فيليب سوليرز: نقاش حول رواية ”مسافرو الزمان” (4/4)

فيليب سوليرز: نقاش حول رواية ”مسافرو الزمان” (4/4)

ترجمة: سعيد بوخليط

ناتالي كروم: وددتُ حينما سألتكَ بخصوص عشرة عناوين لكتبكَ المفضَّلة، أن تستحضر بين طيَّاتها أسماء عشرة كتَّاب أوروبيين.                     

فيليب سوليرز: ارتباطا بالسياق المعاصر؟

ناتالي كروم: لا، ضمن صفحات روايتكَ”مسافرو الزمان”.

 فيليب سوليرز: آه، سيكون سريعا، سنتناول الكبار. عندما يحضر اسم شكسبير، فأنت حيال الأدب الانجليزي، حين الإشارة إلى دانتي، فالأمر يتعلَّق بالأدب الايطالي، أما عن سيرفانتس فالإحالة مباشرة صوب الأدب الاسباني، إلخ. بينما يختلف كثيرا الوضع الفرنسي عن باقي البلدان الأوروبية. يبدو الأدب الفرنسي، من بعيد جدا، الأكثر انتشارا، تناقضا ثم ثراء. يوجد مؤسِّس في باقي الجغرافيات؛ لكن في فرنسا، إذا ورد اسم مونتين، تتم الإحالة أيضا على شيء ثان. لذلك، يزعج هذا السؤال ويلزم انبثاق الجواب ضمن الصورة، لأنه دقيق للغاية، معقَّد جدا، متضارب كثيرا، مفارق بما يكفي: فلا يمكننا أن نحب ماركيز دي ساد وجاك بنين بوسويه، أو ساد وباسكال. الخجل بأن تكون فرنسيا، تفسره بسهولة مبررات تاريخية متمركزة حول الثورة الفرنسية. هناك ذنب فظيع أو ما أنعته بـ”إعلانات من خلال الجثث”. بالنسبة للعصر الحديث، تحديدا سنة 1940، حكومة فيشي، مضمار سباق الدراجات في باريس، الفاشية، التعاون، ثم الاتفاق، الذي لايتحمل قط تسمية ”الجرمانية-السوفياتية”، بل ”الستالينية- النازية”. بعد ذلك، جاءت حرب الجزائر، التي كان يحظر وصفها بحرب لأنها مجرَّد سعي لـ”الحفاظ على النظام”، لقد قضيتُ شهورا داخل المستشفيات العسكرية، لذلك أدرك حيثيات موضوع كلامي، ثم 1968 الشبح الذي يلزم التخلص منه. فرنسا بلد استمر شعوره بالخزي نحو نفسه وعندما يُقال له: ”لاتستحق عظماء كُتَّابكَ، ولاتستحق الوجود من جراء كونكَ ضعيفا”، مايسمه بودلير دكتاتورية الضعفاء. الفرنسيون ليسوا سعداء، حسنا، لايهمّ!

ناتالي كروم: هل تحسُّ بالعزلة؟

فيليب سوليرز: أبدا !جميع الأموات هنا، يتواجد حشد يلتمس المساعدة، يحضرون كل ليل،مثل هاملت! لاأملكُ وقتا أخصِّصه لأحياء مرضى، يغدو حينها الأموات في خطر كبير: ”يشعر الأموات، المساكين بكثير من الآلام”، مثلما يقول بودلير بشكل مثير للإعجاب. لايمكنكِ تصور مدى تأثير مختلف هذه الأصوات. لست أبدا وحيدا، بل أعيش  تضامنا من لدن خزانتي بأكملها.

 ناتالي كروم: بما أنَّ الحضور متعدِّد داخل القاعة هذه الأمسية، أقترح على الجميع تناول الكلمة لمن أراد طرح سؤال على فيليب سوليرز.

جوزيان سافينو: أحبُّ إبداء ملاحظة قبل طرح سؤالين. أريد الإدلاء بإقرار جيِّد حول وظيفة تتعرض كثيرا للاستخفاف- أحيانا عن صواب- كما الشأن بالنسبة لوظيفتي: أقصد تحديدا الصحافة الأدبية. هكذا، اتضح إلي أنه قصد قراءة رواية ”مسافرو الزمان” ثم تدبيج نقد ذكيٍّ حولها، فيلزمني قبل ذلك التحلِّي بعشق الأدب وامتلاك حسِّ سمع موسيقي. والحال، يوم إصدار العمل، توالت تأويلات نقدية إيجابية من طرف أهم النقاد المعاصرين، مثل ناتالي كروم وميشيل كريبو، الحاضريْن هذه الأمسية، ثم الغائب فيليب لانسون وكذا مارك لامبرون؛ أسماء تدرك حقا معنى القراءة. حدث التئام معين لايتشكَّل دائما؛ أحبَّ فيليب لانسون محاورة فيليب سوليرس بين الفينة والأخرى على صفحات جريدة ليبراسيون، لقد استند شيئا ما إلى اختيار دقيق حينما تبنى عنوانا لهذا الحوار ”سوليرز، نبيذ معتَّق 2009”. طبعا، توالت بعد ذلك أوراق سخيفة، غير ذات أهمية: في العمق، أصحابها أشخاص لايعرفون موضوع حديثهم ويوجد هذا الصنف باستمرار. قيل عن الرواية في مجلة ”كتب إيبدو” بأنها انصبت على نوع من التوثيق لمرتكزاتكَ. تقييم أعتبره صائبا. شخصيا، تبيَّنتُ هذا العمل مثل صيغة استعادت الزمان ثانية – بغير الإحالة على بروست- وطريقة وظفها سوليرز كي يبلور تجمُّعا، ويكرِّس الصلة بين مختلف ما أنجزته سابقا، سواء مع رواية ”الفردوس” أو نصوص أخرى صُنِّفت على أنها طليعية بامتياز، وكذلك نص ”ستوديو”، حيث تحقق هذا الموعد صحبة هولدرلين ورامبو. فهل حكمت سوليرز إرادة شاملة؟ المنحى الثاني، يحضر جدا بين طيات مشروع سوليرز، يهمني بهذا الصدد النقد الاجتماعي، ولم تقاربه حقا مداخلات ناتالي كروم؟

فيليب سوليرز: قصد الإجابة على السؤال الأول، أعتقد بأني أحفر بعمق ضمن نطاق نفس الرواسب. المدهش، كوني أدركتُ الرواسب عن ظهر قلب، جيولوجيا، تاريخيا، أدبيا، فلسفيا، أتقبَّل تحدِّي كل قراءة، ثم حين النَّبش، أكتشف شيئا جديدا. هذا السؤال يثير اهتمامي: لماذا مجموع معين من النصوص، ليست بالضرورة دينية- أمكن الإنجيل، البقاء طويلا، ثم جاء التلمود لتأكيد المنحى – لكنها نصوص ذات أهمية كما الشأن مع دانتي أو هولدرلين، غير قابلة للنُّضوب؟ لقد اشتريتُ عشر طبعات من المجموعة الشعرية ”إشراقات” (بودلير) حسب طبعات مختلفة، وأعتقد بأنه يمكنني ولوج الجوهري تقريبا. كتبت إحدى الصحفيات على صفحات مجلة ليكسبريس، المنبر الذي احتضنني بشكل اعتيادي: “وردت إشارات قوية، حول رامبو، تمنحنا إمكانية الاستغناء عن إعادة قراءة فصل من أشعار الجحيم أو إشراقات”، مذهل. لماذا؟ لأنَّ المجلة نفسها باشرت دعاية كبيرة لكتاب جان جاك لوفرير عن رامبو، الذي بعث لي فيما مضى رسالة تهنئة بخصوص منجزي حول لوتريامون و رامبو- على الأقل هو باحث متخصِّص- لكن، بما أنه حظي بتناول جيد في ليكسبريس، فلا ينطوي الأمر على مبالغة، وبوسعه كتابة رسالة تقويم. أما عن السؤال الثاني حول النقد الاجتماعي، فلن أتوقف عنده كثيرا. يظن البعض بؤس فكرة أنَّ المجتمع يفرض نفسه، بحيث يمكننا إصلاحه، بل تثويره، لكنه صار حاليا إلها. يؤكِّد مقياس هذا النقد على تصميم الفرد بالمطلق من طرف المجتمع: ينشأ الفرد مجتمعيا، يعيش مجتمعيا، يشتغل مجتمعيا، يموت مجتمعيا. منظور، كما لو يسعى نحو جعل الكون معسكرا للمراقبة، مثلما الوضع الجاري حاليا: كل شيء مجتمعي. أفق استشرفه جورج أورويل، لكن قصد تبيان خلفيات الفكرة، ينبغي الذهاب بعيدا، واستدعاء تحليلات أخرى: البيو- سلطة مثلا، إعادة إنتاج النوع، التقنية. جملة نظريات بصدد التراكم. ما الحرية قياسا إلى كل هذا الانغلاق؟ السؤال الصغير الذي أطرحه، لاسيما على مستوى قدرة القراءة، لأنه استبداد مثير للريبة بصدد التكرُّس مبدئيا: لاحظنا مفعول ذلك مع سلمان رشدي مثلا وفق أشكال بشعة. مع ذلك، ليس الأهم الرقابة الدائمة، بل أخرى تتَّسم بمكرها ونعومتها، أو ما اصطلحت عليه بـ”خلق الالتباس”. بالتالي، كيف تودُّون استمرار التمسُّك بالجوهري حينما تكون أمام ستمائة كتاب ودعاية جامحة بخصوص كتَّاب سيغمرهم النسيان سريعا جدا أو كتَّاب أنغلوساكسونيين لن يلتفت إليهم أحد خلال سنتين؟ بوسع الأزمة أن تشهد استحقاقا عندما تفضي إلى عاصفة، مبيعات سيئة للكتب ثم غباء شامل؛ هكذا تجلت المعطيات كذلك عام 1870، مع رامبو و لوتريامون. عموما، صدر كتابي خلال شهر يناير، ولحسن حظي، أرواغ، وعما قريب سنصير نحو الأسوأ.

جوزيان سافينو: أودُّ تقديم هوية السيدة التي ستتناول الكلمة. تسمى تيري سودور، ناقشت مؤخرا أطروحة حقا مثيرة للاهتمام حول رواية سوليرز ”الفردوس”، مع ثناء لجنة المناقشة، وأتمنى أن تخرج هذه الأطروحة ذات يوم إلى عموم الجمهور، بالنسبة لمن قرأوا هذا العمل الروائي الذين انسابوا خلف الموسيقى، الأنغام، لكنهم لم يفهموا حقا مختلف الإشارات التي نجحت تيري سودور في تفكيك رموزها.

تيري سودور: أرغب في استحضار اسم جاك هنريك الذي تكلم عن أوديسة ويتجه ذهني نحو أوليسUlysse، حيث يذهب بين فترة وأخرى، كي يزور الأموات لاسيما أبيه لارتيس؛ ثم جاء الحديث عن هاملت الذي لن يذهب للبحث عن الأموات، بل الأموات من سعوا إلى  البحث عنه. أتساءل، في خضمِّ القراءة، إن كنت من يبادر للبحث عن كتَّاب أو بالعكس هم من يأتون عندكَ؟ بمعنى ثان، هل توفرت لكَ كتب بمحض الصدفة بخصوص تطوير سرديات روايتكَ ”مسافرو الزمان” أو قرأتَ بطريقة تقريبا موسوعية ولم تبحث عنها؟ هل ذهبت إليها أو هي من شدَّت الرحيل إليكَ؟ ربما يسلك الأمر الوجهتين؟

فيليب سوليرز:  الاثنان. صحيح أنِّي أبحث طيلة الوقت عن ملاحظة جوهرية يُتَوافق  حولها هنا أو هناك؛ مسألة صادفتها عند كافكا مثلا، فنادرا ما يُظْهر تناقضا مفرطا حيال مختلف الصور التي ارتبطت به.أحاول ”إزالة الرواسب”، مفهوم استعمله دانتي، وبقايا الأنظمة الدينية. سعي يقتضي صبرا كبيرا دون تجلي ذلك. أذهب صوبها لأنه يستحيل القيام بخلاف ذلك. هكذا، يتبلور الأمر وليس بطريقة أخرى، وإلا فهناك فقط تبذير للوقت. مذهل، أن نقرأ إبداعا للمرة مائة وخمسين ألف مرة ثم نكتشفه جديدا، إحساس يبعث عندي إشارة. بوسعي أيضا وفق نفس المستوى، القول بأنَّ معطى جديدا، ينزع نحوي قد بلوره هذا المسافر أو ذاك. إذن، بقدر تحقيق تطورات شخصية، أصبح قريبا جدا من الملاحظة الجوهرية، وبالفعل أمتلك محاورين. هناك رسالة رفيعة كتبها ميكيافليي، حيث لاشيء على مايرام خلال فترة نفيه إلى فلورنسا، لكن ليس مثل دانتي، الصادر في حقه حكم الموت، ثم انكبَّ على هيكلة فصول عمله ”الكوميديا الإلهية”في خضم قرار إعدامه، فهل يوجد أكثر روائية من صنيع بهذه الكيفية؟ يعود ميكيافيلي مساء إلى منزله، بعد أن قضى يومه وسط الغابات وكذا أعمال الفلاحة، ثم يبدأ نقاشا مع أرسطو. وُجد أفراد من هذه العيِّنة طيلة آلاف السنين؛ مثل اليهود الذين قرأوا التوراة، فقد كانوا على صواب، لأنَّ ذلك  يتيح إمكانية الصمود!

جوزيان سافينو: ألاحظ كتابا آخر أمام ناتالي كروم، عنوانه ”وقت رائع كبير”، هل بوسعكَ أن تقول لنا كلمة بخصوص مضمونه؟

فيليب سوليرز: الكاتب شخص شاب يسمى غيوم الصغير، شرع بغتة دون أن يلتمس منه أحد شيئا، يتصفَّح نصوصي كي يستخلص منها مضامين هذا العمل. يبلغ الشاب ثلاثين سنة، يسكن مدينة روان، عاطل عن العمل، لايتطلع قط نحو حياة ”مجتمعية”، شخص غير مجتمعي، يرفض الاشتغال على إنتاج يتضمن طابعا ”مجتمعيا”: لقد أنجز عكس ذلك تماما، وحدث أن أخرج عمله إلى القارئ. تنطبق على هذا الشاب، ماوصفه ستاندال بالقارئ المتطوِّع مثلما أحال عليه باستمرار، لاسيما من خلال تقديم لوسيان لوين ”أيها القارئ المتطوِّع”، هكذا انتهت رواية ستاندال ”دير مدينة بارما ”، بالنداء التالي : ”أقلِّية هم السعداء”.

ناتالي كروم: جزيل الشكر فيليب سوليرز.                                                                     

مرجع الحوار:

  • Nathalie Crom : Philippe Sollers. Entretien avec Nathalie Crom; éditions de la Bibliothèque publique d’information.2010. pp :3-19.                                              
  • 1)بادر فيليب سوليرز صحبة جان ايديرن آليي (الأخير انسحب سنة 1962) إلى إصدار ضمن منشورات “سوي”وكذا الإشراف على مجلة ”تيل كيل”مابين سنوات (1960- 1982). وأعاد إصدارها ثانية تحت عنوان ”اللانهائي”، عند منشورات دينويل. شهر مارس 1960، اكتشف الجمهور العدد الأول لهذه المجلة، التي افتتحت صفحاتها بقولة نيتشه: ”أريد العالم وأريده مثلما هو”. تبلورت المجلة كمشروع مناهض لتصور سارتر، بحيث توخَّت تخليص الكتابة من كل التزام سياسي. تبنَّت المجلة نصوص فيليب سوليرز، جوليا كريستيفا، مارسيلين بلينيت، لكن أيضا إبداعات كتَّاب شباب، وأسماء كبيرة مثل فيليب روث،  ميلان كونديرا، فيرديناند سيلين.      

         2) ستيفان مالارميه:  قبر  إدغار بو، 1877، في كتاب بول فيرلين ”الشعراء الملعونين”.

      3)شارل بودلير: أعمال صادرة بعد الوفاة. ”مشروع مقدمة من أجل طبعة جديدة ماي 1908”.

      4)هنري شارل بيش (1902 – 1986)، مؤرخ أديان وأستاذ كرسي لتاريخ الأديان. 

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي