محمد بنسعيد أيت ايدر.. منارة النضال وقدوة الوفاء
أحمد حبشي
التاريخ وقائع تتقابل فيها المواقف وتتباين خلالها ردود الأفعال، حيث تتجلى المواقف من خلال مستوى ردة الفعل ووقعها في المسار العام لتجربة إنسانية مشتركة، يكون للفرد فيها المكانة التي تناسب وحجم مساهمته في توالي الأحداث، سواء من موقع خاص أو في إطار فعالية جماعية تحكمها تصورات مشتركة محددة الأهداف. من الأكيد ان كل سيرورة تاريخية في تجارب الشعوب تركت وراءها اعلاما، رجالا ونساء كانت لهم ولهن المكانة والبصمة التي ميزت فعلهم ومستوى عطاءاتهم. وإذا كانت الأمثلة كثيرة ومتميزة في مسار تجربة مجتمعنا وتحظى بالتقدير والإكبار، فإن الوقوف على تجربة الأستاذ محمد بنسعيد أيت إيدر، في جوانبها المتعددة، تبرز إلى أي حد يستحق التداول حولها كل التقدير والاهتمام. في تأمل حقب هذه التجارب يمكن الوقوف عند سمات ومعالم كل مرحلة بكل ما يميزها، ويجعل منها محطة للكشف عن خصال وخصوصيات شخص، كان حاضرا بالفعل والفعالية في أهم المحطات التاريخية الفارقة، التي شكلت منعطفا في مسار المجتمع المغربي وانتقاله من حقبة إلى أخرى.
ففي لحظة الغزو الاستعماري وهيمنة القوى الأجنبية على الوطن، كان محمد بنسعيد في الصفوف الأمامية للمقاومة وواكب كل مراحل تطورها، بكل ما يقتضيه الموقف من تحمل للمسؤولية وما يستوجب من تضحيات. كما كان حضوره وازنا في تصحيح المسار لحظة استعادة جزء من السيادة الوطنية ومواجهة أشكال استمرار هيمنة الاستعمار. لم تثنيه كل أشكال مناورات الاستدراج وأساليب الترهيب عن قناعته في الدفاع ومواصلة المواجهة النشيطة لكل أشكال التدليس، ومحاولات قطع الطريق عن الحق في التحرير الكامل للوطن من كل أشكال الهيمنة وترسيخ مختلف صيغ الاستعمار والتبعية. تحمل كلفة مواقفه الثابتة وفعله المضاد إلى جانب ثلة من رفاقه الذين استرخصوا حياتهم من أجل الدفاع عن الكرامة وترسيخ قيم التكافل والعدالة الاجتماعية. تمت ملاحقته وتعقب خطواته، فكانت فطنته واسلوبه الخاص في الحيطة والحذر، وراء كل الإخفاقات في الحد من حيويته وفعالية فعله النشيط، بل مكن العديد من رفاقه لتخطي الحدود والانفلات من حصار مدمر وملاحقات كانت تستهدف التصفية وقطع دابر كل المعارضة الجادة.
في الجزائر حيث كان مسؤولا عن تدبير شأن العديد من المناضلين المطاردين والمطلوبين لمقصلة النظام الحاكم، بعد أن كثف مطاردته لكل معارضيه من اجل إحكام سيطرته على مقاليد الحكم وتعميق أساليب الاستبداد. تحمل بنسعيد كل المسؤولية في تدبير شؤون اللاجئين بمختلف توجهاتهم، سواء على مستوى الايواء وكل ما يقوي عزيمتهم في تحمل تعقيدات الإقامة وتصريف ملابسات الاغتراب في ظرفية تشنج إقليمي ومحاولات اقحامهم كطرف في الصراع.
هكذا التبست الأمور واختلطت الأوراق، فكان من الضروري القيام بخطوة إلى الوراء لاستكشاف ما تخفيه الأكمة ويتبين الحد الفاصل بين ضبابية الشك وحقيقة اليقين. لم تكن الأمور ساطعة التجلي، فكانت الهزة التي محمد بنسعيد إلى تأمل عميق في عواقب الفرص الضائعة وما خلفته من أثار، كان لها الوقع البالغ في الرجوع إلى ما يحبل به الواقع من إمكانيات لتصحيح مسار واعد، وفتح آفاق أرحب لتحقيق العديد من المكتسبات باشراك كل من له المصلحة في تجاوز عواقب وشروط الإخفاق.
غادر الجزائر إلى باريس بعد أن أضناه البحث في تحقيق توافق مع بعض رفاق الأمس، وأصبح واثقا بأن مسافة أصبحت تشكل عائقا في أي توافق أو انسجام في الاختيارات. وبعد فترة نقاهة اضطرارية، سيجد نفسه وسط ثلة من الشباب تتقاطع تطلعاته مع رؤاهم وإن اختلفت المسارات النضالية وقربتهم الأهداف. تحاصرهم جميعا المطاردة الشرسة بأحكام قاسية دوافعها انتقامية. فكانت الفرصة مواتية لاستعادة بديات فورة انخراط شبيبة أدركت باكرا خطر التهميش والاستحواذ على السلطة وكل مباهج الوطن. كان لقاء جيلين وحدهم إدراك عواقب المنحدر الذي سيق إليه الوطن بكل مكوناته. اكتملت خطواتهم وتقاربت أراءهم حول نهج مسار الفعل المباشر في واقع متحرك عرف الكثير من التحولات، التي أفرزت إطارات نقابية وجمعوية ذات فعالية مجتمعية، أفسحت المجال أكثر للفعل السياسي المندمج والقادر على تأطير فورة شبابية متقدة وقادرة على العطاء. فكانت تجربة جريدة أنوال التي أكدت حقيقة المستجدات وما تقتضيه من فعل مندمج، يسمح بترسيخ المكتسبات وتوسيع قاعدة الفعل السياسي المنظم بكل أبعاده النضالية والقانونية. فكانت الخطوة النوعية في فتح آفاق فعل سياسي منظم لم يلبث أن توسع إشعاعه، وامتدت فعاليته على أكثر من مستوى وطنيا ودوليا. فكانت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي بكورة فعل جاد متواصل برؤية واقعية وحكمة متعددة الأبعاد، فسحت المجال لحضور قوي لوجوه سياسية وأقلام صحفية على أكثر من مستوى. هكذا أصبح اسم محمد بنسعيد أيت إيدر مرجعا ومنارة طريق، على درب النضالي المتزن الواثق من حقيقة الالتزام بقضايا الجماهير وما يقتضيه الحضور المباشر والفعال، لتحقيق تراكم المكتسبات وتطور الوعي بضرورة التغيير الثقافي وبلورة رؤية مجتمعية تستحضر الديمقراطية كغاية وسلوك، يقوي الروابط ويصحح العلاقات بين الدولة والمجتمع. وبفعالية وحضور وازن صار محمد ينسعيد أيت ايدر مصدر الهام لثلة من الشباب التواق إلى مجتمع الحرية والمساواة، وذلك استلهاما لمواقفه الشجاعة وجرأته المتزنة، إلى جانب دماثة خلقه ووفائه للقيم النبيلة بكل ما تحمله من صدق واستقامة وثبات على المبدأ دون استعلاء أو احتكار للحقيقة. هكذا كان منذ خطواته الأولى مناضلا لا تهمه المواقع ولا تغريه المكتسبات الخاصة كيفما كان نوعها، لا يرى معنى لوجوده خارج الفعل الجماعي المتضامن والواثق من أفق عمله وصواب اختياراته. منه تعلمنا الوفاء الرزين لكل ما تم التوافق حوله، أو صار صيغة تعكس اختيارا يفتح آفاقا كيف ما كانت سعة حجمها. كان الاقبال شاسعا على التجربة والتعاطي فعالا في تفعيل أهم تصوراتها واختيار مؤسساتها، استعاد معها المجتمع قوة المبادرة في إحداث آليات فعله المنظم وتوسيع مجال تأثير مؤسساته. هكذا صارت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي رقما مؤثرا، في أي معادلة سياسية وجمعوية، من خلال الحضور القوي لمعظم أعضائها في الكثير من المؤسسات، على رأسها المؤسسة التشريعية حيث حقق فقيدنا العزيز حضورا لافتا، عزز من خلاله الكثير من المكتسبات السياسية والحقوقية، في محاولة لتجاوز التصدع الذي عرفته القوى التقدمية وتصفية الأجواء من مخلفات مرحلة الاصطدام والتجاوزات
القانونية وأساليب التهميش. وكان أبرز المكتسبات تشكيل الكتلة الديمقراطية، التي بلورة قاعدة لتحقيق نوع من التقارب بين القوى الديمقراطية التقدمية، على أرضية الحد الأدنى، والتي قادت إلى انفراج استفاد منه العديد من ضحايا زمن الجمر والرصاص. تلك أسس البدايات التي فتحت آفاقا لتحقيق نوع من التقارب بين قوى اليسار، توجت خطواتها الجادة بتشكيل “اليسار الاشتراكي الموحد” كتجل لما عرفته الساحة السياسية من تطور، أكدت فعاليته الاختيارات المؤسسة للفعل الديمقراطي المنظم والقائم على الفعالية المجتمعية والانخراط الفاعل لمختلف الفئات صاحبة المصلحة في تغيير قواعد الفعل السياسي ومستلزمات العيش الكريم والتساوي في الحقوق.
تلك إشارات إلى ما حفل به مسار رجل عاش من أجل الآخرين، وتحمل كل الأعباء حتى يلفت الانتباه إلى ما يجب القيام به لتصحيح ما يمكن تصحيحه لتجاوز كل معيقات التطور على مختلف المستويات، رجل شجاع ومستقيم آمن بقدرات الشباب وفعاليته في تحقيق تطلعاته في التغيير المنشود، القائم على تمكين كل مواطن من حقه في تجاوز شغف الحياة والعيش بكرامة في وطن يتسع للجميع بكل امكانياته الإنسانية والطبيعية، وطن بتاريخه وعزيمة رجاله ونسائه قادر على تجاوز كل معيقات التطور وكل الحواجز التي تحد من طموحات مكوناته وخاصة تطلعات شبابه، الذي رافق مسيرته وهو يسير بجانبهم تسنده قناعته بأن القادم أفضل فلروحه الطاهرة ألف سلام.