الفقد والذاكرة.. في رثاء المناضل ابراهيم ياسين
أحمد حبشي
في كل مرة نستعيد تفاصل أيامنا، تطفو وجوه استغرقنا شجن فراقها، في حضرتها عشنا أزهى اللحظات واكتسبنا مباهج اليقين، معها استقام عودنا وسرنا على خطا الواثقين، بأن العالم على شفا نقلة نحو آفاق أرحب، ومجتمع أعدل وارحم، تتعدد فيه فرص الخلاص من كل أشكال المهانة والشعور بالدونية وشروط الاستغلال. تواعدنا على ان نوحد الصف وتحديد الهداف ونسمو في تدبير الاختلاف. اكتملت شروط هبتنا، وملأنا الشوارع بصخب السؤال، ندعو لكشف الحقيقة والحد من الشطط والغلو في تدبير المال العام. قارعنا الجحود والاستهجان بصلابة وعناد، لم ترهبنا سجون ولا شراسة الأحكام. استعنا بالرفقة الطيبة والعزم الأكيد في مواجهة كل أصناف الاحتقان. فكان العطاء الدافق والحماس المشبع باليقظة والإيمان المثقل بالآمال.
ما أوجعنا في المسار أننا في حسرة وألم بالغ فقدنا العديد منهم بعد معاناة مع المرض. كان آخر الأعزاء الراحلين، الرفيق الودود الزاهد المتواضع إبراهيم ياسين. رافقناه في كل لحظات مقاومته العنيدة لمرض أفقده كل الفعالية التي عودنا عليها، وإن لم يفقده ارهاق المرض حرارة بسمته عند كل لقاء، وفورة الحديث المثقل بشحنة الايمان بالمستقبل وما يخفيه من جميل الأيام. كما اعتدنا صرامته مع ذاته لم يترك فرصة دون أن يثير السؤال حول جدارة ما انجزناه وما ينتظرنا في المسار، لم يخف تفاؤله وإن كان يؤكد على الاخذ بالاعتبار كل المتغيرات ودواعي الحيطة والحذر من ما يحمله الواقع من ملابسات. عزيزنا الذي ودعناه بحرقة زائدة وألم كبير، كان حضوره وازنا في كل مراحل صولتنا فكرا وممارسة، عرف المطاردة البوليسية الشرسة والعيش في المنفى، يحمل يقينه وقوة ايمانه بعدالة القضايا التي استرخص حياته من أجل سموها وبسط معالمها. انخرط منذ اللحظة الأولى في مسار الخطو اليساري المنتفض على كل تهميش واستفراد بتحديد مصير الوطن. اختار أن يتبوأ الشعب السيادة في التدبير المطلق لشأنه، والحد من كل هيمنة أجنبية على مدخرات الوطن. يستعيد في كل ذلك بطولات الأمجاد في حماية البلد من كل هيمنة واستبداد، كيف استعاد الإباء والأجداد الحق في تأكيد السيادة ووحدة البلاد، كيف استطاعوا صيانة مجد وجد وطن وسيادة امة.
عزيزنا الذي افتقدنا معه ذلك الحديث العميق حول ما حمله تاريخ الوطن من بطولات وما حققه رجاله من صولات، حافظ من خلالها على ريادته ومهابة جانبه من كل المتربصين والراغبين في نهب خيراته واستعباد ساكنته، كانت له صولة في تحقيق المعطيات والوقوف على حجية المستندات، خدمة للحقيقة وتأكيد ما تحمله الأحداث من دلالات. اليوم نقول ونردد في حسرة وأسى، كان ياسين يفكك طلاسم حيرتنا ونستعين به في بلورة السؤال، يفك عقدة ترددنا ويفسح المجال لتداعي أفكار تقربنا من السبيل إلى مشارف الحقيقة. هكذا ستظل ذكراه في أعماقنا، يصلنا هديه ولا نراه، نسير على نهج خطوه في الحرص على التأني عند الخوض في سراديب الحقيقة. هو وطن على أبواب رحلة لفك وشائج علله واستفحال منعرجات دروبه، يحتاج إلى حكمة التبصر وقوة البصيرة، تظللنا ذكراه ونحن نستعيد كل تفاصيل أيامه، نحفظ الود ونصون العهد إلى أن نلقاه.