حفريات عبد الله بونفور في تاريخ برغواطة
باريس- المعطي قبال
الرائج والراسخ في المخيل العام عن برغواطة أنها تبعا للتقديم العام لموسوعة وكيبيديا «إمارة أمازيغية نشأت في القرون الوسطى على الساحل الأطلسي للمغرب، وضمت الإمارة إتحادا من مجموعة من قبائل مصمودة. بعد فشل التحالف مع مُتمردي الخوارج الصفريين في المغرب ضد العباسيين، أقاموا مملكة لهم (744 – 1058) في منطقة تامسنا على الساحل الأطلسي بين آسفي وسلا بقيادة طريف المطغري. وتشير بعض القصص بأن بعض رؤساء البرغواطيين كانوا يدعون النبوة ويدينون بديانات لا تمت للإسلام بصلة».
لذا يطرح السؤال التالي: ما هو نصيب الخرافة من نصيب الحقيقة في كل ما يقال ويكتب أحيانا عن تاريخ برغواطة والبرغواطيين؟ لذا تبقى هذه الحقبة من التاريخ خارج الدراسة ولم يفها المؤرخون حقها من المتابعة والبحث… لذلك بعتبر البحث القيم الذي أنجزه الأستاذ عبد الله بونفور، وهو مشروع في ثلاثة أجزاء، إضافة نوعية قد تسد لا محالة ثغرات في تاريخ هذه المجموعة. فقد تصدى الدكتور عبد الله بونفور لهذا الورش الضخم لأجل التنقيب، الترتيب والتفكيك للعناصره المتوفرة بغية استجماعها كمادة متكاملة تنضاف إلى بقية الوثائق وتضيء تاريخ وجغرافية البرغواطيين.
في تصدير الجزء الأول من الكتاب يوضح الباحث مسعاه: لهذه الأنطولوجيا هدف أساسي ألا وهو صقل وتلميع الوثائق التأريخية العربية عن البرغواطيين وذلك لتقليص طابعها الخام. الصقل هنا معناه إيضاح وإنارة النصوص على المستوى التاريخي، اللساني، الأنثربولوجي، السياسي والديني. لذا يعتبر التذييل أو الشرح لهذه النصوص صلب الأنثولوجيا التي يمكن اعتبارها المرحلة الإعدادية اللازمة والضرورية لأية دراسة قادمة حول هذه المجموعة. كما قد تصلح كتقييم للدراسات السابقة. لذلك يعتبر هذا الجزء الأول تمهيدا واستهلالا لجزئين تاليين صدر منهما الجزء الثاني فيما يليه جزء ثالث يصدر هذه السنة.
وقد استفاد البحث من المتابعة العلمية التي ضمنها كل من الأستاذ محمد جنجار، عن مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود الدارالبيضاء، وأحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية. إلا أن الباحث ينهل من ثقافته وتجربته في مجال البحث العلمي وبالأخص في مجال اللسانيات والدراسات الأمازيغية التي يعتبر أحد المتخصصين في مجالاتها التاريخية، الأنثروبولوجية، والأدبية…
عبد الله بونفور أستاذ فخري في الجامعات الفرنسية. متخصص في الآداب المغاربية وبالأخص في الأدب الأمازيغي. اشتغل بجامعة محمد الخامس، جامعة بوردو الثالثة ومعهد الدراسات اللغوية في باريس. أقام أستاذا زائرا بجامعة هيدلبيرغ . أصدر أزيد من 15 دراسة ومائة مقالة. آخر دراسة تحت الطبع خصصها لتحقيق السيرة الذاتية للسي إبراهيم أكنكو التي تصدر عن منشورات لارماتان.
في مقدمة الكتاب ركز الباحث اهتمامه على جانبين أو مظهرين تقنيين: طبيعة الوثائق التي تم تقديمها والمشاكل التي تطرحها اللغة البربرية المستعملة في هذه الوثائق. استعمل الباحث مفهوم الوثائق بدل المناهل لثلاثة أسباب: أولها عدم وجود وثائق آتية من مصادر برغواطية بحيث لم يترك المجتمع الرغواطي أي أثر مع العلم أن التنقيب الاركيولوجي لم يهتم بعد بهذا الموضوع. تحت الحماية الفرنسية يشير عبد الله بونفور، انصب اهتمام الاركيولوجية على الحقبة الرومانية القديمة. بعد الاستقلال حلت الاركيولوجية الإسلامية محل الرومانية .
على أي فالوثائق المستجمعة هنا تقع خارج المجتمع البرغواطي. يعود السبب الثاني إلى المسافة النسبية التي تفرق بين التاريخ المدروس والوثائق الرئيسية لهذه الدراسة. السبب الثالث يعود إلى تباين هذه الوثائق. وقد ميز الباحث 5 أجناس أدبية مع أفضلية وهيمنة لجنس الخبر والإخبار أو ما يسمى بالحوليات كذلك. وأورد الباحث أسماء الأدباء والمؤرخين الذين أتوا على ذكر البرابرة وبالأخص البرغواطة ليلاحظ أن أغلبهم لم يخصص للموضوع حيزا كبيرا اللهم إلا بعض الإشارات. ومن بين هؤلاء الذين أحصى كلاماتهم عن البرغواطيين، نجد ابن حوقل، ابن حزم، البكري، البيدق، ابن أبي زرع، ابن الخطيب، ابن خلدون، ابن الأحمر، الحميري، ابن القاضي، الناصري الخ…
المضمون الثابت والمتكرر لهذه الوثائق أن برغواطة هرطقة وتمت محاربتها في مجموع إفريقيا الشمالية، والتي دام صداها إلى يومنا هذا. ويلاحظ بونفور أن أكبر حيز خصص للبربر نجده في أعمال كل من البكري (1894 كلمة)، الناصري (1840 كلمة)، الكانوني (1351 كللمة). ويجب إقامة علاقة بين هذا الإحصاء والجنس الأدبي المستعمل للحديث عن برغواطة. ويبدو أن الخبر والإخبار هو الطاغي والأمثل، وأنه يوفر مساحة أكبر للسرد التأريخي بدل الجنس الهاجيوغرافي. فالخبر يحكي الوقائع التي حصلت أو حدثت فيما الهاجيوغرافيا تحكي وتسرد الوقائع كما لو كانت خوارق وأحداث ما وراء الواقع التاريخي. يظهر التباين الوثائقي لما نأخذ بعين الاعتبار الظرفية التي أنتجت فيها هذه النصوص والتي تمتد على مدى 10 قرون، من القرن العاشر إلى القرن العشرين.
يبقى السؤال لدى استعراض هذا القسم الأول من عمل دقيق وقيم: هل كتب العرب تاريخ الأمازيغ والبرغواطة بالنيابة عنهم؟ أليس تاريخا بخلفيات سياسية، أيديولوجية وتاريخية مثلما مارس الفرنسيون ذلك في عهد الحماية لما استولوا على تاريخ المغاربة وأولوا معطياته، أحكامه وقوانينه؟ خصوصا فيما يتعلق بالبرغواطيين وأنه تمت المطابقة بين تاريخهم وصورتهم مع الهرطقة والشعوذة والخروج عن إجماع الأمة. ويمثل ابن ابي زرع أعنف خصم للبرغواطيين ولزعيمهم صالح الذي ادعى النبوة. وقد نعت هذا الأخير بـ«الرجل الخبيث » ودعا إلى أن تنزل عليه كل اللعنات. أما ابن خلدون فأوضح أن صالح «انسلخ من آيات الله وانتحل دعوى النبوة… ».
ويضيف بعضهم مثل البكري وابن عداري أنه ابتكر قرآنا مثلما زعم أن اسمه ورد في القرآن. ويؤاخذ بعضهم على الأتباع جهلهم بالدين . وفي كتابه سورة الأرض أشار ابن حوقل … أن «رجلا كان يعرف بصالح طريف بن عبد الله دخل العراق ودرس شيئا من النجوم وصلحت منزلته في علمها إلى أن قوم الكواكب وعمل التقاويم والمواليد وأصاب في أكثر أحكامه. وكان له خط حسن وفهم بأطراف من العلم وعاد فنزل بينهم، وكان بربري الأصل مغربي المولد مضطلعا بلغة البربر، يفهم غير لسان من ألسنتهم. فدعاهم إلى الإيمان به وذكر أنه نبي ورسول مبعوث إليهم بلغتهم واحتج بقول الله تعالى: «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه»، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي حق عربي اللسان مبعوث إلى قومه وإلى العرب خاصة، وأنه صادق في ما أتى به من القرآن والأحكام، وإياه أراد الله عز وجل بقوله: «وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير» ووعدهم غير كسوف فوجدوه وأنذرهم غير شيء فأدركوا وأصابوه على حكايته. فأفسد عقولهم وبدل معارفهم وافترض عليهم طاعته في سنن ابتدعها وأحوال فرضها واخترعها».
على أي يمثل البرغواطيون أحد حقب الردة في تاريخ المغرب، وأهمية البحث الذي أنجزه عبد الله بونفور هي أنه أماط اللثام على البرغواطية، نظامها الداخلي، بنياتها وتشكلاتها وهجرة لغتها إلى حقول دلالية ومعرفية كثيرة.
Visited 64 times, 1 visit(s) today