفسيراته بتركيز مختلف ملاحظته حول الخاصية السائدة في عمل الشاعر : طفولة تصبو إلى ثقافة شخصية،ثم معجزة مدرسة تطلَّعت وجهة القطع مع باقي المدارس.

لذلك،وأبعد من الصراعات العائلية فيما يتعلق بحياة رامبو التي لم يجد التحليل النفسي صعوبة بخصوص إبرازها،تكمن صراعات ثانية شَغَلت موضعا آخر وجبت دراستها عبر فصول العمل ذاته،ضمن هذه الثقافة الشعرية الغريبة التي ارتقت بمراهق كي يغدو نموذجا شعريا.

تحديدا،اهتم سيسيل أرثر هاكيت،بتنظيم مسألة الذهاب من العمل إلى الحياة.حاول تقييم مختلف الصور ضمن حساسية ازدواجيتها،فوضعها بين قطبي الحدس وكذا الوضوح.بالتالي، نكتشف بين صفحات كتاب رامبو الطفل مساهمة جيِّدة بخصوص التحليل النفسي للنشاط الأدبي.

إذا أراد التحليل النفسي مساعدة نقد النصوص،يلزمه على الأقل أن يقارب إشكالية التعبير الشعري،كأنها قضية خاصة.لايكفي الذهاب غاية المنابع السير- ذاتية للثنائيات.ينبغي تبيان كيف تغدو هذه الثنائيات،ضمن التعبير،التباسات غريبة.هكذا،تصبح قراءة أشعار رامبو تحليلا إيقاعيا حقيقيا.قصيدة مدهشة،تستبعد في الآن ذاته دلالة واضحة وحدسا ساذجا. انتفاء كل فنّ تعليمي،أو فعل صبياني: بل طفولة طبيعية،طفولة تجسِّد أصل الكلمة. 

لكن لنقدِّم بعض الدلائل عن استقلالية الكلمة في قصيدة رامبو.

خلال الفترة التي كان إبانها سيسيل أرثر هاكيت طالبا،أنشد أمامه صديق فرنسي قصائد مجموعة رامبو الشعرية”القارب الثَّمل”.فتحقق لديه استلهام فعلي يتعلق بطبيعة الأصوات الفرنسية، أصوات لغة أويل تخلَّصت – في نطاق الممكن- من الصَّخب الجنوبي.

نستوعب هذا الانبهار من طرف انجليزي إذا توخينا حقا أن نعتبر من جوانب عدَّة، تبنِّي قصائد رامبو الكبيرة سبيلا مغايرا عن القصيدة الانجليزية.

سأحاول عبر هذه المقاربة،توضيح مدى انفلات المقطع الشعري عند رامبو من الجِناس، ويتعقَّب السكينة الصوتية مستمتعا طويلا بالحروف الصوتية،مهما بدت مقتضبة، وكيفية الإشراف على الصوامت :”أضبط شكل وحركة كل حرف صامت”،يؤكد رامبو في عمله ”خيمياء الكلمة”.

هكذا تصبح القصيدة سعادة صوتية علاوة عن كونها سعادة للأذن. يقبع رامبو كليا في خضم طفولة لغة، اكتشفها مجدَّدا بواسطة بهجة التكلم.

طبعا،يلزم استحضار الحيِّز الكبير الذي تحظى به دراسات متعددة جدا حول المحاكاة.ونضع أمام عيوننا مقياسا طرحه أساتذة رسَّختهم المدرسة،وكذا”العلوم الإنسانية” لمختصين في النزعة الإنسانية امتلكوا ترخيصا بهذا الخصوص.

لكن بمجرد إزاحة مختلف حيثيات هذا الرُّكام،ينبعث رامبو العزلة اللسانية،الذي يعشق إرهاف السمع لأصوات لغتنا داخل الوعاء الرَّنَّان لمقاطع شعرية جديدة،مع رسم مساحة كافية – راحة تامة- حتى تتمكَّن الحروف الصوتية من امتلاك زمن قصد بسط مداها،ويتأتى لإرادة التحدث باطن اللاوعي ذاته،مجمل رنينها.

أيضا لن نحيط بكل معطى شعرية رامبو سوى إن أخذنا بعين الاعتبار مصدري الرمزين الكبيرين :البناءات الجلية والتنظيم اللاواعي.

كذلك،أودُّ تقديم إشارات معينة،بخصوص الشعرية الشفافة التي تتشكَّل في إطار سموِّ بعض المقاطع الشعرية.أساسا بمحاذاة الرمزية الحُلُمية تابع سيسيل أرثر هاكيت تأملاته.لقد أوضح  طبيعة تدفق الأنماط المثالية الحالمة الأكثر قِدَما ضمن موضوعات رامبو.

بهذه الخصوص،قصيدة رامبو شاملة.تشبه حلما مهيمنا،تكشف لنا إمكانية طفولة أبعد من الطفولة،طفولة تدرك بوعي ذاتها.

رامبو،كائن يلتمس خلال الآن ذاته”الألعاب والبخور”،بواسطة نفس الجملة الصغيرة (إضاءات،وعبارات).

لأقدِّم حاليا بعض الأمثلة عن الطمأنينة الصوتية في شعرية رامبو.

يلزم أن نضع سعادة التكلم،عند أصل الصوت نفسه،طفولة الصوت،نشأة الحروف الصوتية،ثم نضيف فورا،إلى تلك الحروف الصوتية الخمسة صوائت مركَّبة مثل(in،on،ou)… تتَّسم بميزة البساطة.

أيضا،توضح دراسة مسهبة للصوامت داخل شعر رامبو تدرُّجا هرميا للبساطة، تذوُّق رامبو لتلك الحروف الساكنة التي لاتضطهد الأخرى الصوتية،بل تجعلها فقط ترتجف، وتهيئ لها رسوخا أو توطيدا دائما. بالتالي،هذا الفن الحسَّاس للغاية على مستوى تباين الحرف الصوتي.هكذا،يظهر تعدُّد ثلاثة حروف(a)بين طيات مقطع شعري صاغته سبع مكونات :

Glaciers , Soleil d argent ,flot nacreux ,cieux de braises.

أنهار جليدية، شموس فضِّية، أمواج متلألئة، سماوات شُعَل (2).

سوى مقاطع شعرية جميلة تضاعف الحروف الصوتية دون العمل أبدا على استنزافها !تضيف إحداها:

Porteur de blés flamands ou de cotons anglais

حامل بذور فلمنكية أو قطن انجليزي

بلورت إثنا عشر نغمة نتيجة حروف العلة،تكرارا لأصوات تباعدت بدقة.تحديدا ثنائي(or)ضمن تركيب كلمة (porteur)(حامل) ثم (o) بالنسبة ل(coton)(قطن)،ليست تكرارا،كما أنَّ حرف (R) في (or)(الذهب)قد استدعت إليها أصواتا جديدة بواسطة الثنائي الحرفي(l’o )(3) .

أما بخصوص الثنائي الآخر(de)،فيمضي دون إثارة الانتباه نتيجة التجاهل الذي يصفع غالبا نَغَمية المكوِّنات.مادامت الأفعال،الصفات،وكذا الأسماء،تظلُّ أكبر حاملي الأصوات.هنا تكمن الجذور الحيوية،وكذا الأصول حيث تصير الأنماط المثالية للكلام دلالة رمزية.

تدوِّي العديد من المقاطع الشعرية على شرف مجد الموصوفات :

Des lichens de soleil et des morves d azur

طحالب شمسية وقطرات لازَوَرْدية  

L eau verte pénétra ma coque de sapin

يتسلَّل ماء أخضر إلى هيكل شجرة التنوب.

يطرح البيت الشعري،عند رامبو،خاصيات صوتية وليس كميات،إنه ليس زمنيا،بل ملونا أقصد تكتسيه ألوان أدبية،ثريَّة مقاطعه الشعرية المركزية،ضمن نواة تتأمل كلمات عدَّة مجازات. تضاف قيم التعزيم إلى السمة الصوتية.إذن،تسود صيغة إيقاعية للتعزيم- من بعيد- الإيقاعات المسموعة.الثمن الكبير لهذه الإيقاعات المرتبطة بالصفة،أنها اختبرت  البطء.

