لِكُلِّ شَيءٍ إذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ!
د. السّفير محمّد مَحمّد خطّابي
عن خاتم شعراء الأندلس ونونيته التي ما فتئت تحرّك لواعجنا
الذكريات الحلوة، أحلام الماضي الجميل ما انفكّت تطلّ علينا من وراء الأيّام الخوالي التي مضت وانقضت وذهبت الحال سبيلها حميدةً بأهلها تظلّ لصيقةً وموثوقةً فى خلايا ثبج عقولنا ووجداننا وهي تستعصي على النسيان فكراً، وعطراً ،وشعراً، وأدباً.. تأتي هذه اللّمحة عن الأندلس الفيحاء بعد تعليقٍ طريفٍ، وبليغٍ، وموفٍ، ومفيد للأديبة والباحثة المثابرة فى التاريخ الأندلسيّ التليد الأستاذة صوفيا الجريري بلفقيه عن مدينة Ronda (رُندة) الإسبانية، هذا التاريخ الذي ما فتئ يشغلنا، ويسحرنا، ويروقنا، ويأخذ بمجامعنا، ويسيطر على ألبابنا جميعاً، مدينة رُندة معروفة بحمّاماتها العربية الشهيرة، وقلاعها العالية الحصينة، وقناطرها المنيعة، وبناءاتها التاريخية الشامخة، وجسورها المُرتفعة على أخاديد وتضاريس الجبال المحيطة بنهر (الوادي الكبير) الذي ما زال يحمل إسمَه العربيّ القديم إلى اليوم، فقلت: إلى هذه المدينة الإسبانية يُنسب – كما هو معروف لدى الدارسين والقرّاء وعشّاق الأندلس – الشاعر الأندلسي الذائع الصّيت أبو البقاء الرّندي (نسبةً إلى مدينة رُندة) وله قصيدة مشهورة جدّاً ومؤثّرة للغاية فى رثاء الأندلس مطلعها: لكل شيء اذا ماتمّ نقصانُ ، تعتبر هذه القصيدة من أشهر القصائد التي قيلت فى هذا القبيل، وكنت قد حفظتها منذ نعومة أظفاري، وأنا بعدُ غضّ الإهاب، طريّ العود عن والدي رحمه الله الذي كان مُغرماً، وشغوفاً ومن العشّاق الهائمين بأدب، وشِعر، وفنون، وموسيقى، وتاريخ الأندلس الفيحاء، ومازلت أحفظها عن ظهر قلب إلى يومنا هذا المشهود ولله الحمد .
في هذا المعنى يشير الشّاعر المغربي الصّديق الأستاذ عبد العزيز أشركي في هذا القبيل من لطفه، وأريحيته، وقريحته المتوقّدة مستعملاً على منوال الشّعراء الأقدمين الفطاحل قافيتها (النّونية) الرنّانة إذ يقول:
قصيدة مِن أبهىَ ما خَطَّ البنانُ / وما تَغَنَّى بِدُرَرِ بَحرِها اللسانُ
زادَها بهاءً أنْ بات لَها مكانُ / في صدركُم حيث يحفظها الوجدانُ
مُذ نَهِلَها عقلُكُم الفَطِنُ الرَّيَّانُ / مِن نبع والدِكُم أكرَمه الرّحمانُ
أصل الشّاعر ونسبُه
ونَسبُ الشاعر أبي البقاء الرّندي هو صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم بن علي بن شريف الرّندي الأندلسي (601 هـ -684 هـ الموافق: 1204 – 1285 م.) وهو من أبناء مدينة (رندة) وإليها نسبته إذ هي مسقط رأسه، ومسقط رأس العديد من الشعراء، والعلماء، والمعماريّين الرّندييّن الذين ينتسبون اليها أشهرهم العالم الأندلسي الذائع الصّيت عباس بن فرناس (810 – 887) الذي برع في عدّة حقول العلم والمعارف منها الاختراع، والهندسة، والطيران، والفيزياء، والشعر، والموسيقى، وهو أوّل من حاول الطيران في زمانه. تقع رُندة على مسافة حوالي 100 كيلومتر من حاضرة مالقة عروس الشقّ الجنوبي من بلاد الأندلس التي كان لها هي الأخرى شأن كبير خلال التواجد العربي- الأمازيغي بشبه الجزيرة الإيبيرية لمدةٍ تنوف عن الثماني قرون.
