من العهد الجديد إلى مسرح البدوي
أحمد حبشي
في الذكرى الثانية لرحيل فقيد المسرح المغربي وعميد رجالاته، الأستاذ عبد القادر البدوي، اجتمعت ثلة من تلاميذه ورفاق دربه، للإشادة بمناقبه وقوة مساهماته، في بناء صرح تجربة مسرحية متعددة الأشكال ومتباينة الأهداف. فكان اللقاء متسعا لتسليط الضوء على خصال الفقيد وجليل عطاءاته، بصيغ مختلفة تتكامل جوانبها في الكشف عن قيمة الرجل كهامة فكرية وطاقة إبداعية.
في لحظة الاعتراف هاته، تأكدت حقيقة مقولة يتداولها الناس بيقين تام، وهي تحمل الكثير من التبجيل والتقدير لوفاء المرأة المطلق، والصادق لمحيطها العائلي والاعتزاز بروابطها الأسرية: “للي ما عندو بنات ما عرفوه الناس باش مات”، أو “من خلف البنات كأنو ممات”. فشكرا حسناء وشكرا كريمة على اصراركما في احتضان وإغناء مسار استاذنا العزيز الفقيد الخالد عبد القادر البدوي. شكرا لأنكم في مسرح البدوي اتحتم لنا فرصة الوقوف وقفة اجلال وتقدير لرجل استثنائي وهامة فكرية قل نظيرها في تجربتنا الثقافية المغربية، التي تعددت اشكالاتها في التقاطع الذي عرفته مع تجارب ثقافية مختلفة، حيث كان لفقيدنا دور ريادي في تأسيس تجربة ذات سمات خاصة، تمكن من خلالها، باجتهاده المتواصل من فرض إيقاعه المتفرد في التفاعل مع واقع شديد التعقيد، يفتقر في معطياته للكثير من مقومات الابداع التي تساعد أو تسمح بالتناظر المتكافئ بين ثقافات تقاطعت مجالاتها واختلفت وسائل فعلها.
لقد استطاع الأستاذ عبد القادر البدوي بعمله الدؤوب واجتهاده المتواصل أن يصنع لنفسه مجدا، وأن يتبوأ في الوسط الثقافي والمسرحي على الخصوص مكانة وسمت مرحلة بكاملها، بسمات القطع الفاصل بين الانبهار والابداع الخلاق.
فبغض النظر عن الأشكال التعبيرية التي اعتمدها المغاربة في تشخيص وسرد الحكايات والوقائع، فإن التفاعل السريع والمتميز لثلة من المبدعين مع الأشكال التعبيرية الواردة من تجارب إنسانية مختلفة في سياقاتها، والتي حققت نوعا من التفوق على مستوى تأطير الفعل الإبداعي وتحصينه بكل ما يميزه ويفسح المجال لتطوره، ساعد على ابراز مؤهلات وقدرات المبدعين المغاربة، في اكتساب ما أهلهم لتجاوز حدود التأثر والتفاعل، إلى مستوى تحقيق التمييز وتأكيد الخصوصية. ولم يكن ذلك فقط باعتماد اللغة أو وقع المؤثرات الضوئية والصوتية، بل كان ايمانا بالسعي لتحقيق الذات من خلال صيغ الحكاية وفق استقراء للواقع وبقصد إبراز أهم مؤثراته وعناصر التحول فيه أو معيقات تطوره.
إن كل استقراء متأن لتجربة الرواد المغاربة في مجال المسرح، منذ اعتمد كشكل تعبيري وفضاء معلوم لإعادة عرض الواقع في بعض جوانبه واشكالاته، يقود إلى الوقوف على تجربة الأستاذ عبد القادر البدوي، لا لأته حافظ على أرشيف أعماله واجتهاداته، بل لأنه حقق نوعا من التميز في الكتابة المسرحية وطبيعة التعاطي مع إشكالات الواقع، بما يحيل على معيقات تطوره وضعف التفاعل مع ما يعتريه من تحولات. وهو بذلك عكس وعيا استباقيا في اعتماد فضاء المسرح وآلياته المختلفة للرفع من الأداء المجتمعي، وتحقيق إدراك ما يؤهل المسرح للمساهمة أكثر من غيره، في تجديد الوعي بالواقع المعاش والتفاعل المطلوب مع قضاياه.
