توالد الحدث وعناصر السرد وموضوعاته في رواية “على إيقاع نهر الأحزان”
عبد النبي بزاز
ينتقل القاص المغربي بوعزة الفرحان لاجتراح نوع سردي يتمثل في الرواية، بعد أن أبدع في مجال القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، التي سخر لها كل مقدراته الإبداعية، وإمكاناته السردية التي راكمها في كتابة القصة القصيرة التي أصدر فيه 6 مجموعات قصصية، فضلا عن نصوص في القص الموجز (قصة قصيرة جدا). ولعل ما يميز عمله الروائي الموسوم بـ “على إيقاع نهر الأحزان”، هو النفس الطويل نسبيا الذي امتد على طول (343 صفحة) بتعدد وتنوع الشخوص، وكذا الأمكنة والأحداث التي انمازت بتوالد غزير ومسترسل في تكامل وتماه مع الشخصيات.
ومن أهم شخوص الرواية عبد الرحمان العبدي القادم إلى قرية مرشانة من منطقة عبدة، حيث أقام رفقة زوجته ببيت خدوج، وكثيرا ما كانت تجتاحه ذكريات تتعلق بأسباب رحيله من بلده مفعمة بلواعج الأسى، وبواعث الغم، فيصرفها عبر أسئلة كالتالي: “لماذا هربت من بلدي؟ لماذا كتب علي أن أقتل وأن أحرق؟ لماذا لم أستطع وقف جريان التذكر؟… ما هو مستقبلي هنا في هذه القرية هل بإمكان الزمن أن يعيد لي ما فقدته في بلدي الأصلي؟) ص8، إلا أنه لم يفلح في التخلص من فكرة الانتقام التي سيطرت على عقله، وتغلغلت في أعماق مشاعره: “كان يحس بالظلم و الإهانة، ويتطلع دوما إلى الانتقام. “ص10، تعويضا، بشكل غامض وفضفاض، لما عاشه من نكبة ظلت تفاصيلها جاثمة على حسه وذهنه: “فهو لم ينس تلك الفاجعة التي لحقت أسرته من قتل وتنكيل في قبيلته الأصلية عبدة. ” ص 10، وقد ألصقت به، في قرية مرشانة التي حل بها، صفة الغريب: “أهل القرية ينادون الرجل الغريب مرة بـ (عبد الرحمان) ، ومرة بـ (العبدي). ” ص 7، وانعكس ذلك على سلوكه الذي شابه التحفظ والاحتراز لزم معه الابتعاد عن أفراد محيطه: “الرجل الغريب كثير الابتعاد والتخفي عن أبناء القرية… ” ص 7، فقد استضافته، في البداية، خدوج رفقة زوجته في بيتها، وعرضت عليه الاشتغال عندها مع قرب موسم الحصاد: “يقال إنها عرضت عليه أن يشتغل ليساعدها في أعمال موسم الحصاد القريب. ” ص 6، فاستغرقته وتيرة الزمن داخل رحاب القرية: “مرت سنة وهو في خدمة السيدة خدوج” ص 8، قبل أن ينتقل للاشتغال عند حمدان شيخ القبيلة بعد أن كان محطة مراقبته ومتابعته: “قضى الرجل أربع سنوات وهو يشتغل عند شيخ القبيلة… ” ص 9، أظهر فيها كفاءته على الاشتغال في أعمال الفلاحة اعتمادا على قوته البدنية المميزة. غلاف زمني تجاوز الخمس سنوات خبر فيها نظام القرية، وأحاط بأهم الجزئيات والتفاصيل التي تتحكم في مجريات الحياة بها، فخطط لإضرام النار في بيدر حمدان شيخ القبيلة بحيث أتت على كل المحصول بعد أن عجز الأهالي عن إخمادها: “مرت ساعات ولم تنطفئ النار، وأخيرا تخلوا عن إخمادها، وتركوها تلتهم المحصول الزراعي على