ومثلما أقام الكاتب الأمريكي واشتطن إيرفنغ في قصر الحمراء بغرناطة وكتب عنها قصصه الشهيرة، كذلك أمضى الكاتبان الأميركيان إرنست همينغوي، وأورسن ويلز فتراتٍ طويلةً من حياتهما في الجزء العتيق من مدينة رندة، وكتبا عن جمالها وتقاليد مصارعة الثيران فيها. وقد ساهمت أعمالهما في انتشار وذيوع شهرة رُندة. وفي العقد الأول من القرن العشرين الفارط أمضى الشاعر الألماني الشهير راينر ماريا ريلكه فترات طويلة كذلك في هذه المدينة، وكانت له إقامة دائمة في فندق راينا فيكتوريا Reina Victoria الشهير .
خاتم الأدباء في الأندلس
عاش الشاعر أبو البقاء الرّندي في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، (الثالث عشر الميلادي)، وعاصر الفتن والاضطرابات والقلائل التي حدثت من الداخل والخارج في بلاد الأندلس، وشهد سقوط معظم القواعد، والمعاقل، والقلاع، والحصون، والمدن الأندلسية في يد الإسبان، وتكاد تكون حياته مجهولةً، ولولا شهرة هذه القصيدة التي تناقلها الناس من جيل إلى جيل لما ذكرته كتب الأدب التي تُعنى بتاريخ الأندلس، وإن كان له غيرها ممّا لم يشتهر، توفي الشاعر أبو البقاء في النصف الثاني من القرن السابع ولا نعلم سنة وفاته على وجه التحديد. وقد كان بارعاً في نظم الكلام وصياغة نثره. وكذلك أجاد في المدح، والغزل، والوصف، والزّهد. إلاّ أن شهرته تعود فى المقام الأوّل إلى هذه القصيدة الفريدة التي نظمها بعد سقوط عدد من المدن والحواضر الأندلسية. وقال عنه عبد الملك المراكشي في (الذيل والتكملة): “كان الرّندي خاتمة الأدباء في الأندلس بارع التصرف في منظوم الكلام ونثره فقيهاً حافظاً فرضياً له مقامات بديعة في شتى أغراض الكلام نظماً ونثراً “.
لوحة أبي البقاء الرّندي
وتخبرنا الأديبة المغربية الأستاذة نادية ولاد عليّ أنه في آخر زيارتها لمدينة رندة، شعرتْ بأسفٍ عميق لتلف اللوحة الرّخامية التي تحمل اسمَ “أبو البقاء” باللغة الاسبانية ABUL BEKA كانت بلدية رُندة قد وضعتها تكريماً وتذكيراً لشاعرها الكبير والتي تتوسّط ساحة كبرى بقلب هذه المدينة الجميلة حيث تم تجميلها باللون الأبيض ولم يعد الإسم يظهر”. وترى الأستاذة نادية: “أنّ مثل هذا العمل لا يمكن أن يكون محض صدفة؛ فإتلاف إسم شخصية تاريخية عظيمة بهذه الطريقة، وترويج اسم “سان سيباستيان” San Sebastián لهذه الساحة بدلًا من الإسم الذي أقرّته بلدية المدينة وهو “أبو البقاء”، يبدو كعمل ذو دوافع مشبوهة، ربما يكون هدفه إشاعة الشكوك في تراث الأندلس أو تدليسه”.
عن اسم الرُّندا الموريسكيّ
وأشير في هذا القبيل إلى ذكرى طريفة ولطيفة بخصوص اسم (رُندة) الذي استقدمه الموريسكيّون المُهجّرون معهم قسراً وقهراً وعُنوةً من الأندلس إلى البلدان المغاربية التي استقرّ فيها أجدادُهم (المغرب والجزائر وتونس) على وجه الخصوص، إذ أنني عندما كنت أتابع دراستي العليا بجامعة عين شمس بالقاهرة كان معنا صديق مغربي من مدينة الرباط كان إسم عائلته “الرّندا” وكنّا نمازحه، ونتدّر به ومعه إذ كنّا نقول له: إنك رُندي مزوّر فلو كنتَ حقيقةً تنتمي أو تنحدر من مدينة رُندة الأندلسية لكنتَ تحفظ قصيدة جدّك الاندلسي الأبعد الشاعر المعروف أبو البقاء الرّندي! لأنه بكلِّ بساطة اتّضح لنا فيما بعد أنه لم يكن يحفظها، وكان الصّديق الرّندا ذا طبع مرح، وصدر رحب، وكانت له طريقة خاصّة مُميّزة في نطق الحروف حيث كان ينطق الثاء تاءً، والكاف همزةً وكان ألثغ الرّاء على منوال المتكلّم والمفكر الإسلامي المعروف واصل بن عطاء الذي كان يًلقّب ب”الغزّال الألثغ”!
