غاستون باشلار: ومضة تستعيد حياة خالق للكتب (3/3)
ترجمة : سعيد بوخليط
يعتبر الكائن الإنساني خليَّة كينونات. يتأتى مصدر عسلها من الأفكار البعيدة، الصور المجنونة،بمعنى جوهر الحياة الشعرية. حياة إنسان تفتقد إلى مركز. ضمن أّيّ محيط تنتعش الحياة؟ وبما أنها تنتعش خاصة حين التعبير، فوجهة أيّ صورة، وقصائد، يصادف الكائن حينها حياته الحقيقية، الحياة المفرطة؟
الكائن الإنساني غير ثابت، غير موجود البتة هنا، لا يحيا قط ضمن سياق زمان حيث يراه الآخرون يعيش، ويخبرهم بأنه يعيش. ليس ممكنا تناول الحياة مثل كتلة تنساب من موجة تتدفق تطوي الكائن برمته ضمن صيرورة عامة للوجود. غالبا، تقريبا دائما، نجسِّد كائنات راكدة تكتسحنا دوَّامات.
أين تكمن وجهة حركة الحياة داخلنا؟ لم يكابد برجسون صعوبة بخصوص توضيح أنه ضمن تجربة المعاش تغدو ساعة التوقيت وسيلة غير مفيدة أو مضلِّلة. ساعة التوقيت، بمثابة زمن الآخرين، زمن ”زمن آخر” لا يمكنه قياس ديمومتنا. لكن ألسنا نحن أيضا حزمة موصولة بكيفية سيِّئة مع آلاف الأزمنة الأخرى؟ بالتالي تنمو ”الأزمنة” داخلنا دون إيجاد الإيقاع الذي ينظِّم وقتنا.
أين الزمان الذي يكشف بإشارة قوية ديناميكية كائننا، ثم ديناميكيات وجودنا المتعدِّدة. يكفي تغيير الصور قصد تحويل الزمان.
نصبح جراء سيادة النار، مِدخنة كينونات. أين الزمان الرئيسي، مع النار التي تمنحنا الطاقة والحياة: هل زمن الرَّماد من يبقي على سخونة نار الغد؟
نغادر إذن العالم الحسي، الموضوعي، استعدنا الذاتية. موضوعيا، تحظى الصورة الشعرية بمجد كونها عابرة. لا تمسك بها الأحاسيس المحتملة ضمن الوجود الحسي. نستدعي الأحاسيس لكن يغيب تمثُّلها. عموما، تهتدي بنا الصورة الشعرية، صوب ولوج سيادة جمالية، لاتشترك شيئا مع تعبيرات الجمالية الحسية، التي تخلق موضوعات.
لذلك، آمنت بضرورة حدوث ثورة فلسفية قصد بلوغ السيادة الشعرية حقا. اشتغلت على هذا التحول من الموضوعي نحو الذاتي مثلما يلهمنا درس الظاهراتية. أتمرَّن- كوميدية فخورة- على تصور أنِّي خالق وكذا الذات المبدعة للصور ألهمني إياها الشعراء. رغم ذلك،تلزمني المنهجية الظاهراتية قصد استعادة الوعي الأول، إذن الوعي الذاتي، بخصوص إبداع الصور الجميلة. أريد حقا إضفاء كل ماهو جميل على النفسية بقراءة شعراء أحسّ معهم بجمال الحياة.
الحياة الجميلة، بمعنى في خضم قراءة رائعة، قراءة يقظة دائما قصد تناول بين طيات مجرى الكلمات تضاريس الشعري المباغتة.
حين التمرُّس على أن أحيا شخصيا، باقتفاء قاعدة الأساس الظاهراتي، ثم جلّ تلك التضاريس، الصغيرة، الكبيرة، سأكتشف بأنَّ اللغة الشعرية انفتاح صوب مرتفعات الكلام. مافوق الكلام، كلام شعري تأتى له توطيد المتساميات. سنعيش وفق الثنائي إذا أمكننا أن نعيش شعريا وتحدَّثنا مبدئيا، كاقتناع أولي، اللغة الشعرية.