مهل وهم ينتظرون.” ص 12، ليختفي تاركا وراءه زوجته حبيبة التي تم اعتقالها من طرف رجال الدرك الذين لم يفلحوا في العثور عليه، مخلفا آثار مغامراته بالقرية من خلال علاقته بحليمة ابنة خدوج، وحبيبة التي كان يوفر لها الحماية بعد أن رافقته في ظروف مزرية تعرضت فيها لاغتصاب جماعي من طرف عصابة فاضطرت لمعاشرته إلى أن تخلى عنها، وكانت على علم بعلاقته مع حليمة والتي حملت منه بسمية فتركت القرية بعد محاصرتها بنظرات شك سارعت في التطور والانتشار. وحطت الرحال بفاس التي رحل إليها هو الآخر قبل أن يتجه صوب آسفي حيث تقيم ابنة عمه فطومة والتي ساهم في تبنيها لعبد الله ابن حبيبة لتتشابك خيوط الأحداث، وتتناسل عبر مجريات أكثر تعقدا وتشعبا، فنسب عبد الله ظل غامضا: “لقد كبر عبد الله واشتد عوده… لكن لمن هذا الولد؟ من هو أبوه؟ ” ص 35، متأسفا، أي العبدي، على مصير رفيقته حبيبة بعد أن تخلى عنها، وتركها وحيدة في مواجهة ويلات التيه والضياع: “لقد تركت تلك البريئة تلقى مصيرها وحدها، وما يحزنني حقا هو أنني غادرت بدونها.” ص 35، فتأخذ الأحداث مسارا تتشعب امتداداته، وتتفرع سياقاته في تساوق وتقاطع مع مستجدات حبلى بمفارقات وصدف، وفي ارتباط بما تسلكه الشخصيات من مسلكيات ، وما تنشده من تطلعات ومرامي . بداية بشخص العبدي الذي كان يخفي حقدا دفينا في الانتقام لما تعرضت له أسرته في بلده عبدة من تقتيل وتنكيل، فحط الرحال بقرية مرشانة التي غادرها فارا ومتنكرا، بعد أن قضى بها ردحا من الزمن، إلى مدينة فاس، ثم إلى آسفي مخلفا وراءه مآسي تمثلت في إحراق بيدر الشيخ حمدان، والتخلي عن حبيبة التي عاشرته لفترة طويلة ، وحليمة التي حملت منه فيعود إلى قرية مرشانة بعد غياب مديد فيحضر، بالصدفة، مراسيم دفن حليمة، ويصل عهدا انفرطت حلقاته، ويساهم في تقديم العون عبر أعمال بر وإحسان كشراء أرض مجاورة لمقبرة القرية من أجل توسيع رقعتها، وتغطية مصاريف جنازة ودفن حليمة ، بعد أن انتقل إلى حالة يسر ونعمة جسدتها استثماراته بالقرية: “تمكن من شراء منزل ذي طابقين، يستعمل السفلي لشراء الحبوب الزراعية، ويسكن في طابقه العلوي بمعية زوجته وولده الصغير. كما اشترى أراض شاسعة تحيط بالدوار الذي هرب منه في الماضي، ولم يفته شراء بيدر حمدان الذي أحرقه قبل سنوات خلت.” ص 304.
فتتوالى الأحداث والوقائع في ارتباط بالأشخاص الذين توقفت حياتهم باكرا كالحلفاوي زوج خدوج الذي قتل على يد الفرنسيين بعد وشاية من حمدان: “فعمد إلى تسريب تقرير شفوي ادعى فيه أن الحلفاوي ناقم على الفرنسيين، وأنه يساعد المجاهدين بالمال سرا، ويحرض الناس على الثورة من بعيد.” ص14، لتلتحق به زوجته خدوج، إلى أن تتساقط أهم الشخصيات تباعا؛ كالحاجة عتيقة، وزوجها الطاهر، وعمر، وشقيقه إبراهيم، وحليمة وسفيان انتحارا، وعائشة الخياطة وأخيرا سمية في آخر مشهد من الرواية.