ويشير الصّديق الشّاعر الرّقيق الأستاذ صدّيق عبد الكريم في نفس هذا المضمار: “أنا بدوري خلال دراستي العليا بمدينة الرباط كان معي في الفصل صديق رباطيّ إسمُه عبد الكريم رُوندا، وفعلاً كانت ملامح وقسمات وجهه أكثرَ أوروبية من عربية، وكان ينطق الثاءَ تاءً حتى الكلمات الإنجليزية. مثلاً كان ينطق: تلاتة بدل ثلاثة و 3 three تري بدل ثري، ولابدّ أنّ هذه الطريقة في النطق ربّما كانت إحدى مميّزات نطق الحروف لدى الموريسكييّن المنحدرين من الأندلس حيث كانوا يميلون الى تخفيف الحروف، وتهذيب وتشذيب الكلمات ونطقها مُصغّرةً من باب التلطيف، وذلك ما جاء في كتاب “لحن العوام في الأندلس” لمؤلّفه العالم الاندلسيّ الشهير محمد بن حسن بن مذحج الزّبيدي أبو بكر، والكتاب من تحقيق الباحث الجامعيّ المصريّ الدكتور رمضان عبد التوّاب”.
وفى ختام هذه العجالة ندرج هذه القصيدة العصماء نظراً لأهمّيتها وشهرتها في رثاء الأندلس:
لكُلِّ شَـيءٍ إِذا مـا تَمّ نُقصانُ / فَـلا يُـغَرَّ بِـطيبِ العَيشِ إِنسانُ
هِـيَ الأُمُـورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ / مَـن سَـرّهُ زَمَـن سـاءَتهُ أَزمانُ
وَهَـذِهِ الـدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ / وَلا يَـدُومُ عَـلى حـالٍ لَها شانُ
يُـمَزِّقُ الـدَهرُ حَـتماً كُلَّ سابِغَةٍ / إِذا نَـبَت مَـشرَفِيّات وَخـرصانُ
وَيَـنتَضي كُـلَّ سَيفٍ للفَناء وَلَو / كـانَ ابنَ ذي يَزَن وَالغِمد غمدانُ
أَيـنَ المُلوكُ ذَوي التيجانِ مِن يَمَنٍ / وَأَيـنَ مِـنهُم أَكـالِيلٌ وَتـيجَانُ
وَأَيـنَ مـا شـادَهُ شَـدّادُ في إِرَمٍ / وَأيـنَ ما ساسَه في الفُرسِ ساسانُ
وَأَيـنَ مـا حازَهُ قارونُ من ذَهَبٍ / وَأَيـنَ عـادٌ وَشـدّادٌ وَقَـحطانُ
أَتـى عَـلى الـكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لَهُ / حَـتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كانُوا
وَصـارَ ما كانَ مِن مُلكٍ وَمِن مَلكٍ / كَما حَكى عَن خَيالِ الطَيفِ وَسنانُ
دارَ الـزَمانُ عَـلى دارا وَقـاتِلِهِ / وَأَمَّ كِـسرى فَـما آواهُ إِيـوانُ
كَـأَنَّما الصَعبُ لَم يَسهُل لَهُ سببٌ / يَـوماً وَلا مَـلَكَ الـدُنيا سُلَيمانُ
فَـجائِعُ الـدُهرِ أَنـواعٌ مُـنَوَّعَةٌ / وَلِـلـزَمانِ مَـسرّاتٌ وَأَحـزانُ
وَلِـلـحَوادِثِ سـلوانٌ يُـهوّنُها / وَمـا لِـما حَـلَّ بِالإِسلامِ سلوانُ
أَتـى عَـلى الـكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لَهُ / حَـتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كانُوا
دهـى الـجَزيرَة أَمـرٌ لا عَزاءَ لَهُ / هَـوَى لَـهُ أُحُـدٌ وَاِنـهَدَّ ثَهلانُ
أَصـابَها العينُ في الإِسلامِ فاِرتزَأت / حَـتّى خَـلَت مِـنهُ أَقطارٌ وَبُلدانُ
فـاِسأل بَـلَنسِيةً مـا شَأنُ مرسِيَةٍ / وَأَيـنَ شـاطِبة أَم أَيـنَ جـيّانُ
وَأَيـن قُـرطُبة دارُ الـعُلُومِ فَكَم / مِـن عـالِمٍ قَد سَما فِيها لَهُ شانُ
وَأَيـنَ حـمص وَما تَحويِهِ مِن نُزَهٍ / وَنَـهرُها الـعَذبُ فَـيّاضٌ وَمَلآنُ
قَـوَاعد كُـنَّ أَركـانَ البِلادِ فَما / عَـسى الـبَقاءُ إِذا لَم تَبقَ أَركانُ
تَـبكِي الحَنيفِيَّةُ البَيضَاءُ مِن أَسَفٍ / كَـما بَـكى لِفِراقِ الإِلفِ هَيمَانُ
عَـلى دِيـارٍ مـنَ الإِسلامِ خالِيَةٍ / قَـد أَقـفَرَت وَلَها بالكُفرِ عُمرانُ
حَيثُ المَساجِدُ قَد صارَت كَنائِس ما / فـيـهِنَّ إِلّا نَـواقِيسٌ وصـلبانُ
حَـتّى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ جامِدَةٌ / حَـتّى الـمَنابِرُ تَـبكي وَهيَ عيدَانُ
يـا غـافِلاً وَلَـهُ في الدهرِ مَوعِظَةٌ / إِن كُـنتَ فـي سنَةٍ فالدهرُ يَقظانُ
وَمـاشِياً مَـرِحاً يُـلهِيهِ مَـوطِنُهُ / أَبَـعدَ حِـمص تَـغُرُّ المَرءَ أَوطانُ
تِـلكَ الـمُصِيبَةُ أَنسَت ما تَقَدَّمَها / وَمـا لَـها مِن طِوَالِ المَهرِ نِسيانُ
يـا أَيُّـها الـمَلكُ الـبَيضاءُ رايَتُهُ / أَدرِك بِـسَيفِكَ أَهلَ الكُفرِ لا كانوا
يـا راكِـبينَ عِـتاق الخَيلِ ضامِرَةً / كَـأَنَّها فـي مَـجالِ السَبقِ عقبانُ
وَحـامِلينَ سُـيُوفَ الـهِندِ مُرهَفَةً / كَـأَنَّها فـي ظَـلامِ الـنَقعِ نيرَانُ
وَراتِـعينَ وَراءَ الـبَحرِ فـي دعةٍ / لَـهُم بِـأَوطانِهِم عِـزٌّ وَسـلطانُ
أَعِـندكُم نَـبَأ مِـن أَهلِ أَندَلُسٍ / فَـقَد سَـرى بِحَدِيثِ القَومِ رُكبَانُ
كَم يَستَغيثُ بِنا المُستَضعَفُونَ وَهُم / قَـتلى وَأَسـرى فَـما يَهتَزَّ إِنسانُ
مـاذا الـتَقاطعُ في الإِسلامِ بَينَكُمُ / وَأَنـتُم يـا عِـبَادَ الـلَهِ إِخـوَانُ
أَلا نُـفوسٌ أَبـيّاتٌ لَـها هِـمَمٌ / أَمـا عَـلى الـخَيرِ أَنصارٌ وَأَعوانُ
يـا مَـن لِـذلَّةِ قَـوم بَعدَ عِزّتهِم / أَحـالَ حـالَهُم كـفرٌ وَطُـغيانُ
بِـالأَمسِ كانُوا مُلُوكاً فِي مَنازِلهِم / وَالـيَومَ هُـم في بِلادِ الكُفرِ عُبدانُ
فَـلَو تَـراهُم حَيارى لا دَلِيلَ لَهُم / عَـلَيهِم مـن ثـيابِ الذُلِّ أَلوانُ
وَلَـو رَأَيـت بُـكاهُم عِندَ بَيعهمُ / لَـهالَكَ الأَمـرُ وَاِستَهوَتكَ أَحزانُ
يـا رُبَّ أمٍّ وَطِـفلٍ حـيلَ بينهُما / كَـمـا تُـفَرَّقُ أَرواحٌ وَأَبـدانُ
وَطفلَة مِثلَ حُسنِ الشَمسِ إِذ برزت / كَـأَنَّما هـيَ يـاقُوتٌ وَمُـرجانُ
يَـقُودُها الـعِلجُ لِلمَكروهِ مُكرَهَةً / وَالـعَينُ بـاكِيَةٌ وَالـقَلبُ حَيرانُ
لِـمثلِ هَذا يَبكِي القَلبُ مِن كَمَدٍ / إِن كـانَ فـي القَلبِ إِسلامٌ وَإِيمانُ *
*تحريراً في 3 ديسمبر 2023 في مدينة (بُرج الطواحين) Torre Molinos بالأندلس الفيحاء.