محرقة غزة: روح المسيح

محرقة غزة: روح المسيح

    سعيد بوخليط

     كلما حان موعد الأسبوع الأخير من شهر دجنبر/ ديسمبر، وبداية تشكُّل خيوط استشراف عتبات سنة ميلادية جديدة، تستحضر البشرية الأجواء الروحانية أو هكذا يُفترض، من خلال ذكرى ولادة المسيح ثم حياة ومسار هذا النبي، بكل عبرها، معانيها الوجودية، دروسها الأخلاقية، مضامين قيمها البناءة، بل و أبعد من ذلك أسئلة عميقة لأنها مغايرة، لا تحضر دائما جراء نقاشات اليومي المعتادة، مادامت تنتقل بالفرد صوب إشكالات الارتقاء، الانبثاق، التحوُّل، الانبعاث، القطيعة المختلفة، اللامتناهي وباقي متواليات هذا الأفق النوعي.

   بمعنى ثان، بمناسبة سياق رمزية ولادة المسيح والانعراج الزمني، مثلما تجسِّده هذه اللحظة النوعية، يرنو تفكير الإنسان من محدِّدات ابتذالية تقويم زمن أفقي، كي يحلِّق متحرِّرا من ثِقل المادة صوب آخر عمودي يستعيد في خضمه حالته الأولى، شفافيته الفطرية؛ دون وَحل التلوُّث المجتمعي، زخم ذاته الخالصة، عمق كنهه؛ قبل انجرافه الأعمى  وراء الأسئلة المغلوطة التي تزيد من هوَّة مستنقع الزيف والانحدار: ”ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلَّه ثم خسر نفسه؟” (المسيح).

   كيف ترمِّم أشلاء مؤسسات المنتظم الدولي، ذاكرتها المثقوبة، حواسّها الميتة، حسّها المتبلِّد، جسدها المتورِّم والملتهب؟ فيما يتعلق بإبادة الشعب الفلسطيني” أريد رحمة لا ذبيحة” (المسيح)، ضمن محرِّضات هذا الاستشراف العمودي ارتباطا بزمان آخر، مغاير تماما لمانحن عليه بين طيات راهن يلتهمنا، قوامه زخم تراث المسيح الموصول بقيم الخلاص، مكابدة الصراع مع الخطيئة، الرحمة، التضحية، ملكوت السماء، التسامح، التفاني،المستضعفين، المظلومين، المستعْبَدين، المستبْعَدين، المهمَّشين، المحتَقَرين، المعذَّبين، المحرومين، اليتامى، إلخ: ”الله محبة” (المسيح).

   وطَّد سبيل المسيح؛ بجانب طبعا باقي زمرة الأنبياء والرسل وعظماء البشرية،عتبة مفارقة للغاية، بخصوص تفعيل أبعاد زمن عمودي يجعل الروحاني عند نواة الناسوت إن لم يسكنه، بداية ونهاية، روح متسامية ملهِمة تجعل الإنسان قريبا دائما، من التسامي الذي يراكم هويته الحقَّة: ”إيمانك يخلِّصك” (المسيح).

   إذن، مع استمرار تصاعد لهيب جهنم غزة الفظيعة على بعد كيلومترات قليلة من بيت لحم موطن ولادة المسيح، يؤكد فعليا بأنَّ البشرية؛ أو على الأقل ما تبقى من آثار هذا النعت، قد ضلَّت طريقها كثيرا، مما يجعل مصيرها في حاجة ماسة إلى تمثُّل وصايا لحظات تنحدر أكثر من توقيت الزمن العمودي، كي تلتقط أخيرا أنفاسها ثم تستكين طويلا إلى الصمت، التأمل، استبطان الذات، الولوج نحو عمق الأشياء: ”طوبى لمن كان صمته فكرا، ونظره عِبَرا، ووسِعَه بيته، وبكى على خطيئته، وسَلِم الناس من يده ولسانه” (المسيح).

   زمن عمودي، بمثابة طوق نجاة حيال أمواج الخراب العاتية، نتيجة تداعيات مشروع سرعة الاجتهاد في استتباب مآلات الانهيار الذي دشنته منذ فترة ليست بالقصيرة، العدمية الجذرية لرعونة منظومة الرهانات المالية التي تسيَّدت تماما وأضحت شريعة تسري على رقاب الجميع. عولمة أساسها معتقل ضخم، تتحكَّم في مصائر البشر حسب نزوات نخبة صيارفة العالم المعاصر: ”بيتي بيت صلاة يُدعى لجميع الأمم؟ وأنتم جعلتموه مغارة لصوص” (المسيح).

   محض تجَّار شرهين وجهة أسواق النخاسة ومنظومات الاسترقاق الحقيرة، يتعارض معنى الوجود لديهم مفصليا مع السعي الذي أراده المسيح، قصد الاهتداء بالإنسانية نحو برِّ الأمان، وتحصينها بمتانة قيمية حتى لاتنتهي خلال زمن من الأزمان تحت أقدام أسياد منظومة تنتج وستنتج فقط عوامل اقتلاع الأصل الآدمي من مكامنه لصالح إغراءات السلعة، البضاعة ودواعي السوق ثم لاثالث لهما: ”طوبى للمصلحين بين الناس، أولئك هم المقرَّبون يوم القيامة” (المسيح).

   اليوم، يُصلب الفلسطيني خلال اليوم الواحد ألف يوم على إيقاع طبول كرنفالات بهيمية، تديننا جميعا، في عين المكان الذي صدح منه صوت المسيح لأول مرة، مبشِّرا بممكنات زمن عمودي غير الزمن حتى يبقى الإنسان إنسانا، باعتبارها المهمة الأولى والأخيرة ومعركته المستمرة في هذه الحياة، وإلا سيغدو العالم مضمارا للتدمير على جميع الواجهات، مثلما نكابد راهنا :”سيأتي يوم يظنُّ فيه كل من يقتلكم، بأنَّه يؤدي خدمة لله” (المسيح).

   أقول، بأنَّ هذا الفلسطيني، الذي يعكس ضحية تكالب أهداف جيو-استراتجية في غاية القذارة، تستهدف المنطقة برمتها، تنسج خيوطها على نار ساخنة الامبريالية المالية والنظام الرسمي العربي؛ بقواه الرجعية واستبدادية أوليغارشيته الجاثمة على منافذ التاريخ كي يظل باستمرار لاتاريخا. تمثِّل مقاومته الأسطورية وفق أضلاع صليب: الحق، الحرية، المساواة .إنها سرديات يوميات تستعصي حقيقة على آليات التخاطب الطبيعي، استشرافا لانبعاث دائم، لايتوقف عن استدعاء تلك الحياة التي نستحقها جميعا فوق هذه الأرض: ”كل من يأخذ بالسيف، يُهلك بالسيف” (المسيح).

   ارتبطت تاريخية المسيح، بخاصيتي التضحية والفداء، متوخِّيا الانتقال بالإنسانية نحو مراتب السمو والنقاء، ثم يتخلَّص الفرد تبعا لمتواليات الزمن العمودي، من أدران مادة تعتِّم شفافية الكائن، وفظاظة غريزة بلا بوصلة تصبُّ نحو هاوية التدمير والفتك بالإنسان ”ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” (المسيح).

   حتما، يقود انقياد العالم الأعمى خلف نوازعه التسلطية اللامتناهية، صوب الانفجار العظيم هذه المرة من أجل النهاية وليس بداية بيغ بانغ، كما الشأن مع الوضعية التي يختبرها فعليا كوكبنا الأرضي على جميع المستويات، ضمن معالمها المذبحة الجارية  حاليا في غزة، فقد تكرَّس هذا الأسلوب لامحالة وأضحى بالتالي قاعدة دولية: ”طوبى للرحماء لأنهم يُرحمون” (المسيح).

   المسيح حزين للغاية، ينشد هناك في صمته السرمدي، رثاء لانهائيا على امتداد بدايات أنفاس الأرض، غاية انبعاث ثان حتى يخلِّص الجميع من ورطة الحياة وّشَرَك الوجود. الانتصار لمبدأ القتل، الإبادة، توطيد شرائع العصابات والمافيات، هكذا يتم تحويل غزة إلى حفرة بحجم الكون قصد التسلِّي فقط بتكديس مجاني لجثث البشر منذ ثلاثة أشهر ولازالت اللعبة مفتوحة على المجهول. تراجيديا أخرى، تؤكد بجلاء أنَّ جدليات بعث الحياة من عمق نواة الموت، تمكث قضية القضايا التي يلزم إعادة تأملها بشفافية وعمق، وجعلها مدخلا لولوج الزمن العمودي، كلحظة خالصة تستعيد في إطارها الإنسانية مجمل تاريخها الأصيل، والذي لن يكون سوى استحقاق هذه الأرض لحياة غير الحياة: ”طوبى للودَعاء لأنهم يرثون الأرض” (المسيح).

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي