الشيطان الظالم والشيطان المظلوم في الرؤية الاحتفالية

الشيطان الظالم والشيطان المظلوم في الرؤية الاحتفالية

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام
     في هذا اليوم الحاضر، مثل ذلك الأمس الغائب، والذي كان فاعلا فينا وبنا، وقبل هذا الأمس أيضا، والذي يعود إلينا اليوم جديدا، أو نعود إليه ومن خلالنا، من حيث ندري، أو من حيث لا ندري، في هذا اليوم، والذي هو اليوم العاشر من يناير لسنة 2024، سأواصل فعل الحفر في الصخر، وسأواصل الرحيل باتجاه العوالم الغريبة والعجيبة والمدهشة، وسأواصل مثل سيزيف الدفع بصخرة الأفكار إلى أعلى قمة في الوجود، ودائما أيضا سأبقى في تواصل متجدد مع الجديد المفيد، ومع الطريف الخفيف، ومع المحال الممكن الوجود، ومع الزوايا المظلمة والخفيفة في حياة تفكيرنا وفي تفكيرنا الحي، ولقد تعودت أن أكون في فعل الكتابة حرا، وأن أحلق في السماوات السبع، وأن اصل إلى حيث لم أصل من قبل، وأن أكون في هذه الكتابة جديدا ومجددا، وأن أكون مشاغبا ومتمردا، وأن أكون حائرا ومشككا، وأن أكون مسافرا نحو المدن السحرية البعيدة، والتي قد أجد فيها – في يوم من الأيام – المدينة الاحتفالية الموعودة، والتي لا يمكن أن تكون إلا مدينة لا غربة فيها ولا غرباء ولا تعساء ولا بؤساء.
وفي هذا النفس الجديد، من هذه الكتابة الاحتفالية الجديدة، وفي هذا الزمن الآخر، في عمره الجديد، فإنني اقترح عليكم موضوعا طريفا، مع أن كل المواضيع في الاحتفالية هي مواضيع طريفة وجديدة ومستفزة ومشاغبة ومثيرة ومحرضة على التفكير وعلى إعادة التفكير، ويتعلق الأمر باغرب شخصية رمزية في كل تاريخ الإنسان، من البدء إلى ما بعد الآن.
 
تاريخ مسرحية احتفالية بطلها الشيطان
     وأنا أستعد لكتابة هذا النفس الجديد، جاءتني رسالة من المخرج المسرحي المصري الكبير محمود زكي من مدينة الإسكندرية المصرية، ولقد وجدته يحدثني في نفس موضوع ذلك الشيطان، كما كتبته أنا الكاتب، وكما أخرجه ذلك المخرج المبدع، وذلك على امتداد ما يقارب نصف قرن، ولقد وجدته هذا الخرج الإسكندراني، في حديثه إلي يعيد عقارب الساعة إلى الخلف، وووجدته يستعيد معي ذلك الزمن الذي مضى نظريا، من غير أن يمضي حقيقة، وهذه هي رسالته التي وصلتني عبر الوات ساب، والتي يقول فيها:
(مساء الخير يا مبدعنا المحترم.. كنت قد أخرجت.. فاوست والأميرة الصلعاء.. منذ خمسة وثلاثين عاما، لأحصل على دبلوم الدراسات العليا فى الإخراج، وهذه الأيام أخرجها كمشروع تخرج لطلبة بكالوريوس المعهد العالى للفنون المسرحية فرع الإسكندرية، وسيكون ذلك يوم الأحد القادم على مسرح الأنفوشى، ودعوت النجوم خالد النبوى وعمرو عبد الجليل وعلاء مرسى وسليمان عيد وهشام جمعة وجلال عثمان الذين مثلوها معى من 35 سنة.. وكنت أتمنى أن تكون فى مصر لتزداد سعادتنا بحضورك الكريم).
وخالد النبوي هو اليوم نجم دولي كبير، ولقد سبق أن تحدث في أكثر من مناسبة عن علاقته بهذه المسرحية، سواء في مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط أو للبرنامج الإلذاعي التكريمي مع الحسين العمراني، ولقد أكد دائما على أن الشهرة قد جاءته من خلال مسرحية (فاوست والأميرة الصلعاء) والتي حضر عرضها المخرج السينمائي الكبير يوسف شاهين، والتي كانت مناسبة لأن يكاشفه، وأن تكون هذه المسرحية هي بدايته مع النجاح ومع النجومية، وفي مثل الحدث العابر، يمكن أن تكتشف الشيطان الآخر، والذي هو الشيطان المظلوم، ونفس هذا الشيء حصل تقريبا مع الفنانين هشام جمعة وعلاء مرسي وسليمان عيد وجلال عثمان. والذين أعادوا إخراجها أو أعادوا التمثيل فيها في رؤى إخراجية أخرى جديدة ومجددة.
 
الشيطان المبدع والشيطان في الإبداع
     ويحضر الشيطان في لغتنا اليومية، مثل حضوره في إبداعاتنا الشعرية والروائية والمسرحية والسينمائية والتشكيلية، ومثل حضوره أيضا في فكرنا وفي أمثالنا، وفي مسرحي الاحتفالي حضر هذا الشيطان بقوة، ولقد تمثل للناس في جسد خياط، وكان هو الذي أعطى ضيوف ذلك الحفل ازاءهم، وأعطاهم أقنعتهم، وحدد لهم حدود أدوارهم المسرحية في لعبة الوجود، ولقد كان ذلك في حفل تنكري، ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، وفي ذلك اللعب، والذي لم يكن بريئا، يتراجع البعد الإنساني والحقيقي، وذلك لفائدة البعد الشيطاني المزيف، وتصبح أزياء الخياط هي كل شيء، وهي وحدها الحقيقة، ويصبح الناس مجرد دمى بشرية عليها أزياء، ولكل زي قيمة وقامة، وفي فضاء هذه الاحتفالية التنكرية وفي مسرحها، يتم تجسيد وشخصنة كل الأفكار والمعاني الرمزية، حول الجمال والقبح، وحول الظاهر والخفي، وحول الحق والباطل، وحول المقدس والمدنس، ولأن العالم الاحتفالي هو عالم الحضور والاستحضار، فقد حضر الموت مثلا في مسرحية (غريب وعجيب) والتي أخرجها المخرج الاحتفالي عبد المجيد فنيش، والتي تخرج منها أحد نجوم التمثيل المسرحي والتلفزيوتي في المغرب، والذي هو عبد الله ديدان، كما كان هذا الموت مجسدا في جسد امراة حسناء، وذلك في مسرحية (يا مسافر وحدك) من مجنون الحي أو مجنون محطة القطار، والذي هو العاشق للكتاب والمتيم بالكتابة وبالمكتوب، والذي يقرأ بصوت مرتفع ما يمكن أن يحدث.
وهذا الشيطان، في الاحتفالية ليس صورة نمطية واحدة، وهو أساسا فكرة رمزية أكثر منه جسد بملامح معينة، وهو بهذا قدرة خارقة، وهو قوة فوق بشرية، وهو جاذبية، وهو سحر، وهو إغراء، وهو غواية، وهو وحي الشعراء، وهو ضلال مبين، وهو زيف وتزييف، وهو خداع مبين، وهو بهذا، موجود فينا، وليس خارجنا، وكل واحد منا يحمل شيطانه أو شياطينه معه، وفي كل خطأ نخطئه يوجد الشيطان، وفي كل سقطة نسقطها يكون الشيطان،
وعندما فتحت الدولة المغربية للموظفين لديها باب المغادرة الطوعية، وأرفقت ذلك بإغراء مالي، حضرتني فكرة كتابة مسرحية عن السيد الشيطان، والذي هو أقدم موظف لدى رب العالمين، والذي أدى خدمات جليلة جدا للإنسان والإنسانية، وذلك على امتداد التاريخ البشري كله، والذي أعطى لهذه الإنسانية معنى وقيمة ما تفعله، ومعنى وقيمة ما تفكر فيه، وهو الذي رسم خطا أسود في نسيج الأيام البيضاء، مثله في ذلك مثل سواد الليل، والذي يكمل النهار ولا يضاده، والذي يعطي لنوره معنى، فهل يكون وجود هذا الشيطان من لزوميات الوجود، لأنه يحقق التوازن في ميزان الوجود والموجودات؟
هل نقول بأن هذا الشيطان هو الفارق بين الحق والباطل، وأنه الحد الفاصل بين الأشياء المختلفة والمتفاطعة والمتناقضة؟
ألا يكون وجوده هو الذي هيا لنا الفرصة لأن نختار، وأن نمارس حريتنا في هذا الاختيار، وأن نبني كل فعل ناتيه على قناعة فكرية؟ وبالتأكيد فإن الشيطان حرية وتحرر ودعوة للتحرر، ولكنه أيضا مسؤولية، يترتب عليها فعلان اثنان هما، والجزاء والعقاب،
وهذا الشيطان يقف دائما في مفترق، أو في ملتقى الطرق، وقد يغرينا بالطريق الأقرب وبالطريق الأكثر نفعا والطريق الأقل جهدا، فنخدع، ونختار السهل المزيف بدل أن نختار الصعب الحقيقي والأصيل والجميل والنبيل، ونختار ما يبرق ويلمع، وليس كل ما يلمع يمكن أن يكون ذهبا.
ومن (حسنات) هذا الشيطان، أنه هو الذي يجعلنا، ومن حيث لا يريد، نختار عكس ما يريد، وأن نخالف ونعاكسع، وأن نقوم بالأشياء الجميلة، ضدا فيه، وأن ننسبها كلها لأنفسها، وأن نرتكب الأشياء القبيحة، ونقترف المعاصي، وأن تنسبها للشيطان، مع أنه في أغلب الحالات بريء منها، لأن الخطأ موجود فينا وفي قلة عقلنا وفي كثير من حساباتها الخاطئة، ولعل الشيء الجميل في هذا الشيطان، هو أنه يحسن فعل الكشف عن المساوئ الخفية فينا وفي واقعنا، وأنه لم يفعل في كل تاريخه، شيئا أخطر من الكشف والفضح، أي كشف الغطاء عن المعدن الحقيقي لكل واحد من الناس، أو من أشباه الناس، وذلك عندما يعرضهم للاختيار، فينجو الناجون، ويسقط الساقطون، ويظهر معدن كل واحد منهم، ولقد أعطى هذا الشيطان الفرصة للإنسانية أيضا من أجل أن تمارس فعل التحدي، وأن تنحاز إلى روحها وعقلها، وأن تقفز على غريزتها الحيونية النائمة بداخلها، وأن يساعدها أيضا على أن تقبض على إنسانيتهالحقيقية، وأن يظهرها بهذا الفعل على الصورة وعلى مضاعفها، حتى تتمكن النفس العالية من الارتقاء إلى الأعلى، وأن تسقط النفوس الضعيفة إلى الأسفل. وهو بهذا يساعد الأجساد والأرواح والنفوس على أن تختبر قوتها في مواجهة الإغراءات والغوايات، وأن تصمد في وجه كل التحديات، وأن تعرف الفرق بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، وبين الحقيقة والوهم، وبين الجميل والقبيح، وبين الثابت والمتغير، وبين الوجه والمراة، وبين الجسد واللباس، وبين ما يلمع وينفع، وبين ما يلمع ليخدع.
 
المسرح تصوير والأسطورة حكمة مصورة
     والكتابة الاحتفالية هي أساسا كتابة بالصورة الحية، وهذه الصورة لها وجود في الأسطورة وفي الحكاية وفي الخرافة وفي الأمثال وفي الحكم، والأصل في الأسطورة هو انها تفكير، أو انها درجة معينة في التفكير وفي التأمل وفي قراءة الظواهر الوجودية والحياتية، وفي حوار مع الباحث المسرحي محمد اهواري في مجلة (طنجة الأدبية) يقول الاحتفالي (يمكن أن تقرأ الأسطورة قراءة أسطورية، كما يمكن ان تقرا الأسطورة قراءة علمية).
وبهذا المنطق تعامل علم النفس الحديث مع الأسطورة اليونانية القديمة، وبهذا الوعي قرأ أسطورة أوديب وأسطورة سيزيف وأسطورة نارسيس، وبنفس هذه العين العابرة للزمان والمكان. قرأ المسرح الحديث الأسطورة، وقرأ الحكاية، وقرأ الخرافة، وقرأ التاريخ، وقرأ الأمثولة.
وحكاية فاوست، في علاقتها بالطبيعة وبما وراء الطبيعة، وعلاقتها بالمقدس والمدنس، يمكن أن تكون أسطورة ازلية متجددة صالحة لكل العصور والدهور، وفي احتفالية (فاوست والاميرة الصلعاء) يواصل الاحتفالي القبض على قناعاته الفكرية، وعلى إيمانه الصادق والمبدئي بإنسانية الإنسان وبحيوية الحياة وبمدنية المدينة، وهذا هو ما تكشف عنه نهاية هذه المسرحية،
في آخر المسرحية، فهذا الفاوست الذي عقد اتفاقا مع الشيطان، والذي وقع على العقد بدمه، هو الذي يستعيد انسانيته في آخر المسرحية، وهو الذي يستعيد شيخوخته التي حاول الهروب منها، ويستعيد إيمانه بأن الموت حق، ويستعيد وعيه الإنساني الذي ذهب به سحر الشيطان، وهذا الفاوست هو الذي يقول في ختام المسرحية للشيطان (لن تأخذ مني شيئا ايها الشيطان، مطلقا لا شيء، فقلبي وروحي وعقلي لهؤلاء الناس وحدهم، لن تاخذ غير جثتي، وهي لا لا شيء.. لا شيء).
والأصل في هذا الشيطان أنه ملاك مفكر أو إنه ملاك متمرد أو أنه ملاك رافض أو انه ملاك عاص أو مستكبر، وفي القرآن يقول هذا الملاك لربه بعد أن رفض السجود لآدم (قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض، ولأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين). ويثبت هذا الفاوست إنه حقا من عباد الله المخلصين.
 
الشيطان صورة واحدة أم هو صور بلا عدد؟
     وهذا الشيطان، في كل صوره، والذي يملك القدرة على التحول وعلى الإغراء وعلى الغواية فإنه لا يمكن أن يكون إلا جميلا، ولهذا فإن صورة الشيطان بقرنين وبذيل، لا وجود له في هذه المسرحية الاحتفالية، وهو في إخراج هشام جمعة مع المسرح الحديث بالقاهرة،يظهر في صورة شاب جميل، وفي زي لاعب تنيس بشورت وتيشورت.
هو إذن فاوست آخر، وفي كل واقع آخر، وفي سياق فكري وحضاري وتاريخي هناك دائما فاوست آخر، وفاوست مسرحية (فاوسا والأميرة الصلعاء) هو أيضا فاوست آخر، وكل الأسماء التي معه في هذه الاحتفالية المسرحية هي أسماء عربية إسلامية، لا علاقة لها بالأجواء المسيحية عند جوته الألماني أو عند مارلو الإنجليزي، والاسم الحقيقي عند هذا العالم في المسرحية هو سليمان الخاسر، ولقد أطلق الناس عليه لقب فاوست، لأن قصته تشبه حكاية فاوست الغريبة والعجيبة، أما لماذا هو سليمان الخاسر، فذلك لأنه أبرم مع الشيطان صفقة خاسرة، وباع روحه الصادقة والحقيقية والأزلية في مقابل السحر الكاذب والمزيف والظرف اليومي العابر.
 
في الحفل التنكري الخياط هو البطل
     وهذا الشيطان خياط، كل عدته في ممارسة فعل الشيطنة، هو مجرد خيط وإبرة فقط، والإبرة عوراء لها عين واحدة، وأما الخيط فهو أعمى، وهو لا يعرف ماذا يفعل به الخياط، وإلى أين يمكن أن يقوده جنون الإبرة.
وصورة الشيطان، كما تظهر في رسوم القرون الوسطى المسيحية لا تهمني، وما يهمني هي صوره الجديدة والمتجددة، والتطتي يقترحها الواقع الجديد، ويقترحها التاريخ المجدد والمتجدد، كما أن صورة هذا الشيطان، كما تظهر في الآداب الأوربية القديمة، يمكن الاستئناس بها فقط، خصوصا صورته عند دانتي الإيطالي في الكوميديا الإلهية، أو عند جوته الألماني أو عند مارلو الإنجليزي أو عند ميلتون في (الفردوس المفقود)، كما يمكن أن أستأنس بصورة هذا الشيطان كما هي موجودة في السينما العالمية وفي المسرح وفي الموسيقى وفي الأوبرا وفي الباليه وفي المسرح العالمي.
ويظهر هذا الشيطان، في صورته المسيحية، بشكل بشع جدا، وهو مخلوق عجيب بقرنين، وبحافرين مشققين، وبشعر فوضوي يكسو كل جسده، بالإضافة إلى أنه، ومثل كثير من الحيوانات، يجر وراءه ذيلا، وهو في هذه الصورة يمسك بمذراة في يده، وقد يكون هذا الشيطان حيوانا يشبه معزة، أو يشبه بقرة كما نجد ذلك في لوحة الفنان الإسباني فرانثيثكو غويا، والتي تحمل اسم (سبت الساحرات).
 
فاوست (العربي) في مرايا الإخراج المسرحي
     أول من أخرج هذه المسرحية، مغربيا وعربيا، كان هو المخرج المسرحي الكبير والقدير ابراهبم وردة، أما أول فرقة قدمت هذه المسرحية فقد كانت فرقة المسرح الطلائعي بمدينة الدار البيضاء، وذلك سنة 1978، وبعد ذلك قدمها المخرج المسرحي عبد الوهاب عيدوبية، والذي هو أحد اعمدة فرقة المسرح الطلائعي إلى حانب المسرحي والشاعر الغنائي الاحتفالي الكبير محمد الباتولي.
وبعد ذلك قدمها عبد العزيز الناصري مع فرقة مسرح لبساط بمدينة طنجة، وقدمها في أحد دوات موسم أصيلة الثقافي.
وفي أواسط الثمانينات من القرن الماضي، وقدم المخرجان كريم لفحل الشرقاوي ومحمد الشغروشني نفس هذه المسرحية بمدينة الخميسات، وكان ذلك ذلك مع (جماعة الاحتفاليين العرب).
وفي تونس قدمها العجمي احويج مع المسرح الجهوي بمدينة سوسة، وقدمت في الجنوب التونسي كما قدمت بمدينة جندوبة، وقدمتها الفرقة القومية للمسرح بمدينة بغداد سنة 1990 وكان الإخراج لحميد الجمالي، أما في مصر، فإنني لا أعرف عدد القراءات الإخرجية التي تمت لهذه المسرحية، ولقد أسعدني الحظ أنني شاهدت المسرحية في القاهرة في آخر الثمانينات من القرن الماضي، وذلك في عرضين اثنين، والعرض الثاني كان مع بداية حرب الخليج، وكان حفلا للوداع، ولقد قدمت هذه المسرحية في المسرح الحديث بإدارة المرحوم المخرج فهمي الخولي، وقدمت بعنوان (أصل وكذا صورة)، وكان الإخراج من توقيع هشام جمعة ومن تقديم ثلة مهمة من الممثلين الذين أصبحوا نجوما في المسرح والدراما العربيين، وهم جمال عبد الناصر. في دور فاوست، ومحمد دسوقي في دور الحمال الأعمى ومحمد محمود والمرحومة رباب في دور مياسة وعلاء مرسي ومحمد دسوقي ومحمود عامر وسامي مغاوري، في دور الزيبق وفتوح احمد في دور الخياط مظلوم بن ظالم وعلاء مرسي ومحمد دسوقي.
وعن مسرحية (فاوست والأميرة الصلعاء) تقول الدكتورة وفاء كمالو في جريدة القاهرة، بعد أن شاهدتها في أحد عروضها بمصر:
(في هذا السياق شهد الواقع الثقافي تجربة شديدة الجمال والإبهار، أثارت الدهشة والإعجاب والتقدير لفريق للعمل المتميز الذي قدم مسرحية (فاوست والأميرة الصلعاء) ليضع المشهد المسرحي المصري أمام نقطة فاصلة في مسارات وعيه وامتداده… وكان ذلك ضمن فعاليات الدورة الخامسة من المهرجان القومي للمسرح، عبر مشاركة قصر التذوق بسيدي جابر التابع للهيئة العامة للصور الثقافة.
مؤلف (فاوست والأميرة الصلعاء) هو الفنان المغربي المثقف عبد الكريم برشيد الذي أخذنا إلى عالم شديد الوعي والثراء، يموج بالثورية والتمرد والعصيان، حيث اشتبك مع أسطورة فاوست ورؤى مارلو وجدة جيته ورومانسية بول فاليري، وانطلقت موجات افكاره لتخرج عالم بيكيت ويونسكو، وتدين ايقاعات الزيف).
 
عن العنوان وما خلف العنوان
     وأعود لبداية هذه المقالة، وتحديدا إلى هذا العنوان الذي قد يكون به شيء من الغرابة، وأتساءل أمامكم ومعكم:
— الشيطان الظالم والشيطان المظلوم، من أين جاءني هذا العنوان؟
وأي شيطان أوحى لي به، وما المناسبة اليوم للحديث عن هذا الشيطان؟
وما قصة الاحتفالية، فكرا وإبداعا، بشخصية الشيطان؟
وما هو موقفها من هذا الشيطان، والذي هو شيطانان اثنان وليس شيطانا واحدا؟ الأول يلهمنا الإبداع الجميل، والثاني يحرضنا على القبح في العلاقات وفي الصناعات والكتابات
ومن يكون هذا الشيطان الذي تعودنا أن نلعنه صباح مساء، مع أننا لا نعرفه، ولا نعرف حقيقة ولا مقدار ولا صحة إساءته لنا؟
وهذا الشيطان، ألا يكون نحن، في حالة الخطأ، وفي حال السقوط، وفي حال الفشل، وفي حال الانحراف، وفي حال الخطيئة، وفي حال الشك، وفي حال النسيان؟
وكما سبق ورابطينا، يحضر هذا الشيطان في المسرح الاحتفالي من خلال شخصية ظالم بن مظلوم الخياط، وذلك في الاحتفالية المسرحية التي تحمل اسم (فاوست والأميرة الصلعاء)، والتي كتبت سنة 1978 ونشرتها مجلة الأقلام العراقية سنة 1980، وذلك في عدد خاص عن المسرح، والتي كانت سببا في انتشارها عبر كثير من المسارح المغربية والعربية، وبالمناسبة فانني احيي مجلة (الأقلام) العراقية، وأحيي ذلك الزمن الذي كانت فيه منارة للثقافة العربية المتمردة على الثبات وعلى السكون وعلى الكسل العقلي وعلى الجمود عند الموجود، وبالتأكيد فقد جاءت هذه المسرحية في زمنها، ولقد طرحت أسئلة تلك الظرفية التاريخية التي كانت، ولقد حاولت أن تجيب على كثير من الأسئلة الفكرية والأخلاقية، عربيا وكونيا، وكانت في طرحها الفكري والسياسي جريئة جدا، وكانت دعوة صادقة لإعادة قراءة الذات، في المعيش وفي المكتوب وفي الشفهي وفي الخرافي والاسطوري ..
وأنا الاحتفالي لا ابرئ نفسي، ولا ازكي نفسي، ولا أقول بأن الشيطان هو وحده القبيح، وبشكل كلي ومطلق، لأن القبح المطلق لا علاقة له بالاحتفالية، ولا بعوالمها المركبة من جميع الألوان والأصباغ، ولو كان هذا الشيطان غير جميل، فهل كان ممكنا له أن يمارس على الإنسان كل هذا الكم الكبير والخطير من الإغراء ومن الغواية؟
وقد يكون هذا الشيطان موجودا خارج المجال الأخلاقي الصرف، وأن يكون متمثلا في الخلق الجمالي وفي الإبداع الشعري وفي الابتكار وفي التجديد وفي التجريب وفي الحمى الشعرية وفي الهذيان الجمالي الخلاق، وهذا هو الشيطان المظلوم بكل تأكيد، أو هذا هو الوجه الآخر من الشيطان، والذي جاءنا من وادي عبقر، ومنحنا العبقرية في الشعر والفن وفي كل الصناعات والإبداعات، وهذا الشيطان الملهم، هو الذي ساعدنا دائما، ومازال يساعدنا على أن نخترق حدود الواقع، وأن نأتي بالأفكار الغريبة من عوالمها الغريبة والعجيبة، وأن ندهش الناس بهذا السحر الشيطاني العجيب والغريب، والذي هو سحر حلال بكل تأكيد.
 
عندما يكون الشيطان دورا في مسرحية الوجود
     وبالنسبة للاحتفالي، فإنه لا إثم عليه من أن يلعب دور الشيطان في مسرحية هذا الوجود، وان يكون ملهمه الشيطان في شعريته وفي عبقريته، وأن يكون الشيطان مجرد دور، مثل كل الأدوار، في مسرحية الوجود، وأن يكون هذا الفنان الاحتفالي بارعا وصادقا في أداء هذا الدور، وأن يكون في مسرحه مقنعا فكريا، وأن يكون ممتعا جماليا، والأصل في هذه الحياة، هو انها ليست يوما واحدا، وليست دورا واحدا، ولكنها أدوار متعددة ومختلفة ومتقاطعة ومتصادمة مع بعضها البعض، وهي التعدد، وهي الاختلاف، وهي الصراع، وهي الحوار، وهي الجدل، وهي الحضور، وهي الانصراف، ولعل هذا هو ما يجعل الاحتفالي يقول ما يلي:
فأن يكون الملاك ملاكا، وأن يقوم بدوره، بأمانة وصدق، فهذا هو المطلوب، وأن يكون الشيطان شيطانا، وأن يمارس شيطنته باقتناع وبصدق، فهذا هو الحق، وهذه هي الحقيقية، ولكن، أن تجد من ينصب نفسه ـ بغير وجه حق ـ محاميا للشيطان، فذلك هو النفاق في أجلى مظاهره، ولهذا المحامي سبق وان كتب له الاحتفالي ثلاثة رسائل مفتوحة، وسوف نعود إليها في الأنفاس القادمة من هذا البوح الصادق بكل تاكيد
ولقد تساءلت، أكثر من مرة، لماذا أعطيت لهذا الشيطان اسم مظلوم بن ظالم؟ وهل الظالم هو ذلك الشيطان الرجيم، والذي كان شيطانا بمعنى الكلمة، أي قبل أن يصبح كل بني الإنسان شياطين، وفي ذلك الزمن الذي قررت فيه وزارة الشؤون الإدارية بالمغرب نظام المغادرة الطوعية بالنسبة للموظفين، في ذلك الزمن، فكرت في كتابة مسرحية يجد فيها الشيطان الجديد، في هذا الزمان الجديد، يجد نفسه متخلفا ومتجاوزا، ويجد أنه لم يعد قادرا على منافسة شياطين الإنس في شيطنتهم الإنسية، ولذلك يتقدم بطلب المغادرة الطوعية إلى رب العزة، ويطالب بتعويض جزافي عن الخدمات التي قدمها للناس الفاشلين وللمجرمين والخطائين، ولكل الذين علقوا اخطاءهم عليه، والتي كان في اغلبها بريئا ومظلوما، ولكنه تحملها، لأنها جزء اساسي في دوره في الوجود، ولكن اليوم، وقد أصبح الكل يلعب دور الشيطان، فقد أصبح من حقه أن يرتاح، وأن يكتفي بالتفرج على ما يفعله الشياطين الجدد،