وإن كان المجال لا يتسع لعرض حمولة تجربته في تفاصيلها، فإن الاشارة إلى الموقع الذي اختار أن يشكل قاعدة رؤيته الفكرية ثم المبدئية، يبرز وعيه المتقدم بدور الفعل المسرحي في استنهاض الحس الوطني، والمساهمة في تقوية الادراك بدور المقاومة في تخليص الذات، من كل تبعية واستسلام لمختلف التأثيرات التي تطمس الهوية وتقود للاغتراب. لقد آمن فقيد الحركة المسرحية منذ انطلاقته الأولى، بأن تأثير الحكاية وسياق صياغتها يساهم في استعادة وعي الذات بحقيقة هويتها، ويساهم في ارتفاع منسوب الشعور بالحاجة للدفاع عن مقومات الوطنية وصيانتها. تلك كانت رسالته التي كرس كل اعماله لبسط معالمها وترسيخ قيمها. فأصبح بذلك في الوعي الشعبي رمزا لمعنى المقاومة الثقافية والفكرية لكل أشكال الهيمنة والتهميش. وارتبط اسمه أكثر من غيره في تأسيس تجربة إبداعية مقاومة لكل اشكال الهيمنة والاستبداد، تحرض على التصدي ومناهضة الاستعباد والإدلال. لم يكتف في ذلك بالعروض المسرحية بكل ما يميز حمولتها الفكرية والتوعوية، بل بالتوازي معها فتح حوارا مباشرا مع القراء من خلال مقالات متعددة مضامينها في الجرائد الوطنية، حول كل ما تعرفه الساحة الثقافية من تطورات وما يثار من جدل بخصوص الواقع المجتمعي، وما تزخر به الساحة الفنية من تفاعلات، وعوائق تقتضي التداول وكشف ما يعتريها من ملابسات وانحرافات عن سياقها.
من “فرقة العهد الجديد” إلى “مسرح البدوي”، ليس هذا عنوانا لمرحلة متعددة الحقب، بل هي مسافة إبداعية وشموخ إنساني، حققت من خلال تجربة مفعمة بالعطاء والخلق الواثق الصبور، الكثير من مقومات التميز، في شروط لم تكتمل كل معطياتها، بما يسعف في تجاوز الكثير من العوائق، والتصدي لكل ما رافقها من ممارسات كيدية، تهدف إلى الإحباط وشل العزائم، وتبخيس كل المبادرات والحد من طموح أصحابها. هي حقب كانت انطلاقتها عسيرة وامكانيات تطورها محدودة. غير أن عزيمة كل من احتضنها وآمن بكل مقومات تميزها، جعلها منارة اهتدى بنورها الخلاق العديد من الرواد الأوائل، حيث كانت كالنهر الجارف الذي تتفرع عنه وديان. فالعهد الجديد كانت حقا مدرسة، لم يتسع فضاءها لكل الراغبين في التحاق بصفوفها، إذ كانت مشتلا لتفتق المواهب واتساع دائرة عطائها. حيث شكلت بذلك مرجعا لنوع من الابداع الذي ارتقى في التعاطي مع الواقع ومعطياته، إلى مستوى الكشف عن مكامن اخفاقه، والتحريض على الحد من تفاقم تردي أحواله وانتشار تداعياته. هكذا عرفت فرقة العهد الجديد ثم مسرح البدوي فيما بعد، بسياق جريء متميز في استقراء الواقع بقراءة نقدية عميقة، تسمي الأشياء بأسمائها وتساعد على بلورة السؤال حول المآل، وتحرض على الفعل الواعي لاستيعاب كل ما يحيط بالواقع من مطبات ومعيقات، قصد بلورة الفعل الوازن والمناسب للحد من كل التداعيات. هي دينامية واضحة المعالم سامية الأهداف، أكسبتها جرأة رجالاتها حضورا لافتا، ووسمت تاريخ الابداع المغربي بكفاحية من أجل تحقيق الذات وكل ما يصون كرامتها ويعزز مكانتها كضرورة معرفية وحيوية مجتمعية. لقد كان الأستاذ عبد القادر حاضرا بشكل لافت، في كل مراحل تحصين واقع الفاعلين في المجال الفني، بتطوير أدائهم الإبداعي وحماية حقوقهم الاجتماعية. إذ كان أول من دعا إلى تأطير الفاعلين في المجال الفني والمسرحي على الخصوص، وذلك بسعيه لتأسيس أول نقابة ترصد حاجيات الفنانين، وتحمي حقوقهم وترعى مكتسباتهم. ففي مطلع السبعينيات من القرن الماضي كانت مبادرته بالدعوة لجمع عام، عقد بقاعة بالمسبح البلدي الذي حل محله مسجد الحسن الثاني، وحضره ثلة من الفنانين، المسرحيين أساسا، وكلف الأستاذ عبد القادر بالسهر على المشروع ومواصلة كل الخطوات لحشد الأعضاء الفاعلين في الميدان، لتقوية وجود الهيئة النقابية المأمولة وتوسيع مجالات حضورها. فكانت اللبنة التي شكلت الأساس لكل المبادرات التي عرفها الحقل الفني بتعدد مشاربه.
وبعيدا عن كل تطاول وادعاء، يبقى الأستاذ عبد القادر البدوي، احدى المنارات الشامخة التي انارت طريق العديد من الفنانين والفنانات، وأكاد أجزم أن أغلب المسرحيين البيضاويين على الخصوص هم تلاميذ وخريجي مدرسة البدوي، حتى وإن تنكر البعض للعلاقة أو استخف بوقعها في مساره، فإن واقع البدايات للتجربة المسرحية بالخصوص، تحفظ لفقيدنا العزيز بأنه أول من احترف المسرح وكرس كل حياته للإبداع ونشر ثقافة الاعتماد على الذات والإصرار على مواصلة العطاء وتعدد المبادرات، مقومات جعلت منه مثالا يحتذى ورمزا تخلد ذكراه، فلروحه الطاهرة أزكى سلام.