أفق الأسئلة العالقة في رواية “زنبقة المحيط”

أفق الأسئلة العالقة في رواية “زنبقة المحيط”

عبد النبي بزاز

     ينحو الروائي المغربي مصطفى لغتيري منحى جديدا في روايته “زنبقة المحيط ” التي تميزت بطابع بوليسي انطلاقا من التسمية الواردة في عتبة العنوان (رواية بوليسية)، بحيث كان لتدخل الشرطة إسهاما بارزا في ما عرفته أحداث الرواية من مستجدات ومتغيرات ، وما عاشته وقائعها من إثارة استدعت دخول فرقة الشرطة لمتابعة المتورطين ومحاصرتهم ، وفك خيوط ما اقترفوه من أفعال ابتزاز واعتداء قد تصل إلى درجة القتل والتصفية الجسدية في ارتباط بشخص رجل الأعمال الثري كمال الذي شهد مسرح مرقصه (وردة الصحراء) بباريس العديد من مناوشات بسبب صراعات ذات أبعاد قيمية إنسانية كان محورها علاقته بـ “سارة” التي استغل فقدانها للذاكرة على توظيفها كراقصة بمرقصه لما تتميز به من جمال مثير، وميزات جسدية أهلتها لتبرع في أداء رقصات أبهرت رواد المرقص، ورفعت من منسوب إعجابهم،  دون أن يفكر في الاهتمام بوضعها العقلي المرتبط بفقدانها للذاكرة، فاستحسن استمرار الوضع على ما هو عليه، واتضح ذلك من خلال ما صدر عنه من تهديد مكشوف تجاه خالد حين علم باتصال زوجه ليلى بسارة توجسا من محاولة تحريرها من سلطته في استغلالها كراقصة تدر دخلا مهما على المرقص من خلال عدد الحضور ومدى إعجابهم بوصلاتها في الرقص: “هذه الأوراق كافية لإدخالك السجن. لقد أقرضتك كثيرا من المال، ولم ترد منه شيئا.. إذا لم ترجع سارة إلى المرقص في ظرف وجيز سأقدم ضدك شكاية لدى الشرطة”. ص  37، خصوصا أن خالدا لا يقوى على تحدي كمال وهو المدمن على لعب القمار ، ويعيش حالة إفلاس دائم كما أكدت ذلك زوجه ليلى: “هناك يمكنك أن تبتعد عن المشاكل، وخاصة مشاكل القمار التي تسلب إرادتك وشخصيتك.. ما ورثته من أموال ستقضي عليه في طرفة عين ..”. ص38، مما يجعله عاجزا عن التخلص  من غواية القمار وإغراءاته الشيء الذي أثر سلبا على شخصيته فتحول أحيانا إلى عميل لكمال مثل ما جاء على لسانها: “علاقتك بكمال . إنك متورط معه في كل شيء يقوم به”. ص 80، ولم يفلح في إبعاد التهمة عنه رغم نفيه لذلك في البداية: ” ـ لا أبدا إنك واهمة.” ص 80، حين واجهته بالدليل القاطع: “أخرجت ليلى صورة من محفظتها وعرضتها أمام عينيه الذاهلتين”. ص80، ولم يجد بدا من الاعتراف  بالحقيقة الساطعة: ” ـ إنه يضغط علي . ما بيدي حيلة .. لا أستطيع .. لا أستطيع .إنه يخيفني” .ص 80، فتلوح إرهاصات الطابع البوليسي التي ما تفتأ تخترق أجواء الرواية في ما صدر عن شقيق ليلى المخرج السينمائي يوسف من أفعال رصد وتعقب لتحركات التركي كمال في تكليفه لإبراهيم بهذه المهمة: “أريدك أن تتعقب رجلا.. إنه تركي حل حديثا في المغرب “. ص 76، وفي القيام هو نفسه بمهام الرصد والمتابعة عبر عملية التخفي والتنكر: “يتنكر يوسف بلحية مزيفة، ويقصد المستشفى دون أن ينتبه إليه أو يتعرف عليه أحد ..”. ص 228، وينتقل بعدها لفتح قنوات اتصال مع الشرطة حسب تصوره وخطته الخاصة: ” حين تأكد يوسف بأن الشرطة عاجزة، ولن تفيده في شيء. اتصل بالمحقق وأخبره بالتطورات الجديدة”. ص 87، ليتم التنسيق بينهما (يوسف والشرطة) في مراقبة كمال: “في محضر الشرطة يخضع كمال للتحقيق …”. ص 103، فهذا النسق السردي الذي يشكل الموضوع  البوليسي أحد عناصره ومكوناته في سريانه بجل أوصال الرواية، بل وكل إليه الحسم في مغامرة رجل الأعمال، ومالك مرقص (وردة الصحراء) بباريس التركي كمال والقبض عليه في آخر فصول الرواية: “قيد الضابط يدي كمال بالأصفاد، ثم طلب من شرطيين اقتياده نحو سيارة الشرطة لنقله إلى المخفر المركزي”.  ص 238.

