الشاعر المغربى الكبير محمد بنّيس: الغرب يريد ثقافته وحدها ولغتنا أداة المقاومة

الشاعر المغربى الكبير محمد بنّيس: الغرب يريد ثقافته وحدها ولغتنا أداة المقاومة

حوار ــ د. محمود القيعى 

     محمد بنّيس .. واحد من شعراء الحداثة الذين تركوا بصمة على الشعرية العربية.
تُرجمت أعماله إلى عدد من اللغات الأوروبية مثل: الفرنسية والإيطالية ، والإسبانية والألمانية، فضلا عن التركية. إضافة لكونه شاعرا حداثيا كبيرا، فهو ناقد ومفكر مهموم بأمته العربية، ويؤلمه ما تتعرض له من مآس على مدى تاريخها ، وهى المآسى التى جعلت همومه أضعافا مضاعفة، يؤمن بأن المقاومة ليست سلاحا فقط، ويعوّل كثيرا على المقاومة الثقافية واللغوية والأدبية والفنية .

«بنّيس» أصدر أخيرا فى عام «2021» كتابا بعنوان «فلسطين.. ذاكرة المقاومات» قبل الأحداث الجسام فى «غزة» التى أصبحت هدفا للإبادة من قبل الصهاينة وداعميهم من أمريكا والغرب.

كتاب «بنّيس» الأخير عن «فلسطين «كان أشبه بصيحة تحذير لأمة لم يعد لها من خيار الآن سوى القبول بالهيمنة أو اختيار الحرية، وفى حوار مع «الأهرام»، اعتبر بنيس أن الغرب لا يريد سوى ثقافته وحدها، وأن لغتنا العربية أداة لمقاومة الهيمنة الثقافية، وأن على العرب أن يختاروا الآن بين الهيمنة الغربية والحرية، معتبرا الإرث الاستعمارى البغيض خلف إهانة لا تنسى لدى العرب، ورأى أن اسم فلسطين هو قاسم مشترك بين أحرار العالم، وإلى نص الحوار:

لنبدأ من كتابك الذى نشرته مؤخرا (2021) ويحمل عنوانا دالا هو «فلسطين.. ذاكرة المقاومات». لماذا أقدمت على تأليف هذا الكتاب، أنت الذى تشتغل بالقصيدة قبل سواها؟

الشاعر الحديث يعطى القصيدة مكان المركز فى أعماله، بمعنى أنه يعدد ممارساته الكتابية، بين القصيدة، الدراسة، النصوص والترجمة. هى تقاليد الحداثة الشعرية. بهذه الممارسات المتعددة، والمتآلفة، أصبحت صورة الشاعر الحديث، عربيا، مخيفة. كما لو كنا نخشى على صفاء الشعر من عدوى ممارسات ما زلنا بوعينا التقليدى نعتبرها مشوبة. نسينا أبا العلاء المعري، الذى فتح ممارسة الشاعر على ممارسات نصية متعددة. لكننا لا نتأمل ما أنتجه شعراء عرب حديثون، بنوا أعمالهم فى حوار دائم مع القصيدة وشعريتها. ثم إن كتاب «فلسطين.. ذاكرة المقاومات» يجمع بين الشعر والوثيقة والشهادة والفكر. وجميعها ذات غاية واحدة هى ما سميته «ذاكرة المقاومات».

يبدو وكأن هذا الكتاب كان صيحة تحذير لما سوف يحدث من إبادة لأهل «غزة».. ليتك تحدثنا عن الدافع إلى تأليفه؟

كنت وعدت بعض أصدقائى الفلسطينيين عام 2017 بعزمى على جمع كل ما كنت كتبته عن فلسطين، شعرا ونصوصا ودراسات، فى كتاب. وبمجرد ما أعلن دونالد ترامب عن «صفقة القرن»، أيقنت حينها أن التوقيت أتي، لإنجاز الكتاب والوفاء بالوعد. عند الشروع فى العمل، تبين لى أن فكرة الكتاب يحب أن تكون أشمل مما كنت فكرت فيه لتوثيق ما كتبته عن القضية الفلسطينية العادلة. خطر لى إذن، أن أضع الكتاب من منظور المقاومة، لإيمانى أن المقاومة ليست فقط بالسياسة والسلاح، بل هناك مقاومة فكرية وثقافية وأدبية وفنية ولغوية. مقاومة متعددة، بالجمع. ويكون الكتاب يشمل كتاب غيرى إلى جانب كتاباتي.

