عاشق الألوان
أحمد حبشي
ولجت الغرفة مثقل الخطى، كئيبا غير واثق مما ستراه عناي، كان حميد ممتدا لا يرنو إلى حيث اعتاد أن يمتد بصره وتتفتق اساريره، بادرتني فتيحة بالعناق قبل أن تطوقني حسرة وحزن ذميم.
لم أقو على صد فورة الآهات، انساب دمع دافق تلته زفرات حسرة مفعمة بلواعج اشتياق. استعدت زمرة أيام يانعة لحظاتها، سويعات بهجة مثقلة بجميل الذكريات، صبانا ونحن نعبر المسافات مشيا على الأقدام لنقابل أقرانا في نزال لإثبات الذات. في مسار تواددنا توالت مباهجنا وتوطدت أواصرنا، وفي الأفق لاحت أحلام. سمت مدارك عوالمنا وارتقينا في مدارج العرفان.
هنا وطن وحقائق تغالب ضجيج البهرجة وحكايات النعيم والعيش الرغيد بعد الاستقلال. لم يعد لأي حديث من معنى في استفحال واقع الحال. كنا على مسافة من آمال أجيال كانت قبلنا. رافق والد حميد فورة صحوتنا وصار يحثنا على أن نقرأ ونواكب خطو زعيم حزب الاستقلال. أصبحت لنا عوالمنا وطريق آخر نراه السبيل للحد من حيرة الشك واليقين. تسللنا بخطو حذر ونحن دون العشرين إلى عالم المسرح لنستعين بفن التمثيل في الكشف عن بعض مقاصدنا. تداولنا كثيرا حول ما يمكن أن يجلي رؤيتنا لكل ما نعيشه ونراه. مساء كل جمعة نفتح أبواب الحوار بيننا لنحدد مسار اختياراتنا ونرتب كيف نكشف عمق ما نراه. فاجأنا يوسف الفضيل بأول مسرحية كتبها، “وراء الباب” أبهرتنا الفكرة في شكلها وتفاصيل وقائعها. حكاية لص يتسلل إلى مقبرة ليسرق رجل أحد الموتى، شاع بين الناس أنها من ذهب. وهو يبحث عن غايته، يحاصره الموتى وهو يقترف جرمه، يعدون له محاكمة على كل ما اقترفه من أفعال في حق كل واحد منهم. مسرحية فاجأت جميع من شاهدها وأغدقت على طاقمها الكثير من الثناء. تألق حميد بشكل لافت في دور اللص، بعد أن تعذر لأسباب صحية على عبد العزيز سليم مواصلة التداريب. رافقنا الأستاذ محمد التسولي في بعض مراحل الإعداد ومدنا بالملابس التي كنا في حاجة إليها، وهي بالمناسبة ذات الملابس لمسرحية “الذباب” لجان بول سارتر التي قدمتها فرقة الشهاب في سنة 1966.
بعد هذه التجربة الناجحة سنلتحق بفرقة الشهاب قبل أن نؤسس مع المرحوم محمد بنبراهيم ومحمد بنعمر فرقة الباسم التي حققت نجاحا لافتا بنوعية ما قدمته من أعمال، وسطوع نجم محمد السحماوي كمخرج برؤية مغايرة، ثم انخراطه في تجربة المسرح الأحمر ودوره اللافت في “قصة حديقة الحيون” التي أعدها عزيزنا الفقيد محمد جبران وأخرجها فقيدنا عبد اللطيف نور. كان حميد حاضرا بقوة أدائه الرائع مشفوعا بشغفه الكبير بالتمثيل، إلى درجة الانصهار، تلازمه شخصية الدور في تفاصيل يومه، حيث كان يفاجأ مخاطبه بأجزاء من حوار المسرحية في مواصلة للتدريب على ما أسند إليه. حميد من الفنانين القلائل الذين احترفوا دون التفكير في المردود المادي ولا ما سيكسبونه من منافع مقابل أعمالهم. فكممثل ورسام لم يقايض يوما عمله بمقابل يتناسب وما يتطلبه العمل من جهد وحضور منتظم. ترك منصبه الوظيفي وهاجر لفرنسا ليستكمل تكوينه وتوسيع معارفه حول المسرح. أمر لم يستسغه الكثيرون من أقاربه ودويه، عاد من تجربته بفرنسا وظل بدون عمل ينتظر فرصه ممارسة عشقه الذي في تقديره يستحق كل التضحيات.
أتيحت له فرصة العمل بليبيا، تجربة حرمته لسنوات من ممارسة عشقه للتمثيل، مما جعله يقرر العودة إلى الوطن دون أن يخبر مشغله بذلك. رفض العودة رغم قيمة المنصب المسند إليه ووضعه الجديد كأب عليه رعاية أبناء. اعتمد في كل ما يخص عائلته الصغيرة على فتيحة، امرأة استوعبت كل شغفه بما كان يغنيه عن كل فضائل الحياة، استوت بجلال همتها تعبد الطريق لشغبه العنيد. بدعمها المتواصل صار نجما على أكثر من صعيد، يكتب الشعر ويعد اللوحات الفنية ببصمة ميزت عطاءاته وكشفت خبايا رؤيته للحياة. لوحات بوجوه لا ملامح لها، تعكس أوضاعها لا استقرار الناس وضبابية المآل.
هكذا كان حميد عطاء دائم وزهدا في الحياة لا تجد له نظيرا. سيظل شغبه الجميل ووثوقه بجلال الفن وبهاء التمثيل، منارة تعيدنا إلى أيامه في تفاصيل وقائعها ونوعية ردود فعله. تعددت حكاياته بتعدد علاقاته الاجتماعية والفنية، كل من قابله يحفظ له ذكرى أو حادث يثير الاستغراب وكثير من الاستفهام حول أسرار تواضعه وسماحة ردة فعله حتى وإن ناله حيف من رفاق المسار، يخفي غضبه بانسحاب يقوده إلى كأس مترعة، تغنيه عن سجال لا يفيد ولا يحد من صولة عطاءه وكشف ألوان عشقه لمباهج الحياة. فلروحه الطاهرة أغلى تحية وأزكى سلام.