لكن بناء على تيمة القوى العمودية للغة الشعرية، توخيتُ إبراز الخلاف الذي يبعدني حاليا عن التوظيف الدقيق للتحليل النفسي بخصوص تطوير التعبير الشعري. هكذا، ألامس النزاع الأخير للمناهج (2) الذي ارتأيتُ استحضاره ضمن سياق هذا المدخل المقتضب.
الاعتراضات التي أعتقد بإمكانية طرحها، عبر توطئة موجزة، فيما يتعلق بتقديرات المختصين النفسانيين حول التحليل النفسي للغة،لاتستهدف طبعا مبادئ التحليل النفسي. تشكِّل لديّ أعمال فرويد، الصغيرة مثل الكبيرة، مفتاحا تدشينيا يلزمها الإقناع بعدم إمكانية بلوغ الدراسات النفسية دون إصلاح عميق لمناهج الملاحظة.
إدخال قيمة جديدة في اللغة، بحيث تغدو هذه القيمة جلاء للفكرة، صورة جميلة، كلمة فكر، مقدار بدايات الكلام بحيث وجب على الفيلسوف إبراز الدور ضمن جمالية نفسية.
أودُّ ببساطة خلال الصفحات اللاحقة، توضيح عدم تناول ورثة فرويد حقا لجمالية اللغة، ثم بعد ذلك انطواء جمالية اللغة على دور مفيد بخصوص الصحة النفسية.
أراهن بكل نقاشي على حقيقة تسام مطلق.يعثر الشعراء مثلما يقول باتريس دو لاتور دو بين (3)،على ”أساس حين ارتقائهم”. هذا الأساس، بمثابة عتبة قصد تحقيق التسامي المطلق. اقترحتُ سلفا هذا المفهوم بين صفحات أعمال سابقة. أريد آنيا بلورة الدليل الأساسي فيما يتعلق بالكتاب الموجز الحالي.
هناك صور مطلقة، بمعنى أضحت خفيفة جراء حمولاتها الانفعالية الزائدة. صور لاتتسامى بأيِّ شيء. نجح حينها التقطير الشعري، اكتمل؛ وتحقَّق بلوغ الصفاء الشعري. لقد تخلَّص الجوهر الشعري من كل الرواسب الملموسة. هذا الإعداد للغة في الأعلى، علوها الخاص، لم يتجه تفكير المحلِّل النفسي حتى يأخذه بعين الاعتبار. تظل مختلف الصور، بالنسبة إليه، مشبعة بمواد نفسية أعِدَّت بطريقة سيِّئة، بل مواد ترفض الإعداد.
تكمن دائما بالنسبة للمحلِّل النفسي مقاومة للحركة، هناك عمق تحت السطح. ينظر المحلِّل النفسي صوب العمق ثم ينظر جيدا. يتبيَّن بوضوح الوجود خلف الأقبية. لكنه يجازف بافتقاد دلالة الارتفاع، والإحساس باندفاعات نفسية عمودية.بالنسبة إليه، العمق ثابت، صلب، دائم.فلا يوجد بحسبه رداء جاهز دون بطانة قوية، ثم بقدر ما يكون الرداء جاهزا، تزداد متانة البطانة.بالتالي، حَدَثَ الصقل ضمن نسيج العقد الصلبة. فسيفساء مكوِّنات باطنية، هكذا مكمن الشخصية العميقة فيما يتعلق بلمعان النفسية.
إذن،تبرز حقيقة النفسية المتوارية: ”أن تكشفُ بإفراط،معناه أنكَ تخفي”. صيغة حُكْم يعلنه المحلِّل النفسي في وجه زائره المريض. وعندما تتبدى بين طيات الكلام الحاجة إلى الترصيع وإرادة الزخرفة ثم متعتها، لا يعرف المحلِّل النفسي دائما كيفية محاورة عبارات مقامرة من ثمة وقوفه عند الجزء السفلي للقاع. يشجب جملة وتفصيلا اللغة المتزيِّنة.
حينما تضاعف العبارة تلميحاتها، تضيء تبايناتها، يرى المحلِّل النفسي في غضون ذلك شاشة فسيفسائية، وطَّدها كبت حاذق. كائن غامض بمهارة، يقاوم نظرة محلِّل نفسي متبصِّرٍ. قلت منذ فترة طويلة، بأنَّ الكلام تأتَّى للإنسان قصد إخفاء فكره.
بيد أنَّ طرح الإشكالية تحت إشارة فكر بارع على مستوى صيانة الأسرار، لايأخذ بعين الاعتبار وفرة عبارات تتخيَّل. وجهة عادية للكلام بدل تدفقه عبر صور جديدة.
بكيفية عامة، إثارة التكلُّم إشارة غير جيدة في تصور المحلِّل النفسي. يتوفر على كلمة فظَّة،بمثابة ملاذ قصد شجب غزارة أقوال بحيث يعتبرها مجرد ”ثرثرة”. يعتقد ببساطة أنَّ إثارة التكلُّم هي إثارة بديلة، بالتالي لن يتجه قط تفكيره نحو الفائدة المباشرة التي تحظى بها النفسية. إجمالا، يعتبر المحلِّل نفسي، تلك الوفرة اختلالا على مستوى السطح، من هنا سعيه صوب البحث عن الأسباب النفسية الأكثر عمقا (4).
عندئذ، يظهر المحلِّلون النفسانيون في تصور حالم باللغة الشعرية، وكذا لغة متكاملة، باعتبارهم أخصائيين أحاديي التوجه لغويا، أو بكيفية أكثر تحديدا نصف وجهة عمودية. لم يكتشفوا نطاق مختلف سمات عمودية اللغة. وبما أنهم لم يفكروا في تضمين اللغة قيم الارتفاع، بمعنى القيم الشعرية، فقد غاب لديهم الإحساس بالديناميكية العمودية الايجابية، التي تسحب وتحمل الشعراء، المتكلِّمين الكبار.
يتفاجأ هؤلاء حين سماعهم تأكيدا مفاده أنَّ طفرات القول الشعري تعبيرات عن الطفرة الحيوية، ونموذج إنساني كليا عن تلك الطفرة اللغوية المتجدِّدة باستمرار داخل القصيدة. عندما نقرأ الشعراء تتاح لنا ألف مناسبة كي نحيا وفق لغة فتيَّة. يلزمنا العثور على إحدى أفعال اللغة الأكثر فورية، ضمن نطاق لغة تتخيَّل.
حينما يتخيَّل الظاهراتي من خلال غزارة الصور الشعرية، يمكنه إبانها تعويض المحلِّل النفسي. بل ربما التئام منهجيتين متعارضتين، إحداها تعود نحو الخلف، بينما تستعيد الثانية رعونة لغة غير مراقبة، إحداها تقصد العمق، في حين تستشرف الثانية الارتفاع، مما يبلور معطيات تأرجح مفيد، بالعثور على حلقة بين الاندفاعات والإلهامات، ما يدفعنا وكذا ما يجذبنا صوب التطلع إليه. ينبغي دائما الارتباط بالماضي وباستمرار الانفصال عن هذا الماضي. يقتضي الارتباط بالماضي الشغف بالذاكرة، ثم يستدعي التخلص منه التخيُّل كثيرا. مقتضيات متباينة، تجعل اللغة مفعمة بالحياة.
إذن، ينبغي على فلسفة متكاملة للغة، الجمع بين دروس التحليل النفسي وكذا الظاهراتية. يتعين ربط التحليل النفسي بشعرية- تحليلية تنتظم وفقها مغامرات اللغة، تقدم دروسا حرَّة لمختلف وسائل التعبير ومهاراته.
ليس ضروريا أبدا الاعتماد على المحلِّلين النفسيين قصد تطوير تلك الشعرية–التحليلية وفق مختلف شفافيتها بخصوص رجل يتحدث. نادرة جدا قراءة أهل التحليل النفسي للشعراء، وكذا وَسْمِ يوميات حياتهم بعشق الشعراء.يقتضي الأمر من شعرية التحليل أن تشكِّل تعميقا حميما تماما لسعادة التخيُّل.سيبدأ كل واحد تحليله النفسي الخاص من خلال شعرية-تحليله. تحليل نفسي ذاتي، يغدو سهلا حينما نشيخ.قصد التمرس على تحقيق ممكنات شعرية-تحليلية جيدة وملتهبة، ينبغي بالأحرى أن تكون شابّا.
هكذا، فالسرد المستفيض لتطلعاتي المنهجية وأنا أحاول جرد تاريخها، لم يفض صوب وجهة هدوء متجانس.كلما اشتغلتُ، تنوعتُ أكثر.بهدف تحقيق وحدة للكائن، ينبغي خلال الوقت نفسه امتلاك مختلف الأعمار.
على الأقل مع صفحات الكتاب الحالي، أومن بإمكانية التواجد ضمن حيز إشكالية دقيقة. تتعلق بالتدليل على احتمال تبلور شعرية حول صورة واحدة؛ إذا استطعتُ النجاح في هذه المهمة، سأمتلك حينها دليلا دقيقا لصالح أطروحة عامة، وردت غالبا بين فصول كتبي السابقة، أكَّدت بأنَّ القصيدة وحدها ولاشيء غيرها، تمثِّل سيادة اللغة. يعتبر شرح اللغة الشعرية بمصطلحات اللغة المألوفة، جهلا بالقيم النوعية.يستدعي السياق ولوج السيادة الشعرية كي يتحقَّق الإحساس بتناغمها.
بالفعل، لايتوقف طائر العنقاء على أن يحيا، ويموت ثم يولد ثانية في القصيدة، بواسطة القصيدة ومن أجلها. مذهل تعدُّد وتجدُّد أشكاله الشعرية. فتيَّة جدا طيور العنقاء لدى الشعراء، بالكاد نتبيَّن ملامحها ضمن نطاق كثير من الزخارف الشعرية للشكل التقليدي.
يكفي أن اقرأ أكثر، بامتياز حتى يتوسَّع معرض طيور العنقاء الشعرية التي نجدها في الكتاب الحالي. أنا متأكِّد من توافق شاعر جديد مع طائر عنقاء جديد، كائن مذهل ينتسب إلى هذا الصنف. أحيانا لايكاد يسمى طائر العنقاء، وقد يتوارى اسمه خلف روعة المجازات، ثم أحيانا أخرى يكفي التقاط حفنة من مادة طائر العنقاء، ثم بعض حبيبات النكهة، قصد نمو خرافة أساسها الطائر.
في الأدب، يولد ثانية طائر العنقاء
من اللاشيء
رماد ريشة
رنين آخر مقاطعها
كما لو يحتاج الشاعر إلى مكمن قافية العقيق (5).
لذلك،يعتبر حاليا طائر العنقاء كائنا أدبيا. يجدر بالقارئ المتردِّد اقتناعه بتلك الحقيقة، الإقامة قليلا داخل متحف طيور العنقاء التي جمعتُها في القسم الأخير من هذه الدراسة. سيرى بأنَّ الجدلية الثقيلة بين الحياة والموت، لا تكفي قط بغية استيعاب روعة صور طائر العنقاء. طائر يجسِّد في نظر الشاعر، توثُّبا للجمال، ولادة داخل العالم الشعري. ولا يتحقق موته سوى بهدف تحضير ولادة جديدة، ولادة كائن شعري أكثر جمالا.
طائر العنقاء كائن أدبي،الأدب الكثيف.
أيضا، ألا يمكن التعبير عن مقاربة أخرى؟
هنا ألامس وَجَعي الأخير كخالق للكتب.يتطلب إنجاز كتاب حول طائر العنقاء، بلوغ أستاذية ذات ثراء موسوعي. أن أغدو مؤرِّخا عارفا بالأساطير والديانات. إدراك تصنيف مختلف أنواع طائر العنقاء القادمة من الشرق، وعاشت في مصر. بهذا الخصوص، قرأت بشغف جلِّ المؤلفات التي أمكنني وضع اليد عليها. درست بهدوء كتاب جون هيبو وماكسيم ليرو (6)، ثم الفصول المكرَّسة للعنقاء بين صفحات العمل الذي أصدره كارل مارتان إيدزمان: النار السماوية(7).
لكن بينما أستحسن الشجاعة الأساسية لأعمال من هذا القبيل على مستوى تنظيم الرموز العالقة منذئذ بين ثنايا تاريخيتها الخالصة، يحضر ذهني سؤال مفاده: كيف يتأتى لعالم الآثار أن يعيش داخل مستودع الصور؟ ألا تنطوي القيمة الموضوعية حقا للمؤرخ، على مكوِّن يمسُّ شعرية الصورة الأسطورية؟ لا يمكنني الاعتقاد بإمكانية تناول السمة الموضوعية لمثل هذه الوقائع المذهلة باستبعاد كلِّي للتمرين الشعري.
علماء الآثار سعداء جدا باكتشافاتهم دون أن يكونوا رغم ذلك شعراء. بما أني لست مؤهَّلا بما يكفي حتى ألتقط تماما تصورات علماء الآثار، فلديَّ هواجس ظاهراتية: أهتم بإسهاماتهم.
عموما، فيما يخصني، أقرأ مختلف هذه الكتب الموسوعية بخيال يقظ.أتطلع دائما، عبر تلك القراءات،صوب تغذية خيالي المنشغل بطيور العنقاء. أخذت بعين الاعتبار، مختلف تلك الطيور المنحدرة من الماضي، ماض انقضى فعلا.
بيد أنه قصد تنظيم معطيات نقاشات حول موضوعات متعدِّدة، قوامها اهتمامات متناثرة جدا، أريد الإشارة باختصار إلى مخطَّط هذه الدراسة المقتضبة.
في الفصل الأول، أمكنني خلال الصفحات الأولى، التذكير بمقاربات بسيطة إلى حدٍّ ما، تقوم على صور وأفكار مصدرها أبحاث علماء الآثار، دون قدرة وكذا رغبة على بلورة علاقة بين الصور الفاعلة في الأساطير ثم صور متخيَّلة بحرية أكثر فأكثر من طرف الشعراء.
سنرى كيف لازلنا نوظِّف صورة عتيقة وفق تعبيرات سريعة، بسيطة، حسب تأويل أثرته للتوِّ صور جديدة. ستبدو هذه الصياغات للصورة الأسطورية فاترة جدا، حين المقارنة مع الأفعال الوجدانية للشعراء المعاصرين.
حاولتُ في الفصل الثاني التمهيدي، العثور ضمن واقعية مبرِّرات الصور التي بوسعها، في نظر مختصِّين نفسانيين حذرين، إضفاء الشرعية على الصورة المجنونة لطائر الضوء الذي يميِّز العالم خلال لحظة. تبلور اعتقاد بالوجود الحيواني للطائر، والعثور له على موقع ضمن دراسات بحثية قديمة شملت أوصاف الطيور(8).
قبل اكتشاف اسمه رأيته يحلِّق في السماء. أبيح بهذا الأمر. أرصد إذن خلال لحظة تواصل خيال قاصر يحتاج باستمرار لشيء من الواقع كي يخلق صور مذهلة.
فقط خلال صفحات الفصل الثالث والأخير، قاربت موضوع طائر العنقاء ضمن نواة شعرية نموذجية.هذه المرة، سيفقد التاريخ كل فعل، والتقليد كل حضور. ذلك، أنَّ طيور العنقاء الحالية، التي يتبنَّاها الشعراء المعاصرون، لا تمتلك أسلافا أو يلازمها بريق للرموز، ولاتنمُّ عن أفكار شائخة، بل تمثِّل محض صور أدبية، حيَّة بالمطلق نتيجة حيويتها. صور من هذا القبيل استثمرت الثورة السوريالية. إنها، حقائق بارزة عن سوريالية طبيعية.
تتجه رؤية نقد أدبي حصيف،إلى إلغائها بسهولة باعتبارها صورا مفرطة. يرفض التسليم، بامتلاك اللغة الشعرية راهنا، الحق بخصوص مبالغات شتى، نتيجة نشاط سوريالي دائم.
صور عدَّة موضوعة في المتحف، تصبح بمجرد أن تستفزها تأويلات معينة، قنابل لطائر العنقاء بوسع سوريالي جديد توظيفها ضد قِلاع البلاغيين.
لكن لأبدأ بنقاشات أقل إزعاجا، وأستعيد التواصل مع التقليد.
هامش:
Gaston Bachelard :Fragments d une poétique du feu(1988).pp24-57.
(1) ألححتُ باستمرار في كتبي السابقة حول العقلانية التطبيقية،على خطورة اعتقادات الصور لدى المشتغل بالفكر العلمي.
(2) يشير باشلار من خلال ملاحظة أخرى معزولة إلى التالي: يلزمني ضمن سياق التقديم،أن أوضِّح بكيفية جلية نقاشي مع أصحاب مرجعيات التحليل النفسي. لا يتعلق الأمر، بتباين بسيط على مستوى المناهج. يستعصي على المحلِّل النفساني بلوغ التحرُّر اللساني لأنه يعيش بين محوري الدال والمدلول، بحيث تأرجح دائما تحت عتبة التحرُّر بواسطة الصور.
(3) باتريس دو لاتور دو بين: الحياة معتكفةٌ على القصيدة1938، ص 85
(4) وإن بدا هذا مفارقا جدا، فقد أشعرني اختبار الصور الأدبية اللا- متوقعة بقصور المقاربة النفسية.يتخلَّص الشاعر من المشترك عند القارئين، وكذا جماعة اللغة التفسيرية، لحظة انتشائه باللغة الجديدة، ثم نتيجة إرادته بخصوص الحديث فقط شعريا، والاندفاع حتما غاية الصور الجديدة. ينصبُّ اهتمام المحلِّل النفسي عند أسفل الصورة قصد ”التفسير”؛ ولايتجه تفكيره قط صوب الأعلى.
(5) هناك في الأعالي، تهدي تلك الأظافر اللامعة قافية العقيق،
حزن، منتصف الليل، يدعم حامل الشعلة،
حلم ليلي كبير أحرقه طائر العنقاء
لاتحويه قط قارورة رماد
خزانة صحون، الغرفة الفارغة”
(مالارميه، المجموعة الشعرية الكاملة التي تضمنت عدة قصائد تنشر لأول مرة، غاليمار،1940،ص 126 ).
(6) جون هيبو وماكسيم ليرو: أسطورة طائر العنقاء في الآداب الإغريقية واللاتينية، خزانة كلية مدينة لييج، 1939 .
(7) إيغنيس ديفينوس (النار السماوية)، النار كوسيلة لاستعادة الفتوة وكذا الخلود.
(8) بيير بيلون دو مان: تاريخ طبيعة الطيور، مع مواصفاتها، وكذا لوحات وصفية ساذجة مستوحاة من الطبيعة (باريس، 1555)، إيجابية جدا. الملاحظات دقيقة. هناك فصل تضمن صفحتين ونصف حول طائر العنقاء، بحيث شَغَلَ حيزا موضوعيا بجانب باقي الطيور الأخرى. يكشف طائر العنقاء بكيفية متميزة للغاية، طريقة معينة عن الاحتضان. أشار بولون إلى روايات بعض الكتَّاب، بخصوص طريقة وضع الأنثى بيضها: ‘فوق ظهر الذَّكر، ثم بعد ذلك يحتضنها تحته”.