بدأت تلمس بناء الكتاب. أكبر إحساس كان لديّ آنذاك هو أن اسم فلسطين أخذ ينزوى شيئا فشيئا، وهو مهدد بالاختفاء من التداول العام، فى الإعلام وفى الخطابات السياسية. هذا الإحساس كان يؤلمني. لذلك افتتحت مقدمة الكتاب بما يشبه الشطحة، وهى أننى أريد أن أضع أمامى كتابا، صفحاته البيضاء لا نهائية، أكتب فيها اسم «فلسطين» وحده، ويستمر من سيأتون بعدى فى كتابة الاسم بلغات شعوب الأرض جميعا.

توجهت على الفور إلى باريس، حيث يمكننى الاطلاع على أوسع ما أمكن من المراجع والنصوص والوثائق. أصبح عنوان الكتاب محددا بوضوح، «فلسطين، ذاكرة المقاومات». زرت مكتبة «معهد العالم العربي»، حيث اطلعت على كتب ومجلات تناولت القضية الفلسطينية بالعربية والفرنسية، كما ساعدنى أصدقائى الفرنسيون. ومن بين الكتب التى بذلت مجهودا للحصول عليها، تلك المؤسسة لفكرة الصهيونية. هناك كتب ثلاثة لمؤلفين صهاينة. «روما والقدس» لموشى هيس الصادر عام 1862، و«تحذير يهودى روسى إلى إخوانه» لليون بيسنْكر، الصادر عام 1882، ثم «دولة اليهود» لهرتزل، الصادر عام 1896، وأيضا «مذكرات 1895 ـ 1904» هرتزل. من المفيد معرفة سياق كل واحد من هذه الكتب. نحن عادة ما نتحدث فقط عن كتاب هرتزل.

عندما نقرأ هذه الكتب، بدقة وتفصيل، وإلى جانبها «الكتاب الخزري» لصاحبه أبو الحسن اللاوي، يهودا بن صموئيل اللاوي، سنتعرف أكثر على الصهيونية التى كانت منقسمة إلى قسمين: الصهيونية الدينية، التى يمثلها الأندلسى أبو الحسن يهودا اللاوى صاحب «الكتاب الخزَري» و«أناشيد صهيون». فهو مؤسس الحركة التى تدعو للعودة إلى فلسطين وإحياء دولة إسرائيل. وموشى هيس هو الآخر يدعو للعودة إلى فلسطين، على إثر اقتناعه بالحركة القومية التى ظهرت فى أوروبا فى منتصف القرن التاسع عشر.

وهناك تيار آخر يمثله ليون بيسنكر ثم الشهير هرتزل، ويعرف بالصهيونية السياسية أو الترابية، التى كانت ذات توجه علماني، تؤمن بالبحث فقط عن مأوى لليهود، فى أى مكان فى العالم، دون خلفية دينية توراتية، لأنه كان يرى أن الصهيونية مسألة قومية، كغيرها من القوميات. فلا هى دينية ولا اجتماعية. وقع الاختيار كل مرة على دولة أو منطقة، وكان آخرها أوغندا. لكن الذى حدث هو أن هرتزل توفى سنة 1904، وفى 1905 عقد مؤتمر المنظمة الصهيونية العالمية فى مدينة «بال» السويسرية، وكانت الغلبة اختيار المكان لليهود الروس، أنصار العودة إلى فلسطين. نعم، كان هرتزل يريد فلسطين، والبعد السياسى لفلسطين كان حاضرا فى كتاباته، حيث كان يعتبر إقامة دولة اليهود فى فلسطين نقطة ارتكاز للغرب والحضارة الغربية وحاجزا، فى الوقت نفسه، ضد الشعوب البربرية، وهو ما أصبح يردده علانية بعد 7 أكتوبر، كل من بايدن ونيتانياهو.

النقطة التى يجب الانتباه لها والتوقف عندها هى أن أوروبا كانت ترفض استقبال اليهود القادمين من أوروبا الشرقية، لذلك قرر الإنجليز إعلان وعد بلفور عام 1917، لإقامة مأوى لليهود فى فلسطين، التى أصبحت تحت الانتداب البريطاني، بعد سقوط الدولة العثمانية. اعتبر الإنجليز فلسطين أرضهم التى يحق لهم التصرف فى مصيرها، لاسيما أن ذات السيناريو حدث فى أيرلندا الشمالية.