صدفة فقط،بوسع هذه الإيقاعات الاندفاع،يمكنها خلال لحظة،إثارة النَّفَسِ.لكن،ينبغي لها في خضم قاعدتها الجميلة،إتاحة التفكير،وكذا بناء التطابقات التي تذهب من الأنماط الأصلية إلى الرموز.

بهذا الصدد،استعاد سيسيل أرثر هاكيت تحديدا قولة مأثورة موجِّهة وردت عند رامبو في”رسالة عَرَّاف”:”ستكون هذه اللغة من الروح إلى الروح،بمثابة خلاصة لكل شيء، العطور،الأصوات، الألوان،فكر يمسك بفكر ثم الانطلاق”.

أضاف كذلك في نفس الرسالة :”أعاين انبثاق فكري : أتأمله ثانية،أصغي إليه،أرمي بضربة قوس : هكذا تحدِثُ السمفونية اهتزازا داخل الأعماق،أو تقفز إلى المشهد”.

يمثِّل هذا الانبثاق الفكري ولادة الوتيرة الصوتية.بل يكمن أصلها في لغة الإنسان، إنسان يبدع كلماته.عندما نقرأ رامبو بين طيات صمت الغابات،و هضبات أعالي نهر الميز، بين نهريْ الميز و المارن،عند أقاصي إقليم الأردين والشامبانيا،سندركه باعتباره مرشدا قصد البحث عن لفظة مفقودة.

وحده شاعر آخر سيخبرنا حقا عن تلك الحياة الأولى، داخل القرية ثم صحبة الكتب، بخصوص لغة نعشقها غاية النخاع،ونحن نتحدث ونقرأ.حسب هذا السياق،يخاطبنا سان جون بيرس في مجموعته الشعرية”منفى” :”هلموا كي تتعقبوا خطواتي،ونستعيد ثانية هذه المتعة الخالصة دون معطى شكل خطِّي حيث الجملة المقتضبة الإنسانية الاعتيادية؛نتحرك ضمن إدغامات واضحة،رواسب بادئات قديمة خسرت أوليتها،ثم نستبق أروع أعمال المنجز اللساني،نقتحم قنوات جديدة غاية بلوغ عبارات تنأى عن الوصف،ويبتعد التطلُّع أبعد من الحروف الصوتية وكذا تمدُّد تحوير النَّفَس،بناء على رغبة شفوية نصف صوتية،تسعى نحو نهايات صوتية خالصة”.

تبدو لنا شعرية رامبو بأنها تجيب على ثقة في قِوى اللغة. هذه الثقة،البعيدة حقا عن المهارات المتمرِّسة للغاية،بمثابة سمة فتوَّة،وامتياز طفولة منعزلة.نتبيَّن فعليا نشاط تلك الطفولة من خلال أطروحات كتاب سيسيل أرثر هاكيت عن قصيدة رامبو. وقد أوضح الكاتب تحديدا انطواء كل فصل من فصول بحثه على نفس الدليل.

شكَّلت مختلف فصول هذا العمل،محاور للبدء،تفصل بين أصول،مما أتاح للباحث ضمانة بخصوص اقتفاء آثار تطور قصائد رامبو منذ منبعها البعيد في أعماق اللاوعي، غاية الجمال الأدبي الأكثر حداثة وإدهاشا.

هامش المقالة :

المصدر :

Gaston Bachelard :Le droit de rêver(1970).P. U .F ;PP.159 -165.

(1)سيسيل أرثر هاكيت : رامبو الطفل،مكتبة جوزي كورتي.  

(2)هل يلزم القول بأنَّ حرف(a)بين طيات كلمة(braises)( شعل)،ليست حقا كذلك،ولايكتسيها ”لون” النبر (l’a) ؟

(3)”هناك(a)مدهشة امتلكت صبر أن تعتمد في الفرنسية ثلاثا وأربعين طريقة قصد تمثيل الحرف الصوتي(o)،دون تعديل ثان غير الحلم باللغة،وكذا المفرد في صيغة الجمع”(شارل نوديي المقاربة النقدية للمعاجم، ص 412).

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي