أمير البيان.. شكيب أرسلان (3/2)
جورج الراسي
الأمير العروبي…
تحول الأمير شكيب أرسلان من فكرة الجامعة الإسلامية إلى فكرة القومية العربية، كان تحولا متدرجا فرضه تطور الأحداث قبل وبعد الحرب العالمية الأولى، مع المحافظة على أصول الإسلام القابل للتطوير بشكل يلائم الحياة العصرية… إذ لا يجوز في عرفه ربط التخلف بالإسلام، بل ربطه بالتخلي عنه، حيث يتحول الإسلام إلى وسيلة اساسية للمسلمين للحاق بالأمم المتقدمة. وهو يستبعد إمكانية قيام نهضة إسلامية من دون الانطلاق من الإسلام. الذي كان سبب نهضة العرب في القرون الماضية…
والواقع أنه استقى هذه الأفكار من الشيخ محمد عبده الذي صادقه وتتلمذ عليه، وعرف جمال الدين الأفغاني وتأثر به، وربطته صداقات وثيقة مع رشيد رضا وعبد الحميد بن باديس وسعد زغلول وأحمد شوقي وغيرهم من ألمع وجوه تلك الحقبة…
ورغم اِنتمائه الدرزي إلا أنه كان يتعبد على مذهب أهل السنة، إذ هو يصوم ويصلي ويزكي ويحج ويتبع العبادات كلها، أسوة بهم… ويعتبر الدروز فرقة من الفرق الإسلامية، يعود أصلهم إلى الشيعة الإسماعيلية الفاطمية المنبثقة من الشيعة السبعية، التي تقول بالأئمة السبعة، ويعتبر “بني معروف” ذروة الانتماء العروبي…
وقد تبلور نهجه العروبي بفعل عوامل عديدة، أهمها التحولات التي طرأت على الدولة العثمانية بعد الحرب الأولى، و مجريات الأمور في شتى الأقطار العربية مشرقا و مغربا…
انهيار امبراطورية… وانبثاق قومية…
لقد رافق الأمير بأسى انهيار الدولة العثمانية. فقد عارض حكومة “الاتحاد والترقي” منذ قيامها، وشهد هزيمة الدولة في البلقان، فراح يفتش عن وسيلة لإعادة إحيائها.. واستدعاه الخديوي عباس حلمي إلى مصر، لكي يمهد له تولي زعامة العالم الإسلامي، لكنه لم يرضخ لمطامحه، فغادر إلى فلسطين ومنها عاد إلى وطنه لبنان…
في عام 1913 عارض شكيب انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس بحجة المحافظة على كيان الدولة العثمانية، لا بل لبى الدعوة للمشاركة في افتتاح مجلس “المبعوثان”، ودعا من على منصته إلى تطويرها عبر إقامة مجموعة من المشاريع العمرانية كإقامة شبكة من السكك الحديدية، وتوزيع الأراضي على الفلاحين، و إصلاح النظام الضريبي…
لكن وقوع بلاد الشام في قبضة الاحتلال الغربي جعله يتبنى مطلب الوحدة العربية، وبدأت الفكرة القومية تحتل الحيز الأكبر في تفكيره منذ عشرينيات القرن العشرين، و أصبحت القضية السورية – الفلسطينية على رأس إهتماماته …
وحين وضعت الحرب أوزارها كان الأمير في برلين، فقرر العودة إلى الديار ، لكن ذلك كان متعذرا، فاختار الإقامة في مرسين ثم ما لبث أن انتقل إلى سويسرا المحايدة واتخذ من جنيف مقرا دائما له… والواقع أن الاحتلال الفرنسي- الإنكليزي لبلاد الشام لم يكن ليسمح له بالعودة، على اعتبار أنه ينتمي إلى “محور الممانعة” في ذلك الوقت (ألمانيا وإيطاليا…).
روما.. وبرلين.. وموسكو…
لعب شكيب أرسلان من جنيف دورا مهما في تغذية الدعايات المناهضة للغرب، بالتعاون المكشوف مع روما وبرلين، بخاصة بعد إصداره مجلة “الوطن العربي”، مزودا الصحف العربية بما يلزمها لمواجهة سياسة الاستعمار الفرنسي…
ولم يكن سرا أنه على صلة بالدوائر السياسية في برلين وروما. لقد بدأت علاقاته بتلك الدوائر في صيف العام 1917 حين انتدبته الحكومة العثمانية لزيارة ألمانيا في مهمة رسمية. فكانت مناسبة لكي يتجول في مدنها حيث تعرف على الكثير من المسؤولين، كان من بينهم كونراد أديناور، رئيس بلدية كولونيا آنذاك، و قد أصبح مستشارا لألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
لقد تعددت زيارات الأمير إلى برلين بعد ذلك، ومنها واحدة قام بها عام 1918 عندما أوفده أنور باشا، أحد قادة “حزب الاتحاد والترقي” للحصول على اعتراف الألمان باستقلال طاغستان وأذربيجان.
كذلك تردد على روما مرات عديدة، فزارها للمرة الأولى في آب / أغسطس من عام 1922، وزارها مرة أخرى عام 1934 حين قابل موسوليني لإقناعه بإعادة 80 ألف ليبي إلى ديارهم…
كان من الطبيعي أن يتهمه المندوب الفرنسي في منتصف الثلاثينيات بأنه يعمل في خدمة “المحور”، وسعوا إلى تحريض البريطانيين عليه.. علما أن الفرنسيين كانوا يشكون أن بريطانيا تشجع الاتجاه العروبي الذي اِتخذه الأمير بعد سقوط الإمبراطور ية العثمانية، فأرادوا حرق أوراقه…
والواقع أن دائرة اتصالات الأمير لم تقف عند حدود ألمانيا وإيطاليا، بل تعدتها إلى الاتحاد السوفياتي… فما لا يعرفه الكثيرون أنه أقام علاقات مع لينين ومع البلاشفة. فقد ذهب إلى باكو لحضور المؤتمر العالمي الذي نظمه لينين عند نشوء الاتحاد السوفياتي بغية استنهاض الشعوب الإسلامية للوقوف في وجه الاستعمار الأوروبي. وفي باكو نسج علاقات تحالف مع البلاشفة وما بينهم وبين أنور باشا…
والواقع أن تلك المحاولة لم تؤت ثمارها، ويعيد سبب فشلها إلى مصطفى كمال أتاتورك، و ليس إلى البلاشفة. فعندما عقد الزعيم التركي اِتفاقا مع الإنكليز لبناء دولة تركية حديثة، تخلى عن الإسلام والمسلمين…
فلسطين في القلب…
قرر المؤتمر السوري – الفلسطيني، المنعقد في القاهرة بعد الحرب، انتدابه لمتابعة القضية السورية لدى عصبة الأمم في جنيف… والواقع أنه وسع دائرة اهتماماته لتشمل كل القضايا العربية مشرقا ومغربا، وظل يتابع هذه القضايا من مقر عصبة الأمم في جنيف لمدة ست عشرة سنة…
في العام 1921 حضر الأمير في جنيف “المؤتمر السوري – الفلسطيني” الثاني الذي رفض الانتداب، وعين سكرتيرا له.