إن الفاشل يقول الشيطان أفشله، مع ان الذي افشله حقيقة هو كسله، والفاسد ايضا يقول الشيطان أفسده، مع ان فساده فد اتاه منه، ومن داخله، والساقط يقول الشيطان أسقطه، ولو انه لم يرتفع إلى الأعالي البعيدة، بغير حق وبدون سند، ما سقط الى الأسفل، والقبيح يقول الشيطان قبحه، والشقي يقول الشيطان أشقاه، مع أن هذا الشيطان بريء منه ومن امثاله، براءة الذئب من بني يعقوب.
 
شعرية الاحتفالية وشيطان الشعر
    واصل كل المسرحيات التي كتبت عن شخصية الدكتور فاوست، في علاقته بالشيطان مفيستوفيليس هي حكاية ألمانية قديمة، عن العالم الكيميائي الدكتور يوهان جورج فاوست، زالذي باع روحه للشيطان، وذلك في مقابل العلم والشباب والجمال، وكثير من الشعراء والكتاب والموسيقيين في العالم قرأوا هذه الحكاية، كل بنظاره الخاص، واعادوا كتابتها انطلاقا من ثقافاتهم الخاصة، وانطلاقا ايضا من ثقافات تردد فيها الإيمان بين حد العقل وحد الجنون وبين حد العلم والإيمان وبين حد العلم والسحر ، ومن الذين اعادوا كتابة هذه الحكاية نجد الشاعر الألماني الكبير جوته ونجد الأنجليزي كريستوفر مارلو، ونجد ميخائيل بولغاكوف، ونجد الفرنسي فرناندو بيسوا، وبول فاليري الءي كتب (فاوست كما ارته) ومن الكتاب العرب نجد الكاتب علي أحمد باكثير الذي كتب مسرحية (فاوست الجديد).
وهذه الاحتفالية، خصوصا في بداياتها الأولى، الم تجد في نفسها وفي وضعها ما قد يشبه وضع الدكتور فاوست؟
لقد ظهرت للوجود، وهي اساسا رؤية فكرية وجمالية واخلاقية جديدة للعالم، وذلك في عصر السحر الإيديولوجي، وفي زمن المقايضة، وفي سياق التبعية والذيلية والببغاوية، وذلك في مقابل الشهرة، والولاء في مقابل التلميع الإعلامي، وكان ضروريا، بالنسبة لفاوست الاحتفالي أن يقف امام كل الإغراءات والغوايات، وألا يبيع روحه، لا للشيطان ولا لمحامي الشيطان، ولا لأية سلطة سياسية أو حزبية أو اعلامية او عشائرية.
وعالم احتفالية (فاوست والأميرة الصلعاء) هو عالم مفتوح وبلا ضفاف وبلا حدود. عالم تلتقي فيه كل الطرق، سواء تلك التي تؤدي إلى الحق والحقيقية، او تلك الأخرى التي تؤدي إلى الخطأ. وإلى الزيف وإلى الخطيئة، هو اذن، عالم سوريالي غرائبي يتقاطع فيه الطبيعي بما هو فوق الطبيعة، وبما هو ما بعدها وبما هو ابعد منها، وفي هذا العالم الذي تحكمه المظاهر، والذي يهندسه خياط عجيب، والذي تتحكم فيه إبرة وخيط، ويصبح الإنسان فيه دورا في لعبة، ويصبح هذا الدور مجرد زي من الأزياء فقط، في هذا العالم يتشابه العلم والسحر، ويتشابه التدين والدجل، ويصبح فيه بعض العلماء في درجة المشعوذين، وتصبح الكيمياء في درجة الشيمياء، ويصبح فيه العرافون الأدعياء في درجة الأنبياء، ويصبح المفسدون مصلحين، ويصبح الجهلاء علماء والسفهاء أتقياء.
وتؤكد هذه الاحتفالية اليوم، تماما كما أكدت بالأمس، على ان الحقيقية هي غير الواقع، وعلى أن ما كل نراه في الواقع من وقائع، هو الحقيقة وروح الحقيقة، لأن الأمر يتعلق بحفل تنكري، ويتعلق بلعبة فيها كثير من الغش وكثير منوالغشاشين، وفيهل كثير من الدجل ومم الدجالين، في هذا الحفل التنكري تصبح البطولة للأزياء وللأقنعة وللمظاهر، ونعرف إن الاحتفالية ضد كل حفل غير صادق وغير شفاف وغير حقيقي وغير انساني وغير مدني، ولقد كانت دائما، وسوف تبقى، مؤمنة بالإنسان، ومؤكدة على أن هذا الإنسان هو فاعل وجودي في هذا الوجود، وليس مجرد دمية متحركة في لعبة ظرفية عابرة، والإنسان هو إنسانيته التي لا تقبل التفويت ولا تقبل البيع والشراء في سوق النخاسة البشرية، ولا تقبل المقايضة، وهذا الإنسان هو ذاته، وهو كلامه، وهو فعله وتفاعله، وهو ثقافته، وهو لغته، وهو افكاره، وهو معتقداته، وهو مواقفه، وليس هو اي شيء أخر، وهو فعلا جسد مادي ظاهر، ولكنه قبل ذلك روح وجوهر وهز طاقة وجدانية وعقلية خفية، وهذا الجسد، قد تغير شكله البراني بالأزياء والأقنعة وبالمقتنيات المختلفة، ولكنها ابدا لا يمكن ان تغير شيئا من ثوابته المبدئية الحقيقية، وهذا ما أكدت عليه الاحتفالية المسرحية (فاوست والأميرة الصلعاء) وذلك في اشارتها إلى أن هذه الدنيا الصلعاء، لا يمكن أن تكون ثمنا لشراء روح وعقل ووحدان الإنسان المؤمن بانسانيته والمؤمن بحياته وبحيوته والمؤمن بالمدينة وبمدنيته والمؤمن بربه
والاحتفالي ليس فاوست بكل تاكيد، وقد يكون هو المتنبي، الشاعر الحكيم الذي تسللت الحمى إلى عضامه في ليلة من اليالي، ولقد جاءته تلك الحمى وهي في صورة امراة، وجاءته ومعها ظلال من الهذيان الشعري الخلاق.
وقد يكون الاحتفالي هو عبد السميع، ذلك الطفل الذي شاخ العالم من حوله وبقي هو وحده طفلا، والذي خرج اليوم من بيته ومن وطنه، ولكنه بالتأكيد سوف يعود غدا، وهذا ما بشرت به المسرحية الثانية، والتي أعطت نفسها اسم (عبد السميع يعود غدا)
وقد يكون هذا الاحتفالي هو ابن الرومي، الشاعر الذي عشق بغداد لحد الخوف منها، والذي عشق الجمال فيها، لحد الخوف من القبح في وجوه وقلوب وعقول كثير من الناس فيها.
وقد يكون هذا الاحتفالي هو خيطانز المجنون او هو جحجوح او هو سقراط الذي قيل بأنه مات، وهل فعلا مات سقراط، أم أنه فقط شبه لهم؟
كما قد يكون هذا الاحتفالي هو السندباد المسافر، أو هو الحلاج الذي أخطأ هو التعيير، واخطات السلطة التفسير، فكان أن قتل قتلا مجانيا وبلا معنى.
وقد يكون هو أبو الغرائب، والذي راح يبحث عن بلاد العجائب، وذلك بحثا عن (شيء) كان قريبا منه من غير أن يدرك وجوده، وقد يكون هو ابن رشيد، في ذلك الزمن الذي كان، وفي هذا الزمن الكائن اليوم.
وقد يكون هو التوءم السيامي غريب وعجيب، والذي جمعت الطبيعة بينهما، وكانا جسدا واحدا، ولكن الجراحة الطبية فصلت بينهما، فكان ضرويا أن يكون الضياع وتكون الغربة ويكون المنفى.
Visited 57 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي