هل مواقف ماكرون حول المواجهة مع روسيا تبدو واقعية؟
د. زياد منصور
سياسة إيمانويل ماكرون في مجال دعم أوكرانيا مجنونة ولا تأخذ من عبر التاريخ
حتى الآن لم يتجرأ أحد من الساسة الأوروبيين على إعلان ما أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن الأزمة الأوكرانية، بل تميزت مواقف هؤلاء بالحذر، أقله في المجالس العامة، واللقاءات الدولية والمؤتمرات التي تعقد بين الفينة والأخرى، ولعل أكثر ما تجرأ عليه هؤلاء القادة الأوروبيون هو القيام بزيارة تأييد إلى كييف للتعبير عما يسمونه تضامن مع أوكرانيا في حربها ضد روسيا، التي يعتبرونها مخالفة لقواعد القانون الدولي، وبالتالي تبدو تصريحات الرئيس الفرنسي كأنها خارج السياق. للتذكير فإن الرئيس الفرنسي أعلن أمام ممثلي الأحزاب الفرنسية في الإليزيه في نهاية شباط/فبراير”… إنه لا يستبعد إرسال قوات من حلف شمال الأطلسي إلى أوكرانيا. وأشار إلى أنه لا يوجد إجماع حاليا على إرسال قوات برية بشكل رسمي ومقترح ومعتمد، “ولكن لا يمكن استبعاد أي شيء في المستقبل”. وشدد ماكرون على أن فرنسا ستبذل قصارى جهدها لمنع روسيا من “الانتصار في هذه الحرب”.
ويبدو السؤال منطقيًّا عن حقيقة الدوافع التي تقود الرئيس الفرنسي لإطلاق مثل هذه التصريحات، والتي تبدو غير واقعية، بل هناك صعوبة في وضعها موضع التنفيذ، فالقدرات الفرنسية والأوروبية تبدو أقل بكثير من القدرات الروسية، والحرب مع روسيا يجب أن تدرس بعناية، فهي ليست حربًا في إفريقيا، ولا نموذجًا للصدام في ليبيا عام 2011، وبالتالي من الطبيعي وصف مواقف الرئيس الفرنسي في الداخل الفرنسي كما في خارجه بـ«الجنون». وهذا الكلام يتناقض تماما مع ما يقوله الزعماء الغربيون الآخرون في هذا الشأن.
لا شك في أن هناك جملة من البواعث والدوافع، لعل أبرزها تمكن روسيا من خلال سياستها في القارة الإفريقية بإنهاء الهينة الفرنسية المستمرة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإقصاء الدور الفرنسي وطرد الجنود الفرنسيين من القارة هو أحد أبرز الدوافع الحقيقية لفرنسا وتأثير ما جرى على سمعة ومكانة ماكرون الذي خرج بصعوبة من انتخابات رئاسية مجهدة.
للتذكير فقط أن الفرنسيين انسحبوا بشكل كامل ونهائي من مالي، وضُربت المصالح الفرنسية في النيجر، والأمر عينه في بوركينا فاسو. وكان لذلك تأثير كبير على فرنسا ومجمعها العسكري بعد فقدانها لمناجم اليورانيوم، فمن دون اليورانيوم النيجيري، من الصعب تخيل ليس فقط الأسلحة النووية الفرنسية، ولكن أيضًا نظام الطاقة، إذ تمتلك فرنسا أكبر مجمع لمحطات الطاقة النووية في أوروبا، وهو أمر مهم جدًا في أزمة الطاقة الحالية. على هذه الخلفية، غادر النيجر مثلاً 80% من الأجانب العاملين في إنتاج اليورانيوم. وتتكرر هذه الظاهرة المتناقضة اقتصاديا بانتظام في بلدان غرب أفريقيا التي تعتمد اقتصاداتها على إنتاج معدن واحد نادر وباهظ الثمن.
من اللافت هو أنَّ الشعارات التي رفعت في مالي وبوركينا فاسو وفي النيجر هي شعارات مناهضة للاستعمار بشكل علني، في حين أن روسيا من وجهة نظر حكومات هذه الدول المنقلبة على الوجود التاريخي الفرنسي على العكس من ذلك، يرتبط تاريخها وحاضرها بالمساعدة والكفاءة والدعم. ولا ينبغي تجاهل أنه خلال سلسلة من الزيارات إلى البلدان الأفريقية، فشل ماكرون في إقناع السكان المحليين بأن فرنسا لم تعد دولة استعمارية، وأن ادعاءاتها بالهيمنة على البلدان الناطقة بالفرنسية ترتبط حصريا ببعض الأهداف النبيلة، على الرغم من أن السلوك الفرنسي، ظاهريًا، لا يزال استعماريًا، ولا يأخذ بالاعتبار طاقات وقدرات شعوب القارة، في حين يعمل الجانب الروسي على بناء المزيد من دعائم الاستقلال للدول الأفريقية وإنشاء الشروط المسبقة لتعزيزها. في البداية، من خلال بناء جيوش وطنية مدربة، وأيضًا فإن جزءًا كبيرًا من الأفارقة يعلمون في الشركات والامتيازات الروسية في عدد من البلدان الأفريقية، على أساس دائم، وغالبيتهم من السكان المحليين ومن أولئك الذين تلقوا التعليم العالي والمهني في روسيا والاتحاد السوفياتي.
على هذا الأساس فإن انهيار الوجود الفرنسي في غرب أفريقيا وأزمة الثقة في الأيديولوجية الاستعمارية الجديدة الفرنسية على خلفية أزمتي الطاقة والغذاء العالميتين، يبدو من الدوافع الرئيسية للمواقف الفرنسية العالية النبرة.
والدافع الذي لا يقل أهمية فيكمن فغي فشل الهجوم المضاد الذي حظي بتغطية إعلامية واسعة النطاق من قبل القوات الأوكرانية في عام 2023. على هذا فإن فشل الهجوم الأوكراني المضاد وسقوط أفدييفكا مؤخرًا، والذي بُذل الكثير من الجهد لتعزيزه، أجبر النخب في أوروبا وفي فرنسا للحديث عما سيحدث إذا خسرت أوكرانيا. والنقطة هنا، بطبيعة الحال، لا تتعلق بأوكرانيا نفسها، بل تتعلق بحقيقة أن هذه هي الرهان على الاندفاعة الأوكرانية كان مضخمًّا رغم الإمكانات المحدودة الأوروبية التي تجتاحها موجة كبيرة من الاحتجاجات جراء واقع الحال بحجة دعم أوكرانيا وذهاب الأموال الضخمة ليس من أجل حماية الاقتصادات المحلية، بل من اجل هدف لا يبدو أنه قد يتحقق، مما يهدد هيبة النخب الأوروبية ومستقبلها السياسي والتي وجدت نفسها تنزلق في حرب دون توقع ما قد تسفر عنه من نتائج، ومن خسائر مادية وبشرية، وتأثير مرهق للاقتصادات الأوروبية.
أمَّا السبب الثالث فهو أنه لا يمكن تحليل خطاب ماكرون في استعداد فرنسا لتصعيد الصراع، إلا في سياق منافسة زميله البريطاني ريشي سوناك، الذي يدعو بالإضافة إلى ذلك إلى اتخاذ إجراءات أكثر جرأة بشأن مسألة مصادرة الأصول الروسية، وكي لا تكون فرنسا خارج هذه المشاريع التي قد يكون لها فيها حصَّة توازي نسبة الدعم الذي تقدمه للجانب الرسمي في أوكرانيا.
هنا نعيد إلى الذاكرة ما قاله سوناك في إحدى مقالاته عنوان “سندعم أوكرانيا دائمًا ونجعل بوتين يدفع ثمن كل شيء”، كتب الأخير: أن الدول الغربية “يجب أن تكون أكثر جرأة في مسألة مصادرة مئات المليارات من الأصول الروسية”، ومصادرة الفوائد التي تجلبها هذه الأموال، ومن ثم حل مسألة مصادرتها بالكامل. كما دعا إلى بذل كل ما في وسعه للإضرار باقتصاد الحرب” الروسي قدر الإمكان.
ويبدو أن السبب الرابع يكمن في عودة الطموحات الفرنسية، ولاستعادة محطات تاريخية لعبت فيها فرنسا دور سيدة أوروبا خلال فترة حكم نابليون، واليوم فإن بعض التصريحات غير المدروسة لا تعني أنَّ الأخيرة هي من القوة بمكان لإطلاق تصريحات من هذا النوع، فلقد فقدت دور القوة الرئيسية في أوروبا وأن تكون الرائدة في أوروبا، وماكرون يحلم بإعادة هذا الدور ولو عن طريق المواقف المتأرجحة.
من جانب آخر يبدو أن التقارير عن مشاركة وحدات فرنسية في القتال في أوكرانيا، تركت تأثيرها وأبعادها الداخليين، فلم تقنع الفرنسيين تلك المواقف الفرنسية عن أن هؤلاء هم من المدنيين الفرنسيين الذين ذهبوا للقتال في أوكرانيا بالزي العسكري الأوكراني. وأنه ليس بالإمكان حظر مثل هؤلاء بحجة أن الدولة الفرنسية هي دولة ديمقراطية، ودون أدنى شك فإن جملة من ردود الفعل انتقدت ضبابية الموقف الرسمي الفرنسي، وبالتالي كان لا بد من الذهاب أبعد من ذلك والتي أتت تصريحات ماكرون لتصب الزيت على النار ، والتي يجري العمل بشكل أو بآخر للتملص منها، أو التراجع عنها، خصوصًا أن مثل هذه المواقف قد تزيد وتفاقم من حدة الموقف الداخلي، إذ من الواضح أن هناك معسكرين ظهرا في فرنسا ، على الرغم من أن جميع الفصائل والأحزاب الفرنسية كانت تميل منذ بداية العملية الخاصة إلى ضرورة تقديم الدعم الصادق إلى حد ما لفلاديمير زيلينسكي وحكمه، اليوم من الواضح أن ردود الفعل الأكثر سلبية وخطورة جاءت من الداخل الفرنسي وعدد كبير من الأحزاب التي تتحالف على أفكار معاداة أمريكا، ودعم الاحتجاجات ضد التكامل الأوروبي. علاوة على ذلك، فإن عددًا كبيرًا من هذه الأحزاب الفرنسية تدفعها فكرة مشتركة مفادها أن عقد مؤتمر للسلام ومعالجة الأزمة عن طريق المفاوضات هو وحده الذي سيسمح لفرنسا والاتحاد الأوروبي بإبعاد نفسيهما عن الأزمة الأوكرانية، أما مثل هذه التصريحات قد تؤدي إلى تصلب روسي في المواقف ويعيد الأمور إلى مربعها الأول.
لقد أظهرت تصريحات إيمانويل ماكرون حقيقة أن فرنسا وحيدة في وجهات نظرها. ولم يؤيد أي من حلفاء باريس اقتراح ماكرون. لقد تعرض ماكرون لوابل من الانتقادات سواء داخل البلاد أو من جميع حلفاء الناتو دون استثناء، من واشنطن إلى ستوكهولم، وكانت المعارضة الفرنسية المتنوعة، التي كانت منقسمة في السابق بشأن أي قضية، متفقة هذه المرة، ولم تتنافس إلا في اللغة القوية الموجهة إلى الرئيس ماكرون. وكتبت زعيمة حزب التجمع الوطني في البرلمان مارين لوبان على مواقع التواصل الاجتماعي: “لا أعلم إذا كان الجميع يدركون خطورة مثل هذا التصريح. يلعب إيمانويل ماكرون دور القائد، لكنه يتحدث بلا مبالاة عن حياة أطفالنا. نحن نتحدث عن السلام أو الحرب في بلادنا”.
وكان رد فعل ألمانيا حادا بشكل خاص على كلمات ماكرون. إذ وصف شولتز اقتراح الرئيس الفرنسي بأنه غير مناسب للغاية، وكشفت التعليقات اللاحقة عن وجود صراع خطير بين الرجلين. ونقلت بلومبرج عن مساعدي المستشار بأن ماكرون “هو شخصية ملكية، يستطيع إطلاق مواقف ضخمة، ولكن لا قدرة له على تنفيذها”. فردت باريس على الفور، واصفة شولتز بأنه سياسي “غير طموح وغير شجاع، وغير قادر على التفكير إلا على المدى القصير”.
تأتي هذه المواقف بعد أسبوع على التسريب الإعلامي لمحادثة هاتفية بين عسكريين ألمان رفيعي المستوى ناقشوا استخدام الصواريخ التي لم يتم تسليمها بعد إلى أوكرانيا لتدمير جسر القرم. وفي الوقت نفسه، ركزت وسائل الإعلام الأوروبية ليس فقط على محتوى المحادثة الطائشة، ولكن أيضًا على حقيقة تسريبها، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم ثقة حلفاء الناتو في ألمانيا، لأن مثل هذا “التسريب” قد لا يكون الأخير. لكن محتوى المحادثة بين الجنرالات، الذين قالوا إن الأوكرانيين أنفسهم بإمكانهم التعامل والسيطرة على الصواريخ، يضع المستشار شولتز في موقف غير مريح، لأنه برر رفض تزويد الأوكران بهذه الصواريخ بالحاجة إلى إرسال قوات ألمانية إلى أوكرانيا ومن المفترض أنه دون مساعدتها لن يتمكن الجيش الأوكراني من القيام بذلك.
يرى البعض أنه يمكن تفسير إحجام شولتز على أنه محاولة للمزايدة في قضية إحلال السلام من أجل رفع شعبيته وشعبية ائتلافه. فقد تلقى المستشار الألماني قدرا من الانتقادات من وسائل الإعلام والسياسيين الأوروبيين، لا يقل عما تلقاه ماكرون. لكن شولتز يستطيع الرجوع إلى رأي مواطنيه، الذين لا يريد 56% منهم إرسال الصواريخ التي طلبتها أوكرانيا إلى هناك، بينما لم ولن يجد ماكرون حجة مماثلة من مواطنيه فيما يتعلق بتصريحه الصاخب.
يمكن القول إنَّ سلسلة من الفضائح المماثلة بين الطرفين لن تؤدي إلا إلى تعزيز الشعور بوجود خلاف خطير بين مواقف فرنسا وألمانيا بشأن أوكرانيا.
فرنسا وروسيا وبعض من تاريخ الصراع!
ليست المرة الأولى التي تشهد العلاقة بين فرنسا وروسيا مثل هذه التوترات، التي وصلت في فترة تاريخية إلى حد الصدام المباشر، في أوائل الثمانينيات. ففي القرن الثامن عشر، لم يكن أحد في أوروبا يستطيع حتى أن يتخيل أنه بعد ثلاثين عامًا سوف يغزو جيش فرنسي ضخم الأراضي الروسية، وهو ما يمثل بداية الحرب الوطنية العظمى عام 1812. فلقد حدث تدهور حاد في العلاقات الروسية الفرنسية نتيجة للثورة الفرنسية الكبرى، لكن هذا لم يعن حتمية الصدام المباشر بين روسيا وفرنسا في المستقبل. فما هي أسباب الصراع العسكري واسع النطاق؟
إثر الثورة الفرنسية الكبرى، أعلنت كل أوروبا الملكية تقريبًا الحرب على فرنسا. قامت كاثرين الثانية بتقييم الإطاحة بالنظام الملكي على النحو التالي: “كل هذه الحثالة ليست بأحسن من الماركيز بوغاتشيف”. (كان تمرد بوغاتشيف، الذي يُعرف أيضًا بحرب الفلاحين أو تمرد القوزاق (1773-1775)، الثورة الرئيسية من سلسلة التمردات الشعبية التي وقعت في الإمبراطورية الروسية عام 1762 بعد أن استولت كاثرين الثانية على السلطة). وقد أتى موقفها بعد أن علمت بإعدام لويس السادس عشر، حيث أعلنت الإمبراطورة: “نحن بحاجة إلى القضاء على كل الفرنسيين قبل أن يزول اسم هذا الشعب!”
أدى صعود نابليون وتأسيسه للديكتاتورية إلى مزيد من التوتر في العلاقات. فقد أطلق على الإمبراطور الجديد في روسيا اسم “الوحش الكورسيكي”.
كانت روسيا جزءا من العديد من التحالفات المناهضة لفرنسا وشاركت في العمليات العسكرية في أوروبا، لكن نابليون هزم خصومه بسهولة. في عام 1807، أبرم الأباطرة الفرنسيون والروس معاهدة تيلسيت للسلام، والتي تم التأكيد على أحكامها وبنودها بعد عام في اتفاقية اتحاد إرفورت.
كانت روسيا جزءا من العديد من التحالفات المناهضة لفرنسا وشاركت في الأعمال العدائية في أوروبا، لكن نابليون هزم خصومه بسهولة. في عام 1807، أبرم الأباطرة الفرنسيون والروس معاهدة تيلسيت، والتي تم تأكيد أحكامها بعد عام في اتفاقية اتحاد إرفورت. الذي تكوَّن من الولايات الألمانية، والذي اقترحته مملكة بروسيا في إرفورت الذي دام من 20 آذار/مارس إلى 29 نيسان ، ولم يدخل الاتحاد حيز التنفيذ أبدًا.
سلام تيلسيت:
كان التحالف الروسي الفرنسي مجرد فترة راحة مؤقتة. في المراسلات السرية مسؤولين من ذوي الثقة، لم يخف نابليون وألكساندر الأول حقيقة أن هذه الاتفاقية كانت ” زواج مصلحة”. لقد نشأت في روسيا معارضة من النبلاء قوية، بقيادة الإمبراطورة ماريا فيودوروفنا، التي كتبت لابنها أن التحالف غير الطبيعي مع “الوحش الكورسيكي” هو “وصمة عار لا تمحى” على جبين القيصر. سارع ألكسندر الأول إلى طمأنة والدته: الاتفاق مع نابليون هو خطوة تكتيكية تمنح “الفرصة للتنفس بحرية لبعض الوقت وزيادة وسائلنا وقوتنا خلال هذا الوقت الثمين…”.
بدوره فإن وزير الخارجية الفرنسي لافي ذلك الحين ج.-ب شامبانيي أشار في تقرير صدر عام 1810: “إن تحالفنا مع روسيا… يعتبر غير موثوق به، ويقترب من نهايته”.
على هذا فإن الحرب الوطنية عام 1812 نجمت عن مجموعة كاملة من التناقضات الاقتصادية والسياسية المتنامية بسرعة بين روسيا وفرنسا. فبموجب شروط سلام تيلسيت، كان على روسيا الانضمام إلى الحصار القاري الموجه ضد إنجلترا. وقد وجه هذا ضربة خطيرة للاقتصاد الروسي. أدى انهيار العلاقات الاقتصادية الأنجلو-روسية إلى أزمة في التجارة الخارجية لروسيا.
فلقد انخفض إجمالي حجم التجارة الروسية في منطقة البلطيق بمقدار 8 ملايين روبل من الفضة، وانخفض عدد السفن الأجنبية التي تصل إلى موانئ البلطيق الروسية إلى النصف بين الأعوام 1806 إلى 1812.
في بداية عام 1811، تمت الموافقة على تعرفة تجارية روسية جديدة، والتي بموجبها تمت زيادة الرسوم الجمركية على جميع السلع الصناعية والسلع الفاخرة المستوردة بنسبة 50%. وفي الوقت نفسه، تم تخفيض الرسوم الجمركية على سلع التصدير الروسية الرئيسية أو إلغاؤها بالكامل. وفي ربيع عام 1811، استؤنفت العلاقات التجارية مع إنجلترا تحت شعار “التجارة المحايدة” على متن السفن الأمريكية. كل هذا كان تحديًا لنابليون وكان في الواقع بداية حرب تجارية واقتصادية.
بحلول نهاية العقد الأول من القرن التاسع عشر، كانت إمبراطورية نابليون الشاسعة قد وصلت إلى ذروة قوتها. وشملت ما يقرب من نصف أراضي أوروبا.
لقد سعى نابليون علناً إلى فرض الهيمنة في أوروبا: “سأكون حاكماً للعالم، وتبقى روسيا فقط، لكنني سأسحقها”. في الوقت نفسه، كان ألكسندر الأول يتوق إلى الانتقام من الهزائم المهينة التي تعرض لها في عامي 1805 و1807.
لقد حصلت سلسلة من الأحداث في روسيا وفرنسا، تحضيرًا للحرب، منها تشكيل وحدات وتشكيلات جديدة، وتمركز القوات على الحدود، وإنشاء خطوط العمليات، وإعداد المؤخرة، وبناء الهياكل الهندسية والحصون. تكثفت الأنشطة الاستخباراتية بشكل ملحوظ. كانت كلتا القوتين تبحثان بشكل مكثف عن حلفاء. أبرمت فرنسا معاهدات تحالف مع النمسا وبروسيا؛ روسيا – مع السويد وبريطانيا العظمى وإسبانيا. وفي أيار 1812، تم التوقيع على معاهدة بوخارست للسلام مع تركيا.
أصبحت حتمية الصدام العسكري واضحة. في آب 1811، أرسل أ. آي. تشيرنيشيف، تقريره من باريس شارحًا حجم الاستعدادات العسكرية الفرنسية، حيث توصل إلى نتيجة لا لبس فيها: إن أنشطة نابليون المتسرعة “تعطي سببًا للخوف من أنه من المستحيل تجنب الحرب فحسب، بل حتى ليس بالإمكان تأخيرها”.
ختامًا يمكن القول إنَّ سياسة إيمانويل ماكرون في مجال دعم أوكرانيا مجنونة إلى حد بعيد ولا تأخذ من عبر التاريخ شيئا، ولا تأخذ بعين الاعتبار تاريخ العلاقات الروسية الفرنسية بتقلباتها التاريخية، على الرغم من أنه وفي غضون أيام قليلة، أصدر عدد من السياسيين والمسؤولين العسكريين الأوروبيين رفيعي المستوى بيانات توقعوا فيها أن الناتو سوف يخوض قريباً حرباً مع روسيا. ونشرت صحف أوروبية “الخطط السرية” لحلف شمال الأطلسي، والتي وصفت سيناريو صد العدوان الروسي المحتمل، الذي يدور في خلد بعض الساسة في محاولة للتخلص من أعباء ما شكله الميدان الأوكراني من نتائج ستهز الكيانات الأوروبية بمزيد نمن الفوضى والحراكات الاجتماعية العنيفة في المدى المنظور، في حال عدم الإمساك بعصا المفاوضات والعودة إلى لغة الحوار، وعدم اللعب بلعبة الأحجام، في وقت تتقلص فيه أحجام وتأثيرات هذه الدول في العالم المعاصر.