فى بداية القرن العشرين بدأ لدى الفلسطينيين وعى بخطورة الصهيونية ومشروعها فى استيطان فلسطين. من أهم الممثلين لهذا الوعى كل من يوسف ضياء الدين الخالدي، الذى كان رئيسا لبلدية القدس ووجه عام 1899 رسالة إلى هرتزل، يدعوه فيها إلى إيقاف نشاطه فى فلسطين. ثم نصار خوري، مدير جريدة «الكرمل» الذى قام بترجمة مادة الصهيونية من «الأنسيكلوبيديا الصهيونية» عام 1911، وروحى الخالدي، الذى كتب عام 1913 تقريرا أوضح فيه خطورة الحركة الصهيونية بعنوان «السيونيزم أى المسألة الصهيونية»، وهو أول كتاب عربى عن الصهيونية.

بعد هذه المرحلة، انطلقت المقاومة المسلحة، التى لم تتوقف منذ ثورة البراق عام 1929 حتى الآن مع «طوفان الأقصي». قراءة الكتب المؤسسة تبيّن وتؤكد أن الصهيونية حركة تسعى إلى استعمار كامل فلسطين، كما تقرر فى المؤتمر الصهيونى العشرين عام 1937. وإبعاد الفلسطينيين كلهم جميعا عن أرضهم بجميع الوسائل، بالسياسة، بالمال، بالعنف والتدمير وبالإبادة الجماعية.

«فلسطين ذاكرة مقاومات»، أى دلالة لهذا العنوان؟                                                                                                                                                                                                                                       

ينطوى هذا العنوان على أهمية الذاكرة، التى هى أكبر محرّض على الفعل، وأهمية فكرة المقاومة الثقافية، التى لا نوليها الاعتبار. لقد تبين لى أن الجيل الجديد بحاجة إلى التذكرة بقضية فلسطين، بطريقة تركيبية، تجمع بين كتابات كتاب وعلماء وفلاسفة ومبدعين، عرب وغير عرب، تم اختيار نصوصهم بعد اطلاع متفحص، يكاد يكون شاملا لأغلب الأسماء الكبري، فى القديم والحديث. هو برأيى عنوان كتاب أصبح موسوعيا، مبنيا بغاية الإفادة والاكتشاف فى آن.

القضية الفلسطينية بحاجة إلى المعرفة والوعي، وإلى توصيل تلك الذاكرة المتعددة للمقاومة إلى الجيل الجديد. فالتعاطف بالكلام عن فلسطين لا يكفي. لا بد من نشر معرفة راسخة بالقضية. كما أن اسم فلسطين يجب أن يبقى اسما مشتركا بيننا وبين جميع أحرار العالم، حتى تبقى فكرة المقاومة حية وحتى يشعر الفلسطينيون إنهم ليسوا وحيدين.

كيف ترى المواجهة الآن؟                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أكبر ما تحقق من «طوفان الأقصي» هو عودة اسم فلسطين ليتصدر أخبار العالم ويخلق حركة مدهشة على مستوى الشعوب، المتشبثة بقيم الحرية والعدالة. علينا ألا ننسى نيتانياهو الذى رفع على الملأ، فى الأمم المتحدة، خريطة ما سماه، الشرق الأوسط الجديد، وهى تخلو من اسم فلسطين. أتمنى أن يكون «طوفان الأقصي» دافعا ليقظة العالم كله.

هل تفاجأت من تأييد الغرب غير المحدود للإبادة التى يتعرض لها الفلسطينيون على يد إسرائيل؟
لم تفاجئنى الوقاحة الغربية الداعمة لإبادة الفلسطينيين، لأن هذا تاريخ استعمارهم وهيمنتهم. للأسف الغرب يتبرأ دائما من قيمه التى يدعى أنه مبدعها والمدافع عنها. نحن الآن نجتاز مرحلة انتقالية فى السياسة الدولية، من أحادية القطب إلى تعدديته، وآمل أن تفرز الأحداث الجسام وعيا بروح وثابة، شجاعة، قادرة على المصالحة مع القيم الكبري.
 
كيف ترى موقف مثقفى الغرب مما تقوم به إسرائيل من إبادة جماعية للفلسطينيين؟
هناك مجموعة من المثقفين الفرنسيين كان موقفهم جيدا، ونددوا، فى بيان قوي، صراحة بما يحدث. لكن علينا أن ندرك أن النفوذ الصهيونى الإعلامى فى أوروبا وأمريكا قوى جدا. لكن مع ذلك هناك كتّاب وأساتذة جامعيون وفنانون فى أوروبا وأمريكا طالبوا بوقف الحرب وأيدوا فلسطين. وقد دفعوا ثمن موقفهم بمنعهم من ممارسة أعمالهم أو حجبت عنهم الجوائز أو سحبت كتبهم أو تعرضوا للإبعاد. هناك عقاب حقيقى من الصهيونيين (بأصنافهم) لكل من لا يخضع لرؤيتهم. والموقف الآن فى ألمانيا مؤسف للغاية، حيث ينتشر التأييد الأعمى لإسرائيل. فإذا دخلت أيَّ مبنى رسميّ هناك، ترى علمين: أحدهما لألمانيا والآخر لإسرائيل. نحن نعيش زمن الإعلام، والإعلام مؤثر جدا، وهو فى الغرب تحت السيطرة الصهيونية. لذا يجب على المثقف أن يحتمى بوعى تاريخى وقانونى وفكرى حتى ينجو من هذه السيطرة الصهيونية على العقول.
 
كيف ترى حكم محكمة العدل الدولية الأخير؟
لنا أن نعتز ونفتخر به، ونبنى عليه. أظن أنه سيكون له تأثير قوى مستقبلا.
 
وماذا عن المثقف العربي؟ هل يقتصر دوره على الإدانات والبيانات أم أن هناك دورا آخر ينتظره فى هذه اللحظة الحاسمة؟
يجب أن يكون يقظا، ولا يخضع لأى إغراءات يتخلى بها عن موقعه النقدي. نحن بحاجة إلى فهم أن القضية الفلسطينية هى قضية إنسانية كبرى ثم هى قصية كونية ووجودية بالنسبة للعالم العربي. إذا كان نيتانياهو يصف حربه على غزة بأنها مسألة وجود أو نهاية لإسرائيل، فإننا نقول إن ما يحدث ليس فقط مسألة وجود لفلسطين وحدها، بل للعرب جميعا. هناك مخطط لإبقاء الهيمنة الغربية على العالم العربي، ولا سبيل لصد هذه الهيمنة المتغطرسة سوى الاتحاد والمقاومة. ما نحتاج إليه الآن من المثقف العربى هو قول كلمة حق، لا تخاذل فيها ولا تبرير.

الشعر العربى كان من قبل حاضرا فى الصراع العربى الصهيونى وكان سلاحا موجعا، وما دواوين محمود درويش وسميح القاسم وسواهما ببعيدة عنا. برأيك، لماذا خفت صوت شعر المقاومة؟

لكل زمان شعره، وإذا نظرنا مثلا إلى دواوين محمود درويش الأخيرة، فسنجدها تتحرر من السياسة بالمعنى الآني، والتحريضي، وتفتح أفقا إنسانيا. درويش برأيى شاعر عالمى وليس فلسطينيا فقط. إلا أنه من الخطأ اختزال القضية الفلسطينية فى البعد السياسي، لأنها قضية كونية إنسانية.

هل الصراع مع الصهيونية صراع سياسى أم دينى أم ثقافي؟
هو كل هذا. وهو أكثر منه. صراعنا مع الصهيونية وجودي، كما ذكرت. وهو الأخطر من كل ما عداه.

وكيف تنظر إلى التطبيع مع إسرائيل؟
التطبيع مع هذا الكيان، قبل اعتراف إسرائيل بالدولة الفلسطينية المستقلة، حسب القرارات الدولية، اختراق حقيقى سيحدث خلخلة داخل المجتمع العربي. التطبيع، بشروط إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، قبول بالهيمنة الإسرائيلية وخضوع لإرادتها وإرادة أمريكا فى إخضاع العرب وغير العرب جميعا، أقصد الأمازيغ والأكراد وجميع الأقليات. لنا أن نختار بين الهيمنة والحرية. ولا سبيل إلى الحرية سوى المقاومة، المتعددة، التى تظل مقاومة. لا يكفى لرفض التطبيع أن نقول كما قلنا وسمعنا فى السبعينيات والثمانينيات عنه إنه خيانة، أو طعنة فى ظهر الفلسطينيين. الآن نحن بحاجة إلى رؤية أخرى أبعد. التطبيع الآن تفريط فى حريتنا واستقلالنا، وسيجعلنا – شئنا أم أبينا – مجرد تابعين، خضوعين، لا أمن لنا فى حاضرنا ولا أمل فى مستقبلنا. فتح باب التطبيع، بشروط العدو، انزلاق نحو هاوية يرونها بعيدة وأراها قريبة .

بخيال الشاعر، كيف ترى مآل هذا الصراع الوجودي؟
أعتقد أنه سيكون صراعا ممتدا لزمن، ويجب أن نستعد له جيدا. علينا أن نكون أقوياء، لأننا فى عالم لا مكان للضعفاء فيه. قوتنا فى قوة إيماننا بالمقاومة، وبمبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية، التى نؤمن بها. بهذا تكون الثقافة ضرورة فى هذا الصراع. لابد من الفكر والأدب والفن كى تبقى العزيمة العربية صلبة ومتقدة، يقظة، قادرة على الانفتاح والإبداع. لابد أن نكون على بينة من واقعنا فى العالم وعلاقتنا به. انفتاحنا على العالم يجب ألا نتخلى عنه. فالقادم سيكون أصعب للبلاد العربية، وأظن أن الأجيال القادمة ستعانى أكثر مما عانينا.

هل تفاجأت من موقف الفيلسوف الألمانى هابرماس، الداعم للعنف والإبادة؟
لا، لم أفاجأ. لكن علينا أن نعلم بأن السيطرة الصهيونية فى الغرب وفى أمريكا قوية، مدمرة. أذكر أن الفيلسوف أخيل مبيمبى من جنوب إفريقيا نشر كتابه «سياسة العداء» منذ سبعة أعوام، تحدث فى أحد فصوله عن «الأبرتايد» فى إسرائيل كنظام عنصري، وخلص إلى أن ما عانى منه الزنوج من سياسة عنصرية فى جنوب إفريقيا أدنى بكثير مقارنة بما يعانى منه الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال الإسرائيلي. وعندما توجه إلى ألمانيا لتقديم محاضرة، تم منعه. موقف هابرماس لا يُبرر، وموقفه ضعيف، متخاذل ومتعارض مع القيم التى يدعى الدفاع عنها. مقابل ذلك، هناك أمثلة كثيرة لمن تم التنكيل بهم من المثقفين فى الغرب لقولهم كلمة حق.

هل تراجع أحد من هؤلاء عن مواقفه خشية الصهيونية؟
لم يتراجعوا، ظلوا على مواقفهم الصلبة، وليتنا نقتدى بهم، ونتعلم منهم.

هل يشعر محمد بنّيس بالمرارة من الإرث الاستعمارى الفرنسى البغيض؟
طبعا، لا يمكن أن نقبل أو ننسى الإهانة التى تعرضنا لها زمنا طويلا، سواء الإهانة الإنسانية أو الثقافية أو اللغوية، وهو أمر يجعلنا نفكر أكثر فى طريقة مقاومة هذا السلوك اللاإنسانى واللاحضارى من أجل ألا نسقط فى الانفعال، ومن أجل السعى لإعادة بناء ذاتيتنا. نحن متخلفون. هذا التخلف له تاريخ، وهناك قوة تمنعنا من التحديث، وتصدنا عن الأفكار النقدية.

وحتى لا نسقط فى «الدوغمائية»، وفى الاختلاف الأعمي، علينا أن نفرق بين الثقافة الفرنسية والثقافة الفرانكفونية.
الثقافة الفرنسية ثقافة كبيرة، بتاريخها وكتابها ومبدعيها. وهى إحدى الثقافات التى نشرت فكرة التحرر والحداثة والديمقراطية. منها تعلمنا ونتعلم عدم التنازل عن النقدى والإبداعي. نحن لا نرفض الثقافة الفرنسية، بل نرفض الاستعمار الفرنسي. كل الذين اشتغلوا من المغاربة على الثقافة الفرنسية أصبحوا من كبار الكتّاب والشعراء والفنانين والمفكرين.

على ذكر اللغة، كيف ترى ظاهرة أدباء عرب يكتبون بلغات أجنبية: محمد ديب، كاتب ياسين، الطاهر بن جلون، جورج شحادة، أمين معلوف وسواهم، أليست اللغة وطنا والترجمة اغترابا؟
موقفى الثابت أن العربية هى الأصل الحضارى الممتد عبر العصور، والتخلى عن العربية (آو عن الأمازيغية أو الكردية) هو التخلى عن الأساسى فينا. اللغة لا يمكن أن نستبدلها بلغة أخري، لأن اللغة هى التى تؤسسنا. مائة وثلاثون عاما من الاستعمار لم تكن أمرا يسيرا على الجزائر أو فترة استعمار تونس أو المغرب. لا ننظر إلى هؤلاء الكتّاب، الذين يكتبون باللغة الفرنسية، نظرة تبتعد عن الموضوعية، بل علينا أن نقدر الذين أبدعوا من بينهم، مثلما نقدر الكتاب العرب باللغة الإنجليزية، مثل جبران وإدوارد سعيد، على سبيل المثال. قضية اللغة مطروحة فى العالم كله. وعن نفسى أقول بأنى لا أميل إلى الصدام، بقدر ما أسعى إلى إعطاء كل حالة اعتبارها.

هؤلاء الكتّاب أزمتهم- إن كان ثمة أزمة- مع أنفسهم أم مع جمهورهم؟
هؤلاء كتّاب كبار، لهم حضورهم القوى فى العالم العربى وفى العالم كله، وترجمت أعمال العديد منهم إلى العربية.

هل يمكن أن تكون اللغة أداة من أدوات المقاومة؟
طبعا، اللغة فى مقدمة أدوات المقاومة. أذكر أن أحد رؤساء الدولة العبرية عندما ذهب إلى ألمانيا، قال ما معناه: « إسرائيل هى اللغة العبرية». للأسف نحن غير واعين بمسألة اللغة، ولم نجرؤ على إحداث قطيعة إيجابية وليست قطيعة تؤدى إلى الانزواء والانغلاق.

كيف ترى المشهد الفكرى فى العالم العربي؟
أظنه يتراجع بسبب سيادة ثقافة الإعلام والاستهلاك. ثقافة الإعلام والاستهلاك هى ثقافة السطحية. العمق لا يأتى إلا بالفكر والإبداع.

أي الحداثات العربية أثمرت أكثر: الشعرية أم الفكرية أم النقدية؟
كلها متكاملة فيما بينها، وبات لنا رصيد عربى مهم منها شعرا وسردا ونقدا وفكرا.

كيف ترى الشعر فى زمن التواصل؟
هناك نكوص ليس فى القصيدة ولكن فى الوعى بالقصيدة. هذه هى المشكلة. علينا أن ندرك ما يتطلبه الشعر الحديث من حساسية جديدة ومن معرفة واسعة. لنا أن نتعلّم الشعر كى نشعر بمتعته. وأنا أتحدث معك فى هذه القضية بصفتى شاعرا.

ألم تسئ الوظيفة الاجتماعية للشعر عبر العصور لمفهوم الشعر كإبداع جمالي؟
كان الشاعر الروسي«ياكبسون» قد حدد وظائف اللغة، ومن بينها الوظيفة الشعرية. هى وظيفة بنائية، تشمل الشعر والنثر. لكن للقصيدة وظائف متعددة. القول بالوظيفة البنائية معناه أن الشعر هو بالأساس لغة، أو، إن شئنا، لغة داخل اللغة كما يعرفه بول فاليري. عندما تنتفى خصوصية اللغة الشعرية تنتفى القصيدة. من هنا كان للعرب شعر عظيم، عندما كان الشاعر حرا من أى إلزام، وكان مبدعا عندما كان سيد الكلام. وحينما طغى الخطاب الدينى الفقهى قديما والسياسى الأيديولوجى حديثا، أصبح الشعر منفيا، غريبا. على أن العربية ظلت حاضرة بشعرائها المبدعين، وهو ما يتجاوز الآنى والمناسباتي.

كيف ترى صورة الثقافة العربية عالميا؟
للأسف محدودة جدا.

ما السبب؟
ربما كان الغرب لا يريد سوى ثقافته وحدها تسود العالم كله. وظنى أننا كلما كنا أقدر على الإبداع وحرية الفكر والتعبير، وتجاوزنا الأفكار المانعة لتحررنا، حققنا حضورا أقوى لدى الآخر. لكن ما أعطيه الأسبقية هو التكامل بين تعدد الثقافة العربية، لأن ما يسود حتى الآن هو الرؤية التى ورثناها عن العشرينيات من القرن الماضي، فيما واقعنا الثقافى والإبداعى تبدل. ما زلنا بعيدين عن التفاعل والتجاوب وعن تقدير عطاءات الثقافة العربية الحديثة فى أكثر من بلد عربي. مع ذلك، أظل متشبثا بأمل ما، هو الذى يجعلنى أواصل الكتابة وأمجد لغة الحوار.

(يومية “الأهرام” المصرية، الجمعة 9 فبراير 2024)

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد بنيس

شاعر مغربي