فيليب سوليرز: نقاش حول رواية ”مسافرو الزمان” (4/3)
ترجمة: سعيد بوخليط
ناتالي كروم :هي ”معركة روحية”؟
فيليب سوليرز: فعلا، مثلما أوضحت بين صفحات المتن، بوسعي نعت الأمر بـ”معركة روحية”، تلميح لن يفهمه سوى أربعه أو خمسة أشخاص. عنوان استلهمه رامبو لديوانه ”موسم في الجحيم”: ”المعركة الروحية شرسة كذلك مثل معركة الأفراد”. يبحث الجميع بشكل محموم عن مسودتي رامبو ”المطاردة الروحية”، وكذا ”المزيَّفون”الصادرتين بعد الحرب. إبَّان تلك الحقبة، بادر موريس نادو إلى توثيق النص، الذي عانى سابقا تزييفا فظَّا؛ وحده أندريه بريتون وضع الأصبع على الخداع من خلال نص ”جرم فادح”، لذلك يمكن أن يهدى له كتابي، لأنه يلزم التحلي بسمة التركيز والرجوع إلى سنة 1919، تحديدا أشعار لوتريامون داخل المكتبة الوطنية، كتابة هذه النصوص العظيمة مثلما الشأن مع بروتون ”نادجة”Nadja أو ”أركان” Arcane السؤال الجوهري: نتحوَّل نتيجة تجربة معينة، تغدو ثوريا ويوجد عدد معين من النصوص الأساسية قصد مساعدتكَ.
ناتالي كروم: يكمن هذا البعد الزمني، في روايتكَ”مسافرو الزمان”.
فيليب سوليرز: يوجد هذا البعد فيما يتعلق بمعركة روحية دائمة، إنها حرب العصابات، لذلك استحضرتُ رمزية توماس إدوارد لورانس بفضل نص رائع تماما” فن حرب العصابات”، ائتمنني عليه بيير نافيل قبل موته. اشتغلت زوجته دينيس على ترجمة كلاوزفيتس بجانب هولدرلين باعتباره إحدى الشخصيات الكبيرة خلال القرن العشرين. هذا النص ذكيُّ على نحو مذهل. الخلاصة في كلمتين، أنت في صحراء، تقود محاربين غير منتظمين، بالمطلق أمِّيين، أفضل وضع بوسعهم تجسيده: هكذا، يطبِّقون حرفيا الأوامر التي يتلقونها. باختصار، يجعلون من الصحراء محيطا، يخوضون حربا فوق رمال لانهائية كما لو أنهم يركبون قَاربا ويتحاشون الهجمات الأمامية: يهاجمون ثم يتراجعون، ويكرِّرون ذلك ثم يتراجعون، يكمن الهدف في انتهاء العدو إلى تناول الحساء بسكِّين، صيغة رائعة! ذات الاستراتيجية بالنسبة للكاتب: ”دائما، تندلع حرب مع القصيدة”. مؤسف أنَّ كل الشعراء، مخدَّرين راهنا نتيجة البؤس المطلق لقصيدة العصر الحالي، واستسلامهم لمؤَلفاتهم الصغيرة، ترَّهات سلسلاتهم الصغيرة، أشعارهم الصغيرة. القصيدة عظيمة، هي معركة كبيرة!
ناتالي كروم: إنها حرب ضد السلعة، وكذا الاستعراض.
فيليب سوليرز: نعم، جلّ مايحدث يعكس نهاية القصيدة، ومعها الكائن الإنساني: تفريغه المستسلِم. أجازف بكلمة كبيرة، حين قولي بأنِّي أنجز روايات ”ميتافيزيقية”.
ناتالي كروم: المقاومة من خلال الميتافيزيقا.
فيليب سوليرز: نعم ماذا نفعل هنا؟ لماذا يوجد شيء ما بدل اللاشيء؟ أن أصبح منذهلا باستمرار، غير ذلك أشعر بالسأم. إنها أسئلة حاضرة في كل مكان. مثلما يقول باسكال: ”أرى فقط سائرين أثناء النوم”.
ناتالي كروم: حسب هذا المعنى، بوسعنا التأكيد بأنِّ مجمل كتبكَ بلورت كتابا حربيا، وكتاب محاربٍ.
فيليب سوليرز: نعم، لذلك تتجلى قفزات وتراجعات. أهاجم، ويهاجمونني. الأمر عادي تماما. هذا يسلِّيك، لكني أقترف خطيئة في الصحافة، تحديدا مجلة ”لوفيغارو مادام”، هذا يرضيك؟ طبعا، لا؟ وأنا، أيضا! أستحضر جملة كتبتها صحفية ربما اسمها فاليري غانس: ”لازال فيليب سوليرز منتشيا، مع مسافري الزمان”سألتمس من ناشري وصديقي كي ينجز دعاية كبيرة بناء على هذه الجملة الوحيدة ويكتبها بحروف عريضة: ”فيليب سوليرز منتشيا دائما”، يوقِّع مقالة فيغارو مادام: ”فيليب سوليرز منتشيا دائما، لكن مقابل دفاعه عن جسده إذا أمكنني القول، فالرأس غير متَّفق”. لاحظي هذا التمييز الرائع، وقد اكتسى طابعا خاصا يحيل جدا على لوفيغارو!: ”فليرفع أصبعه، من لم يذكر هذا الاعتذار إلى البيت”. هل يمكننا تخيُّل أين وصلنا؟ يلزم الإلحاح، لأني ألامس معطى معينا وصفتُه سابقا في رواية”النساء”، ترك أثرا معتبرا. بوسعنا تأويل هذا الرواية طويلا جدا، وقد كتبتها قبل خمس وعشرين سنة: لم تتجعَّد. بالتالي، تزداد نفوذا!
ناتالي كروم: هناك إشارة في رواية النساء عن النساء.
فيليب سوليرز: ”ينتمي العالم إلى النساء. بمعنى الموت. بهذا الخصوص، الجميع يكذب”. نستعيد الموت، إذا أردتِ، مثلا عبر صفحات هذا الكتاب الرائع لـ كلود لانزمان ”أرنب باتاغونيا” الذي قرأه أغلبنا. سنلاحظ كيفية حديث ذاك الفارس حول حقيقة الموت، ثم معنى قوة الإنكار قياسا لما حدث له عندما أنجز فيلمه عن الهولوكوست.
ناتالي كروم: سنعود إلى الغنوصية. هذه الطريقة كي تنتشل الذات من التسلسل الزمني، وكذا ما يسمى بزمن الأجيال.
فيليب سوليرز: ”البيو- سلطة”،بمعنى الزمن البيولوجي. ستوثق ذلك في يوم من الأيام على قبرك: تاريخ الولادة وكذا الوفاة. يسهر المجتمع والأسر على تحقيق ذلك وفق هذا الترتيب.
ناتالي كروم: طريقة تدرج الحضور حسب التقويم النيتشوي.
فيليب سوليرز: لقد لاحظتِ بأنَّ أصدقائي الذين أنجزوا هذا الفيلم وضعوا بشكل خفيٍّ جدا في النهاية أرقاما رومانية تشير إلى سنة (cxxi) 121 .لماذا؟ لأني أستعيد التقويم النيتشوي، منذ روايتي ”حياة إلهية”، في إطار خطوة طموح مفرط، لكني أقرُّ، بوضع تقويم جديد انطلاقا من إضاءته يوم 30شتنبر 1988، وأوضحت هذا بتفصيل بين فقرات حياة إلهية. ماذا يعني ذلك ؟ الأمر بسيط جدا. يتبنى الجميع التقويم المسيحي، الذي أصبح اقتصاديا-سياسيا، بكيفية استثنائية، بحيث لايمكنني حاليا التوقيع على صفقة مالية وفق تاريخ آخر غير 2009، وإلا افتقد التوقيع المصداقية المطلوبة. حين الاندراج ضمن إطار هذا التأريخ، فأنت مجبر على الامتثال لعدد معين من التأويلات. تقويم مسيحي بالنسبة للعالم قاطبة، والحال أن الأفراد مسيحيون بنسبة تقارب واحدا على ثلاثة أو أربعة ضمن آخرين، ها أنا أعتقد بأنَّنا في زمن.121
ناتالي كروم: هل يمكننا تناول الأماكن في هذا الكتاب؟ فعليا، يكمن بعد الزمن، لكن أيضا الفضاء الخارجي، نصادفكَ عبر أمكنة مثلما الشأن بالنسبة للدائرة السابعة في باريس.
فيليب سوليرز: الدائرة السابعة، وحدة مكان، بل أضيف بأنه يبقى واحدا في نهاية المطاف. أتجوَّل في عين المكان، ثم أذهب لانجاز عملي داخل دار غاليمار، إلخ، وفجأة، تغدو فكرة وحدة المكان في التَّبلور، تدوِّي وتنفتح على تعددية الزمان. التاريخ هنا، فضولي جدا، ممتلئ بأشخاص متناقضين، ولحسن الحظ وُجدوا هنا، وضع شَكَّل باستمرار مذهب”ميثاق مع الفكر” لغاستون غاليمار، معطى أعتبره روائيا بكيفية مدهشة. عجيب أن نرى هنا أشخاصا عابرين يتنفَّسون، بل ولا يتبادلون التحية، كانوا أعداء وأحيانا يطلقون النار على بعضهم البعض، كما يقول مورياك: ”حينما انتهت الحرب، اندلع الصراع من أجل السلطة، ثم أيضا بين مالرو وأراغون، بخصوص من سيبادر الأول إلى إعدام الثاني”. بوسعنا قراءة ذلك مثل وقائع، اختبرها عدد معين من الأشخاص، مثل جورج باطاي الذي أضمرُ له تقديرا كبيرا، فقد عاش هذا التواصل، قرأ هذه الكتب، أحاط بما جرى، في إطار حسٍّ روائي للغاية. وألحُّ على أنه لم تبق سوى خمسة نماذج لمجموعات لوتريامون الشعرية، و لاأدري كم يلزم من الوقت حتى نكتشف في هذا الشارع الصغير، عرض نماذج عن ”موسم في الجحيم” (رامبو)، الصادر من طرف التحالف الطباعي الجامعي في بروكسيل، للبيع بفرنك. بالتالي، يلزم التخفيف من غلوِّ الخطاب السائد: توجُّه السوق ليس بالضرورة على صواب.
ناتالي كروم: هل شَغَل لوتريامون ورامبو ضمن روايتكَ ”مسافرو الزمان”، موقعا استثنائيا إلى حد ما؟
فيليب سوليرز: حتما،لأنه في نهاية المطاف،لم نحقِّق تقدما بخطوة منذ ترسُّخ سياق هذه السنوات الغريبة جدا.
ناتالي كروم: ماذا تعني بقولكَ ”لم نحقّق تقدما بخطوة ؟”
فيليب سوليرز: لم أر أيَّ جديد – إذا تناولنا الأدب الفرنكفوني- يمكننا مماثلته بمستوى تلك النصوص. لقد التمستِ مني أن أسرد لكِ عشرة عناوين تحدِّد كتبي المفضَّلة، سؤال طرح لدي إشكالية ثم تساءلت بخصوص ما بوسعي قوله: هوميروس، الإنجيل، دون إغلاق اللائحة. إذن، أجيب بأنِّي لن أستشهد سوى بعشرة كتَّاب فرنسيين: باسكال، سان سيمون، فولتير، شاتوبريان، بودلير، لوتريامون، رامبو، بروست، بروتون (بيان السوريالية) وكذا سيلين (دنيا الخيال لوقت لاحق). ستقولين لايوجد أجانب ضمنهم، نعم، أو بالأحرى يوجدون، فهم جميعا أجانب بالنسبة إلينا، مادمنا نحن الغرباء قياسا إليهم.
ناتالي كروم: لماذا هذا الاختيار؟ كنتُ فعليا أترقَّب إشارتكَ إلى اسم دانتي.
فيليب سوليرز: لا.أعتقد بأنَّه في خضم الاضطراب الذي يعيشه الفرنسيون منذ أمد بعيد، فليسوا جديرين بذواتهم، وكذا ماضيهم ثم الحاضر والمستقبل؛ ومن يجهل ماضيه لايمكنه أن يكون في المستقبل، يلزم تذكيرهم بهذه الأشياء الكبيرة. إذن، لم استشهد سوى بأسماء فرنسية! ثم أكتب أولا العبارة التالية بالفرنسية: ”أنا أيضا فرنسي”(i am too french) مثلما يقول الأمريكيون.
ناتالي كروم: خلال الآن نفسه،وفي لقاء سابق، عرَّفت نفسكَ باعتباركَ كاتبا أوروبيا من أصل فرنسي.
فيليب سوليرز: نعم، أنا حريص على ذلك كثيرا: من أصل فرنسي لكن أوروبي أولا. فقط أوروبا ليست بخير.ثم أعلنت فرنسا عن نفسها مثل بلد بئيس داخل أوروبا، بينما يلزمها أن تكون عاصمة أوروبا. إنها كراهية الذات، الشعور بالذَّنب، فالأمر مريع.
ناتالي كروم: لكن فكرة أن تكون كاتبا ”أوروبيا من أصل فرنسي”، فما سبب انعدام السعي نحو العالمية؟
فيليب سوليرز: لا أحبُّ كلمة ”عالمي”، وأرغب في التوضيح بأنَّ المثقفين لايأبهون تماما بأوروبا! بالنسبة إليهم كل شيء يمضي في الشرق الأوسط والولايات المتحدة الأمريكية ! بينما هناك إيطاليا، إسبانيا، ألمانيا .بلا ريب، تقدِّم أيضا أوروبا حياة رائعة.