ومن البارز في المتن السردي اقتران الشخوص بأحداث حبلى بمتغيرات ظلت رهينة الحظ والصدفة كسمية التي تحولت من خادمة إلى سيدة بيت ترفل في حلل العز والرفاه على إيقاع ذكريات عشق جامح جمعها بعمر فظل يسكنها إلى آخر شوط من حياتها موازاة برغبات مستعصية اختزلها فشل تحقيق حلمها بالعثور على والديها. وحبيبة التي غادرت القرية في اتجاه فاس حيث قادتها الظروف للاشتغال بحانة، فتحسنت وضعيتها المادية ورغم ذلك أغواها الاتجار بالمخدرات مغامرة أودت بها للسجن، هناك زارها كاتب تعرف عليها بالحانة فاستمع لقصتها التي كتبها كرواية تحولت إلى فيلم سينمائي لم تكن راضية على نهايته عندما شاهدتها، رفقة صديقة لها، بالصدفة في إحدى القنوات التلفزيونية والتي انتهت بانتحار البطلة مما جعلها تصرخ في وجه الشاشة: “أنت كذاب، أنت كذاب. أنا هنا، لم أنتحر، سوف أبحث عن ولدي من جديد.” ص 49، ابنها عبد الله الذي اتخذته فطومة ابنة عم العبدي كولد، وعانى من مشكل الهوية والنسب بسبب سماعه لعبارات جارحة من أفراد محيطه، مثل: (ولد الحرام، اللقيط)، مما أدخله في دوامة من حيرة مجللة بسيل من أسئلة تفتقر لأي أفق أو اتجاه: “ماذا أقول لأصدقائي؟ كيف أرى نفسي وأنا في حجرة الدرس؟… هل أرحل كما يرحل السحاب؟ ” ص37، فقد عاشت تحت سلطة العبدي بالقرية ظروفا قاهرة إثر فقدانها لوالديها جراء حريق مهول، وهروب أخيها الصغير، الذي لم تعد تعرف عنه شيئا، وتعرضها لاغتصاب جماعي من طرف عصابة. صادف ذلك التقائها بالعبدي الذي صاحبته إلى قرية مرشانة وقضت معه هناك فترة من الزمن لينتهي بها المطاف، وهي حامل، إلى مدينة آىسفي حيث سلمها العبدي لابنة عمه فطومة التي رعتها حتى وضعت ابنها عبد الله الذي صار ابنا لفطومة. وكان لقصة عمر عشيق سمية منحى آخر حيث استقر بمكناس في محاولة البحث عن سمية التي لم يعثر لها على أثر هناك فتزوج بشامة بعد أن يئس في مهمة ملاقاة عشيقته: “فلما يئس من العثور على محبوبته، أحس أنه كمن يبحث عن إبرة داخل قش كثير. امتدت الشهور ، فتزوج فتاة اسمها شامة…” ص 95، أنجب منها كوثر والتي شاءت الصدف، بعد وفاته، أن تتزوج بابن معشوقته سمية. وحكاية جمال ابن عم كوثر والذي تقدم، بتوجيه وإيعاز من والده، للزواج منها في محاولة باءت بالفشل مخلفة آثارا سلبية في نفس إبراهيم وابنه أمام رفض كوثر القاطع واختيارها الارتباط بسعد ابن سمية. ومأساة زينب صديقة كوثر التي مرت بظروف عصيبة ناتجة عن تطلعاتها المفرطة في تحسين وضعها الاجتماعي والرقي به إلى أعلى المراتب مما أوقعها في المحظور بحمل غير شرعي من رب المعمل الذي تشتغل به، وإن اضطر في الأخير للاعتراف بابنه بعد أن تكلف المحامي أحمد أخ كوثر بقضيتها ونجح في كسبها، أحمد الذي أنقذه من مخالب الانحراف والضياع دعم وتوجيه أحد أساتذته الذي حثه على العودة لفصول الدراسة، وأخته كوثر برعايتها له إلى أن شق طريقه في حياة حبلى بالمنعرجات والمطبات فنجح في دراسته وصار محاميا. ومصير ابن حليمة مع زوجها سلام الجزار الذي أغوته مسالك الانحراف وتحول إلى جانح يتزعم عصابة من مستعملي المخدرات مما اضطره إلى الفرار لوجهة غير معلومة بعد مطاردة الشرطة له. أما أخته بشرى فقد مرت بتجربتين عاطفيتين فاشلتين مع طالب جامعي تخلى عنها ناسفا ومتنكرا لعلاقة ود ومحبة جمعتهما في رحاب الجامعة، وسفيان أخ صديقتها سلوى الذي قادته ظروفه النفسية الصعبة إلى وضع حد لحياته عن طريق الانتحار. فضلا عما عاشته سلوى من مشاكل مع زوجها الذي خدعها في ربط علاقة مع امرأة أخرى، وكان الهدف من زواجه بها هي هو الاستيلاء على راتبها الشهري، ولم تمنعه وقاحته من الاعتداء عليها بالضرب. وقصة زاهر صديق أحمد وزواجه من الإنجليزية ماريا أثناء دراسته للأدب الإنجليزي هناك، وما أحاط بهذا الزواج من مشاكل عقدية، خصوصا من طرف والده الذي أسر لزوجته بما يحف هذا الزواج من مفارقات: “ولدنا يسير على خط ، وهي تسير على خط. بمعنى آخر، هي مسيحية، وهو مسلم ، فهل يلتقيان في الدين الإسلامي؟” ص 291، ورغم اقتناع الأم بهذا الزواج لما لمسته من حسن خلق ماريا وبوادر اقتناعها بالإسلام واعتناقه إلا أن الأب ظل محترزا متحفظا .
فالرواية تتميز بتوالد مسترسل للأحداث في اقترانها بالأشخاص، وقد اقتصرنا على التمثيل لذلك بأهمها، ومع ذلك لا يمكن أن نغفل جوانب أخرى أغنت فصولها فغدت أكثر سعة وامتدادا، كعنصر المفارقة والذي كانت له العديد من المظاهر والصور، مثل حالة كوثر التي رأبت بنفسها عن السقوط في براثن الرذيلة، فظلت محصنة ذاتها من الانزلاق في أي مأزق لا أخلاقي يمس بعرضها، ويلوث شرفها كما أسرت بذلك: ” أما أنا فما عرفت شابا إلا أخي، وما عرفت رجلا إلا أبي. لم أتخذ حبيبا، ولا عشيقا في حياتي. فهل فاتتني الفرصة؟” ص 174، عكس صديقتها زينب التي وقعت في شرك صاحب المعمل وحملت منه، وأيضا والد سمية ووالدتها اللذان تمرغا في حمأة الخطيئة كما جاء على لسانها: “أمي وأبي لم يغرسا الشجرة الطيبة. نزل العبدي وحليمة إلى جب الغواية..! فغرسا شجرة الخطيئة في الظلام، نزلا حتى إلى عمق البئر فلوثا صفاء مائه… فنتج عن ذلك الماء المهين الذي تكون في السواد مولودة اسمها سمية، هي أنا..!” ص 264، أما هي ، أي سمية، فقد درأت عن نفسها الانصياع لأهواء الخطيئة وغوايتها. وتعددت أوجه المفارقة، وتنوعت مظاهرها وتجلياتها، في حالة الحلفاوي وحمدان مثلما تجسد ذلك في مقطع من الرواية: “هناك اختلاف بين حمدان والحلفاوي في الطبع والسلوك، في الفكر والتوجه والأخلاق.. الأول طماع وكثير الافتراء على الناس، كان يسارع إلى الاستيلاء على ممتلكاتهم قبل رحيل المستعمر عن البلد. أما الثاني فكان متشبعا بروح المقاومة، وحريصا كل الحرص على تتبع حركات المجاهدين في شمال الوطن سرا، يقال أن ولده الوحيد مات في معركة ضد إسبانيا في جبال الريف.” ص14، مقابل التقاء الكاتب الذي تحولت أحداث روايته عن حبيبة إلى فيلم سينمائي، وسعيد الغوات الذي تابع قصة سمية، وما جمعهما ووحدهما في تدوين فصول حياة امرأتين (سمية وحبيبة) تطفح بمظاهر الإثارة والمكابد ة والمعاناة. وورد ذكر معتقدات تعكس تدني مستوى الوعي لدى شرائح عديدة داخل المجتمع كموضوع السدرة بالنسبة لساكنة قرية مرشانة التي نسجوا حولها الكثير من حكايات مستقاة من عالم الجن والغيب: “تتظلل تحت سدرة كثيفة الأوراق ودائمة الاخضرار، فقد كانت تحظى بتقديس متوارث عبر الأجيال، وهي تعتبر عند بعض سكان القرية نذير خوف وشؤم. فالاعتقاد السائد أن شجرة السدر هاته تنبت في مكان توالد الجن ، وموطن استراحتهم في الليل.” ص 22، وقد يتحول هذا التقديس إلى تمرد على هذه المعتقدات، والجهر بخطل ما ينسج حولها من أساطير باطلة وخادعة كما حصل مع حليمة في قولها: “لم تنفعني الشموع التي كنت أضيء بها ضريح تلك المرأة الحمقاء: لالة الغالية. ماهي إلا امرأة مخادعة، كانت تتسول القمح والشعير على حمارها الأشهب وقت الحصاد كما قالوا. ولم تنفعني الزيارات التي كنت أقوم بها إلى قبر سيدي بوعطية. لقد أدركت الآن أنه: بوخطية وليس بوعطية، ما رأيته أعطى لأحد شيئا.” ص24، فضلا عما كانت القرية تشهده من أنشطة يساهم فيها