وبرجوعنا لمسار الرواية والتي سيرت دفة أحداثها شخصيات أساسية في مقدمتها سارة، والتركي كمال، والمخرج السينمائي يوسف، وأخته ليلى زوج خالد، وشقيقة خالد سلمى، وسناء أخت يوسف الصغرى، ورحمة الناشطة الحقوقية والمدافعة عن ظاهرة استغلال النساء، والممثل الشاب سفيان، وخالة سارة وابنتها بثينة، فضلا عن شخصيات أخرى تأتي في درجة أقل على مستوى التأثير في الأحداث وتوجيهها كفؤاد جاسوس كمال، وضحايا العنف والاستغلال من فتيات ونساء كزينب، والحقوقية مليكة، وحادة أم خالد لتظل سارة شخصية محورية تدور حولها الأحداث في تساوق وتعالق مع شخصيات ذات تأثير نافذ على مجريات السرد وما عاشته سياقاته من  تغييرات وتحولات  كالتركي كمال ، وخالد وزوجته ليلى ، وشقيقها يوسف، ورحمة، فضلا عن سناء، وسلمى، وسفيان. شخصيات تقاطعت مع شخصية سارة بمستويات متفاوتة احتل مركز الثقل فيها التركي كمال الذي استقدم سارة لمرقصه بباريس كراقصة أبدعت وأبهرت في مهمتها اعتمادا على جمالها الفاتن الأخاذ، وجسدها الرشيق المثير، وقوامها الممشوق الجذاب في ظروف ارتبطت بسؤال محير حول حيثيات وملابسات فقدانها للذاكرة ، والسبل والطرائق التي استخدمها كمال في استقطابها للمرقص لتغدو راقصته المميزة، سؤال ضمن حزمة من أسئلة تحبل بها ثنايا الرواية لتشكيل أفق يلفه الغموض مما يشوش رؤية المتابعة لدى المتلقي، ويربك تصوراته في ما تعرفه سيرورة  الحكي من فجوات تكسر خطية السرد ، وتخلخل إيقاع توالي أحداثه ووقائعه.

وضع يختلف في ما عرفته حالة سارة العاطفية من تحول، وإن كانت وضعية ذاكرتها لم تتغير، وما ميز هذا الوضع من مرونة وسلاسة طبعت طريقة ارتباطها بيوسف في مشهد سينمائي احتفالي: “بسرعة أخرج يوسف من جيبه خاتما ، ببطء مرره في إصبعها بحركة بديعة تدرب عليها في ذهنه مئات المرات … حين أحاط الخاتم بالإصبع بدا أكثر جمالا وتألقا … حمل سارة بين ذراعيه ، لف بها بعض الدورات، وهي تصيح غير مصدقة ما يقوم به مجنونها”. ص 40، ورغم ما ميز هذا الزواج من  يسر إلا أنها لم يمعن في النمطية والثبات بعد ما عاشته علاقة يوسف بها من توتر بسبب ما شاب علاقتها بالممثل الشاب سفيان من انجذاب أثار شكوك الممثلين: “بدأت الوشوشة تنتقل من فم إلى فم عن علاقة مفترضة بين الممثل الشاب وسارة، الجميع لاحظ اهتمام الشاب المبالغ فيه بسارة ، كما اقتنص الممثلون النظرات غير البريئة التي ترشق بها سارة الممثل”. ص  159، وقد ساور الشك زوجها يوسف: “تدريجيا أخذ الشك يداعب ذهن المخرج بخصوص علاقة مفترضة بين سارة والممثل الشاب سفيان …”. ص 160، مما دفعه لمصارحتها بذلك: ” ـ ماذا بينك وبين يوسف؟”. ص160، فتجيبه بالنفي: ” ـ اسمع يوسف .. أقسم لا شيء بيننا … “. ص 161، إلا أن العلاقة لم تتطور بالشكل الذي رغب فيه كمال الذي شجع سفيان على الزواج من سارة لنسف اقترانها بيوسف في خطة مدبرة ومبيتة تكرس صراعه مع يوسف وما عرفه من تصعيد، وما عاشه من لحظات تشنج عصيبة إلا أنه لم ينجح في ذلك. ويأتي ما عرفته  علاقة سارة بسفيان من تجاذب عاطفي ليكسر إيقاع وتيرة زواجها بيوسف في تنويع للأسس السردية بتوجهاتها ومساراتها درءا للسقوط في مغبة أي إسفاف أو نمطية، عكس ما شهده مسار رحمة التي كافحت وناضلت في حدود مهامها الحقوقية والتي انحصرت في حماية الفتيات والنساء اللواتي يعانين من شتى أنواع الاستغلال  والعنف.

وقد كانت للصراع عدة  أوجه وصور داخل متن الرواية، بحيث احتدم بدرجات متفاوتة بين كمال وسارة من جهة في طابع هيمن عليه حب الامتلاك والسيطرة، وبينه وبين يوسف الذي تأججت بداخله نزعات عشق إزاء سارة فاختلفت الدوافع لدى الرجلين استخدم فيها كل أوراقه من تهديد لخالد الذي استغل إدمانه على لعب القمار فرهنه بالقروض، وتسخير الممثل سفيان للزواج من سارة وتقويض علاقتها الزوجية بعدوه اللدود يوسف وما أغدقه عليه  من هبات، لم يغفل عن توثيقها، على شكل قروض ترغمه على اتباع أوامره، والامتثال لشروطه. وتعاون مع الشرطة، وأحيانا خارج حدودها المعروفة بالنسبة ليوسف في متابعته لكمال، ورصد تحركاته المشبوهة بمعية عصابته في محاولة استعادة سارة، وإرجاعها لمهمة الرقص بمرقصه الباريسي. واتخذ الصراع أشكالا ومناحي أخرى في المنافسة التي نشبت بين سلمى أخت خالد، وسناء شقيقة يوسف الصغرى في الظفر بالزواج من كمال الذي كان من نصيب سناء وما نجم عن ذلك من حقد وضغينة لدى سلمى ووالدتها، وغضب وسخط لدى يوسف الذي لم يستسغ اقتران أخته بغريمه كمال وما حققه من اختراق لقلاع أسرته، واستمالة أخته لتصبح زوجته إلا أنها سرعان ما اكتشفت الجوانب المتقلبة في شخصيته كما أسرت بذلك لسارة: ” ـ في لحظات يكون أطيب الناس خلقا، وفي لحظات أخرى يتحول إلى وحش كاسر. ” ص 190، وعند إدراكها لخيوط اللعبة انقادت إلى ابتزازه بطريقة استباقية تفاديا لخروجها  من حياته خاوية الوفاض كما يكشف ذلك الحوا ر الذي دار  بينهما وما طبعه من حدة وتشنج استخدم فيه كلاهما ما يملك من أدوات كفيلة بتحقيق أقصى المكاسب حيث بادرها بنبرة متبرمة: ” ـ ماذا تريدين ؟ ـ أريد أن أضمن مستقبل ابني لم أعد أثق فيك”.ص 204، ونجحت في ذلك بعد سجال ساخن أرغمته فيه على التنازل لها عن شركة الإنتاج السينمائي. ومن أوجه الصراع الذي تضمنته فصول الرواية موقف سارة الرصين والمتسامح إزاء ما أبدته أم يوسف وأخته سلمى من كراهية لها: “كانت أم المخرج (يوسف) وأخته تتحدثان  عن موضوع اختفاء سارة بكثير من المتعة … ” ص  85، فلم تعاملهما بالمثل لما تتميز به من نبل أخلاق، وطيب شيم مما حد من تأجج هذا الصراع فظل منحصرا في طرف واحد المشكل من أم يوسف وأخته.

          فضلا عما زخرت به الرواية من مواضيع أخرى  كاهتمام سلمى بالمجال السينمائي ورغبتها في أن تصبح ممثلة مشهورة كما عبرت عن ذلك لليلى: ” ـ سأحصل على فرصتي قريبا وسأصبح ممثلة مشهورة. ” ص 64،  وسناء التي كانت تزاول مهنة تفصيل الملابس الغالية ، وأقامت حفلات لعرض الأزياء في كبرى الفنادق ، وكانت تنتظر فرصتها للانتشار خارج البلد الشيء الذي تأتى لها من خلال مشاركتها في فيلم من إخراج شقيقها يوسف وتكليفها بتصميم أزياء الممثلين باقتراح من سارة التي أدت الدور الرئيسي في ذات الفيلم: ” في تلك الأثناء ركبت سارة رقم هاتف سناء وأخبرتها بقرار إشراكها في الفيلم . ” ص 53 ، نفس الشيء بالنسبة لسلمى التي اقترحت عليها ليلى إكمال دراستها في الدعاية السينمائية نظرا لقربها من مجال التمثيل التي كانت سلمى تحلم بولوجه . أما رحمة فظلت منحصرة في الاطلاع على مشاكل النساء ، والعمل على  سلك كل الطرق المتاحة لإنصافهن ، والدفاع على ما يتعرضن له من مس لكرامتهن، ودوس على حقوقهن دون أن ترقى طموحاتها إلى أكثر من ذلك . بينما تفرغ يوسف لرصد والتقاط شخوص يؤثث بهم فضاء أفلامه التي تختمر موضوعاتها في ذهنه ، وتشغل اهتمامه في كل وقت وحين ، حيث انطلق من شخصية سارة بحكم اقترابه منها ، واحتكاكه بها  : ” بدأ يوسف في الاشتغال على فيلمه الجديد ، قصة الفيلم مستوحاة من حياة سارة التي ستقوم هي نفسها بتمثيل الدور الرئيسي في الفيلم. “ص 152 . فيظل باحثا ومنقبا عن ممثلين جدد في دائرة محيطه كما حصل مع رحمة التي فاتحها في إشراك زينب (وهي الفتاة التي تكفلت بها رحمة بإقناع والديها لإخراجها من حياة الاشتغال كخادمة من أجل إعالة عائلتها المعوزة ،والالتزام  بتربيتها وتعليمها): ” ـ أحتاج إلى فتاة صغيرة لتلعب دورا في الفيلم ، وأفكر في زينب. ” ص 156، مقترحا على سارة كذلك استقدام ابنة خالتها بثينة للتمثيل: ” ـ ما رأيك يا سارة في بثينة ؟ ـ ألا تصلح لتكون نجمة سينمائية؟ ” ص180 .

وتظل مقاربة شخصية سارة داخل المتن الروائي محفوفة بطابع إشكالي يفرخ العديد من الأسئلة، ويحيط به الكثير من الغموض لما عاشته من وقت طويل في قطيعة مع ماضيها الذي لم تعد تتذكر منها شيئا : ” إنها لا تتذكر من ماضيها شيئا ، فقط تتشبث ذاكرتها بماضيها القريب . لقاؤها بالتركي كمال أعاد تشكيل حياتها بطريقة ما… لقد قام بمجهود استثنائي منذ أن تعرف عليها في ظروف غامضة ، لا تتذكر منها شيئا.. لقد أثاره جسدها، فاجتهد بكل ما يملك من قوة ليجعل منها راقصة بارعة … ” ص 11، الغموض الذي يلف شخصيتها تنبثق عنه أسئلة محيرة تشكل لديها مصدر حيرة وقلق: “هل تكون فقدت الذاكرة لسبب ما؟ … كيف ومتى التقت بكمال؟ كيف أصبحت حياتها مرتبطة به بشكل كلي؟ كيف أصبحت راقصة؟ أين أفراد عائلتها؟ لماذا هي في فرنسا ؟وليس في بلدها المغرب؟ ” ص12 ، لتظهر ليلى وتنتصب كطرف في حياتها، من خلال مشاهدتها رفقة زوجها خالد في المرقص  مخبرة إياه بذلك: ” يبدو أني أعرف الراقصة … لا يمكن إنها هي.. أنا متأكدة من ذلك إنها سارة. ” ص 5، لتتضاعف رغبتها ، ويزداد فضولها في اكتشاف سر تواجدها هنا بمرقص وردة الصحراء في باريس ، مستطردة: ” ـ أنت لا تعرف سارة .. إنها تنحدر من أسرة ثرية جدا في المغرب.. جدها كان وزيرا وأبوها رجل أعمال يملك ثروة خيالية… حقيقة أستغرب أن تقوم سارة بهذا العمل في المرقص.” ص6 ، فعملت جاهدة على الالتقاء بها محاولة تذكيرها بعلاقتهما في الماضي: ” ـ ألم تتعرفي علي؟ أنا ليلى .. درست معك في المرحلة الثانوية، و كنت أزورك باستمرار في بيتك. ” ص 9، إلا أنها نفت كل ذلك، مؤكدة بأنها لم تكن  تعرفها من قبل: ” ـ للأسف لا أذكر أنني التقيت بك يوما.. اعذريني ورائي عمل كثير . ” ص 9، فربطت الاتصال برحمة الناشطة في منظمة عالمية تحارب ظاهرة استغلال النساء، كما اتصلت بشقيقها يوسف المخرج السينمائي لتشكيل فريق يتابع وضع سارة ولم يفوتوا فرصة الانتقال إلى المغرب رفقة سارة التي هربوها من فرنسا ولم يفتأ كمال أن التحق بهم لتنسج  فصول حكاية حبلى بألوان الإثارة، والصراع ليظل  وضع سارة على حاله في قطيعة مع ماض لا تسعفها ذاكرتها على استرجاعه رغم زياراتها المتكررة للطبيب: ” عند الطبيب النفسي، الذي اعتادت سارة زيارته كلما أحست بتوتر وأضحت غير قادرة على تحمل حالات الاكتئاب التي تداهمها بدرجات متفاوتة… ” ص 28، كلما تدهورت حالتها النفسية: ” تشعر سارة بألم فظيع يخترق رأسها، طنين متواصل مصحوب بضيق في التنفس، اتصلت بطبيبها النفسي الجديد…” ص 78، ولم تتمكن من استعادة ذاكرتها إلا بعد دخولها في غيبوبة حادة استفاقت منها  مسترجعة ماضيها المفقود والمحجوب: ” أحست معه وكأن حجابا انكشف عن حياتها.. تذكرت أحداثا كثيرة عن أيام الدراسة، تناسلت في الذهن صور من المحيط الذي كانت تعيش في كنفه، خاصة ذكرياتها مع أبيها الذي أحاطها دوما بحنانه… تذكرت صويحباتها اللواتي كن يرافقنها إلى البيت… تذكرت ليلى بالكثير من العنفوان… ” ص  225، وباسترجاع سارة لذاكرتها تنفتح الرواية على آفاق حافلة بأسئلة محيرة ومتشعبة: كيف وأين ومتى التقت سارة بالتركي كمال؟ ما ظروف وأسباب فقدانها لذاكرتها؟ كيف تم تغييب عائلتها الميسورة والثرية عن ملابسات هذا الحدث؟ ولماذا انقطعت صلتها بهم؟ من هَجَّرها إلى فرنسا؟ كيف سيغدو خطابها مع خالتها وابنتها بثينة بعد استرجاع ذاكرتها؟ لا شك أنهن سيسترجعن ذكريات تحفل ودا و حميمية ، وتطفح بمشاعر تواصل يمتح من حياض نبل الأخلاق، وصفاء القيم، وما يمكن أن يؤسسه من علاقات أكثرا تجذرا ، وأعمق رسوخا وثباتا .  أسئلة كثيرة شائكة ومعقدة تحرك فضول القارئ ، وتحفزه على خوض غمار تصورات وتوقعات كان ممكنا أن تؤول إليها وقائع الرواية بملء ما اعتورها من فجوات، واستعادة ما فقدته من حلقات لتبقى مفتوحة على قراءات المتلقي المتعددة، وتأويلاته المختلفة عبر استقراء مكنونات المسكوت عنه المحكوم برؤية الراوي، وخلفياته الإبداعية والفكرية في التأسيس لزخم أسئلة تخاتل ذهنه ، وترا ود مخيلته من خلال إشراكه، بشكل أو بآخر ، في رسم معالم الرواية، وتحديد آفاقها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ رواية ” زنبقة المحيط ” لمصطفى لغتيري ـ مطبعة الأمنية ـ الرباط 2015.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد النبي البزاز