وعندما صدر وعد بلفور بتاريخ 2 تشرين الثاني / نوفمبر من العام 1917، قام الوفد السوري في أوروبا، ممثلا بشكيب أرسلان وإحسان الجابري باِحتجاج شديد اللهجة، فبعثا ببرقيات استنكار إلى انكلترا وإيطاليا وحاضرة الفاتيكان… وقد نشرت تلك المذكرة حينها جريدة “البيرق” نقلا عن مكتب الاستعلامات السوري في القاهرة، في يوم الإضراب العام في فلسطين احتجاجا على ذلك الوعد…
وقد تلقى تلك المذكرة كل من المستر ماكدونالد رئيس الوزراء الإنكليزي، والمستر هندرسون وزير الخارجية، واللورد باسفيلد وزير المستعمرات، و إلى النادي السياسي، وجمعية الاتحاد الوطني… وقد جاء فيها:
“بمناسبة الحداد العربي العام يوم ذكرى وعد بلفور، الذي يرمي إلى تحويل الأقلية اليهودية إلى أكثرية، وتحويل الأكثرية العربية إلى أقلية، ريثما تنشأ مملكة يهودية في فلسطين… خلافا لكل حق وعدل ولجميع العهود التي قطعتها انكلترا للعرب… يتقدم الوفد السوري – الفلسطيني إليكم باسم الشعب العربي، راجيا إلغاء هذا الوعد الذي لا يمكن أن ينتج عنه غير الخراب وإراقة الدماء…”.
وفي شتاء العام 1928 استجاب لدعوة المغتربين في أميركا الشمالية، وحضر المؤتمر السوري المعقد في ديترويت (حيث تعرف على الكاتب الأميركي لوثروب ستودارد، وكتب حواشي كتابه “حاضر العالم الإسلامي” …
وفي العام 1930 زار اسبانيا لاستعادة صفحات من مجد العرب، دونها في كتابه “الحلل السندسية في الأخبار و الآثار الأندلسية”.
وفي شهر آذار / مارس من تلك السنة 1930، أصدر مع السياسي السوري إحسان بك الجابري مجلة “الأمة العربية” La Nation Arabe ” باللغة الفرنسية، التي اتخذت من جنيف مقرا لها، واستمرت في الصدور حتى العام 1938، وكانت مجلة شهرية سياسية واقتصادية وأدبية وفنية، لسان حال الوفد السوري – الفلسطيني لدى جمعية الأمم…
وقد حظيت تلك المجلة بأهتمام بالغ من طرف كل المهتمين بالقضايا العربية، وعلى رأسهم الملك فيصل الأول، الذي ربطته صداقة حميمة مع الأمير، وكان إلى جانبه حين انتقل إلى جوار ربه في مدينة Berne في خريف العام 1933.
لكن الأمير طالما اشتكى من المصاعب المالية التي تواجهها (بخاصة في رسائله إلى الإمام محمد رشيد رضا..).. وقد منعت الحكومة الفرنسية دخولها إلى شمال إفريقيا و إلى سورية، فيما منعت الحكومة الإنكليزية دخولها إلى فلسطين.
وفي العام 1934 تم انتدابه مع أعضاء وفد السلام بين المملكة العربية السعودية واليمن، فنجح في وقف الحرب بين البلدين، وعقد معاهدة صلح بينهما.
جدير بالذكر أنه عقد العزم على زيارة مكة و المدينة والبقاع المقدسة عام 1929، بعد انتزاع الملك عبد العزيز بن سعود مكة من الشريف حسين سنة 1924.. وقد عبر فيما بعد عن سعادته باستقبال الملك عبد العزيز بن سعود له…
لكن همه الأكبر بقي فلسطين، فقد نبه باكرا من المخططات الصهيونية المبكرة في فلسطين، في وقت كان فيه معظم زعماء العرب غير مبالين بالخطر المحدق على الأمة العربية…
وكتب حول هذا الموضوع في جريدة “الأهرام” العام 1899، ثم في جريدة “المقطم” الفاهرية العام 1912، وكانت له معركة حامية مع المحامي اليهودي نسيم ملول… ودعا إلى عدم السماح لليهود بالدخول إلى فلسطين كرعايا دول أجنبية، حتى لا يستفيدوا من اتفاق “الامتيازات” الأجنبية الممنوحة لتلك الدول.
(يتبع : الأمير المغاربي…)
Visited 41 times, 1 visit(s) today