الشباب للتنفيس عن همومهم اليومية المرتبطة بعناء الفلاحة، وما يستنفده من جهد بدني ونفسي وذهني: “فغالبا ما تقام سهرات بين شباب الدوار ليلا، سهرات لا تبتعد عن ترديد أغاني شعبية متداولة في زمنها. ولتنشيط الجلسة، يتناوبون فيما بينهم على حكي قصص ونوادر غريبة تكون أكثرها للتسلية والإمتاع. فهم يسعون من ورائها إلى التفريج عن النفس… والقضاء على عنت اليوم ومشقته… وهم يتقاسمون تدخين (عشبة القنب) الهندي بينهم، وشم مسحوق (النفحة)…” ص 7، ولا يفوت الراوي تصوير نمط حياتهم، قبل أن تتحول مع مرور الوقت، وتتغير مظاهرها مع دخول الكهرباء، وولوج شاشة التلفاز إلى البيوت: “سكان القرية ينامون مبكرا، لم يكن هناك ما يلهيهم، لا تلفزة، ولا كهرباء، ولا طريق معبدة. يغرقون في النوم باكرا، يحققون نوعا من الشبع النفسي المريح.” ص 12 . وإغناء لنسيج الرواية السردي تم التوسل بعناصر تسعف الشخصيات في التعبير عما يخالجها من مشاعر وخواطر وأفكار؛ من قبيل الاسترجاع بالنسبة للعبدي: “فيغرق في الذكريات الفائضة عن ذهنه، يجترها يوما بعد يوم كأنه يفتت الوقت الضائع من حياته.” ص 8، ولدى سمية: “تراقصت ذكريات عديدة في ذاكرتها، فتذكرت لما كانت تسير بخطوات وئيدة وهي بجانب عمر … ” ص 86، والاستباق في استشراف لما هو قادم بتصورات ورؤى تنشد تحقيق مجموعة من الرغبات المرجوة : “يتخيل نفسه هاربا وهو يتسلل بين أجراف الوديان، والتلال الناتئة تعترضه هنا، وهو يذوب في رداء ظلمة الليل الفضفاض.” ص10، فضلا عن المونولوغ الذي ورد في مقاطع كثيرة من المدونة السردية خصوصا لدى سمية في تذكرها للحظات عشق ثابت وصادق قضتها صحبة عمر: “فقالت في نفسها : قد يتغير الحب في القلوب مع الأيام ، لكن، أنا هي أنا، إني ما زلت ثابتة على حبك يا عمر…” ص 103، ومع العبدي لحظة دفن حليمة: “قعد على حافة القبر وهو يسوي التراب بيديه محدثا نفسه: لا أدري هل خنت نفسي، أم هي التي خانتني وأمرتني بالسوء ، ماذا كان يقع لو تزوجتها زواجا شرعيا؟” ص 307، ولم يفت الكاتب تنويع أسلوب الحكي، والانزياح به عن انتظام خطية السرد وتسلسلها في وصف رومانسي لحلول فصل الربيع بمظاهره البهية النضرة على ربوع القرية: “كلما حل فصل الربيع تلبس الأرض حلة قشيبة فتنبعث من داخلها حياة جديدة… طيور تتقاطع في زقزقتها، وأزهار متسفتحة تفوح روائحها، وسنابل الزرع تطل برؤوسها المخضرة… وتنتشر الورود المختلفة الألوان على ماحات فسيحة… ” ص 86.
فرواية “على إيقاع نهر الأحزان” تطبعها العديد من الخاصيات التي تمنحها تفردا وتميزا جليا نأمل أن نكون لامسنا بعضها في هذه القراءة؛ ولعل أهمها توالد الحدث وما أضفاه على فصولها من ميزات الرحابة والتشعب والاتفتاح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة: الناقد عبد النبي بزاز برفقة الكاتب بوعزة الفرحان
الكتاب : على نهر إيقاع الأحزان (رواية) ــ الكاتب: بوعزة الفرحان ــ المطبعة: مطبعة بلال ـ فاس / 2023