خاصيات التجديد القصصي في مجموعة “حكاية جميلة الجميلة”

خاصيات التجديد القصصي في مجموعة “حكاية جميلة الجميلة”

عبد النبي بزاز

       تصدر مجموعة “حكاية جميلة الجميلة” القصصية  للقاص المغربي حسن البقالي، وهي عبارة عن قصص قصيرة، عن مرجعيات متعددة ومتنوعة تتوزع بين التاريخي، والفكري، والأدبي، والأسطوري… في استشراف آفاق موسومة بالتنوع والتشعب لتأسيس إواليات نمط إبداعي قصصي (قصة قصيرة) بخلقه أشكالا تعبيرية عبر اختلاف نوعي على مستوى الموضوع، وأدوات الصياغة بما تخلقه من آفاق التلقي والتأويل لدى المتلقي، حيث تتنوع اللغة، مثلا،  في سياق الأمثلة الشائعة من بساطة التركيب والتعبير: “يرى البعض بأن الشجرة يمكن أن تغطي الغابة. ” ص 7، في إشارة إلى ما يمكن إخفاؤه من حقائق كاملة أمام بروز إحداها التي تخفي غيرها، أو في  مثل آخر: “لقد كانت من الغطرسة أن قتلت القط منذ اليوم الأول” ص 21، وهو مثل يدل على فرض الشخصية منذ الوهلة الأولى، وفي: “ولأرِها العين الحمراء” ص 21، لإبراز قوة الشخصية في جانبها الجدي الذي لا ينقاد لأي تنازل أو تساهل، وفي عبارة: “والله لن يفارقني معك صابون تازة.” ص 71، وهو مثل يعكس قوة الإصرار على نيل حق أو انتزاعه، بينما يرقى الأسلوب، ولغة التعبير إلى مقامات أكثر جزالة في اللفظ والعبارة، وحسن التشبيه في سياقات أخرى مثل: “بل منحنيات يشد بعضها بعضا مثل صف من الحوريات، مثل أمواج رفيقة تحمل الرائي نحو شاطئ للمتعة والإحساس بالجمال” ص36، في تصوير للمبنى بشكله النهائي: “استوى المبنى في حلته النهائية مثل سر أفشي في آخر العمر …” ص 37، وما تنضح به  الصورة من نفس شعري عبر تشبيه بليغ ومعبر. ليتكرر ذات التعبير في العديد من نصوص المجموعة ولوحاتها كما في نص ” شحاذون ولصوص”: “كان النهار قد  سلم مفاتيح الكون بشكل نهائي ومضى، وشرع الليل ينشر ظلاله على الحركات والأجساد.” ص 73، في تصوير، لا يخلو من جمالية، لانتهاء زمن النهار وحلول الليل. وفي تناوله لأحداث بارزة ينهج القاص طرقا مغايرة تخلع على مساره القصصي زخما من حسن الصنعة، ومهارة الخلق كما في أولى قصص المجموعة” 1948″ ليغدو للغة الأرقام قيمة فنية ورمزية غير مألوفة: “الرواية التي كانت نتاج زمن ما بعد الحرب الكونية الثانية سنة  1948 تحديدا، حملت عنوان 1984” ص 48، وهو تغيير لم يقتصر على الكاتب (أوريل) فقط بل انتقل للمتلقي: “فمن البديهي أن يتمكن المتلقي بدوره من ممارسة نفس اللعبة، بحيث يصبح العنوان هو 4189 أو 8149.. وبذلك تستطيل ظلال الرواية وتصبح رواية كل الأزمنة.” ص 8. فسنة 1948 شهدت حدث اغتيال المهاتما غاندي، وفي العام 1984 اغتيلت (أنديرا) كذلك، فنفس الأرقام (1489) وفي ترتيبها بشكل مخالف أرخ لاغتيال زعيمين هنديين: غاندي، وأنديرا  بخلفيات عصبية طائفية، لتظل الأرقام رهينة بأحداث أخرى مروعة في الزمن القادم كصورة القتل التي تكررت في ذبح السائحتين السكونديفانيتين على يد الشبان الثلاثة الملتحين، الذين اغتالاهما تحت طائلة وازع ديني ترسخت قناعته في أذهانهم ونفوسهم، وتشبعا بنزعته الإرهابية المتطرفة: “سيجعلون منهما قربانين لدخولهما سك الجهاد (الكافرتان عليهما لعنة من الله وخزي عظيم). ذبحوا الفتاتين، بوحشية منقطعة النظير ذبحوهما من الوريد إلى الوريد… ” ص 16. الموت الذي يقترن ، بشكل أو بآخر، بعالم  يعج بالغرائب والمتناقضات، وبقيم ومعتقدات تؤجج في عقول ونفوس معتنقيها اقتراف أبشع الأفعال، واجتراح أفظعها. عالم يختزله  “بورخيس” في اعتباره: “كتاب استثنائي مرعب يضم الكتب جميعا والأزمنة.” ص 9، و” بن عربي”: “كتاب تكوين يتضمن رسالة من الله تماما مثلما يتضمنها الكتاب التنزيلي. والحياة التي تأخذ شكل طفل يلهو مجرد مزحة، لأن وجه الطفل هو في الحقيقة وجه راشد بقسمات قاسية، مهيإ لكل أنواع الشرور.” ص 9. وتتضمن ثنايا القصص الجانب الأسطوري، في شقه الغيبي الغرائبي بما يخلقه من عوالم تحفل بكائنات مثل الجن: “يعرف الجميع آنذاك ـ بيقين راسخ ـ بأن ملك الجان قاضي القضاة  قد حضر . “ص15، بل إن المعرفة بوجوده تنتقل إلى الطيور (الغربان): “الغربان أيضا تعرف ذلك، هي التي تحوم بالخارج تملأ الفضاء العاري بالنعيق كأنها مسكونة بآلاف الأرواح الشريرة.” ص15 ، والتي تغدو هي الأخرى مسكونة بأرواح الجن. لتتحول نزعة الشر والأذى من الجن إلى الإنس في إحالة إلى جريمة ذبح الفتاتين السكونديفانيتين على يد الشبان الملتحين، وما أثاره كجريمة هزت أوساط المجتمع التي تصدت له بكل أنواع الإدانة مع المطالبة بتنزيل أقسى العقوبات على الجناة: “والفتاتان الشمعيتان تنتفضان من حر الذبح تدفعان بشكل يائس ثلاثة عفاريت من أشرار الإنس. “ص16، في التأسيس لتماه مفعم بالشر والجور بين البشر والجن لتبرز قدرة القاص الفائقة على الجمع بين حدث القتل وعالم الأسطورة في شقه الغيبي العقائدي والمزج بينهما عبر صيغة من تقاطع وتداخل: ” كانت يامنة تتمرغ داخل التجويف الصخري تدفع الجني من تجويف الجسد ، والفتاتان الشمعيتان تنتفضان من حر الذبح… ” ص16، ولم تخل قصة “حكاية جميلة الجميلة” من المسحة الأسطورية، بدءا بما جمعها من قصة غرام مع معشوقها رجب مربي الزرازير، الذي كان يرسل، بشكل عجائبي فانطاستيكي، زرزوره الأثير (رسول) إلى جميلة  في مشهد غريب وغير مألوف ليحط على كتفها، وهي قصة تتقاطع مع قصة النبي يوسف وإخوته الذين لم يتورعوا في إلقائه داخل بئر ليتخلصوا منه بعد ما لمسوه من معاملة تفضيلية لوالده له عليهم، نفس القصة، ونفس المشهد يتكرر مع جميلة التي ألقي بها في البئر من طرف أخواتها ، وما عاشته من أحداث غريبة داخل غياهب أعماق الجب، حيث صادفت وحشا طيبا قضت معها أوقاتا طيبة، وتعرفت على بوابة سرية تفضي إلى حديقة قصر أمير وقع في حبها إلا أنها ظلت مخلصة لـ (رجب) لتؤول قصة جميلة إلى نهاية سارة في مشهد احتفالي  بهيج: “أحاط بجميلة الأحبة والأخوات النادمات، واحتفلوا بزفافها إلى مربي الزرازير.” ص 20. قصص ما تني تخاتل الواقع متوسلة بأساليب حكي متنوعة تخوض في بعض تفاصيل حدث انتشر بين الناس، وشغل حياتهم كـ (فيروس) كورونا في قصة “أقفز في الفراغ وأمضي”، والذي حدد فيه الجد، وما يمثله  ويرمز له من قيمة عمرية وزمنية، موقفا ثابتا صادر عن وعي بخصوص ما يحيط  بهذا الفيروس من تلاعب وتضليل باعتبار اللقاح مؤامرة ، دفعه لرفصه: “وحده جدي أمعن في الرفض” ص38، بينما سارع الآخرون لأخذه: “هكذا سارعنا إلى أخذ جرعات اللقاح ضدا على تحذيرات البعض ممن انبروا لمواجهة الطروحات الرسمية… ” ص 38، مما قاد الجد إلى الاعتكاف في غرفة بسطح المنزل معتزلا أفراد الأسرة: “ـ لا بقاء بينكم . هكذا حسم  قراره باعتزال الأسرة واتخاذ الغرفة على السطح مسكنا له، مع الاحتراز من كل ما يمكن أن يصيبه أو يفسد خلوته. ” ص39 ، وانخرط داخل غرفته في طقوس غريبة: “يخطر لي أن جدي قد جن، وأنه يطوف عاريا حول نار متخيلة، أو يسابق  غزلانا لا مرئية في وهاد بعيدة، لن يرجع منها أبدا… ” ص41، سارع الجد بعدها إلى كتابة ما راوده من أفكار وخواطر لمواجهة الوباء، ومجابهة تداعياته: “ها أنذا أتنفسك بعمق أيها الهواء فهل تمانع؟

  … في سني هذا ، سن السابعة والسبعين روحي مثقلة بالزمن وبالخطايا وجسدي موغل في الهشاشة، هل أعبأ بشيء اسمه كورونا وأخشى على حياتي منه؟” ص 42، ويبدو أن ما سلكه القاص، في أغلب نصوص المجموعة، من حكي حول وقائع مستلهمة من الواقع اليومي، من مسلكيات تسهم في إغناء منسوب القص بزخم مفعم بأفكار غزيرة ومتنوعة عبر أسئلة ذات نفس أنطولوجي أسطوري معرفي . وفي ارتباط بتجليات الواقع وتمظهراته يرصد الكاتب ما يعتري مجموعة من القطاعات من فساد وتلاعب خصوصا في مجال أكثر قيمة وحساسية كالتعليم، وما صدر عن أستاذ جامعي من ابتزاز تجاه إحدى طالباته: “كانت التسجيلات واضحة جدا، بدا فيها فاسدا مرتشيا، يستغل  منصبه بدناءة ويلوث صرح الجامعة بسلوك مرفوض، وكنا واثقين من أنه سينال جزاءه… لكننا أفقنا . أيقظتنا الصفعة، صفعة طردنا من الجامعة بدعوى أننا مشاغبون وذوو أخلاق فاسدة.” ص47، وما يعرفه المعيش اليومي من غلاء في أوساط الفئات المعوزة كما في قصة “بّا المحجوب”: “فثمة غلاء فاحش يتربص بالمتسوقين وثمة جفاف ومحل.” ص 62، وقد عمد كذلك إلى صيغ متعددة في تشكيل قصصه كاستخدام عنصر المفارقة في شخصية  (خربوشة) وما عاناه زوجها صحبتها من ألوان الذل والاحتقار: “لكنك لست عيسى بن عمر أيها الأمرد” ص 23، ولم يخلصه من نير تسلطها إلا اكتشافه لفزعها الشديد من حشرة الصرصور: “وهي تصرخ من الذعر: (أبعدوه عني، أبعدوه عني)” ص23، ولا تطيق رؤية شكله: “إنه مقزز.. مرعب” ص 23، اكتشاف تغير معه سلوكها القاسي إزاءه، وتطورت علاقته بالصراصير: “كانت علاقتي بالصراصير تتوطد أكثر يوما بعد يوم، فيما علاقتي بخربوشة تزداد برودة وانطفاء. تكتفي بمراقبتي عن بعد، متوجسة وغارقة في صمت موحش… وأناـ الذي لم ينس زمن المذلة ـ لا أتورع بين الفينة والأخرى أن أشهر في وجهها صرصورا أسميه حبيبي وأمسح على ظهره بود غامر.” 26. وعنصر التحول الذي طرأ على (خربوشة)، في قصة “جحافل صغيرة تدحر العدو”، فتغيرت من شخصية عنيفة مرعِبة تنكد حياة زوجها، وتملأها بألوان الفزع والهلع إلى امرأة مسالمة ساهمة في الصمت والهدوء في حين تحول زوجها (عيسى) إلى صرصور ضخم يشكل لها مصدر خوف وتوتر وقلق: “يمكن القول إنني صرت صرصورا عملاقا حقيقيا ومنفرا… ومحاطا بصراصير صغيرة تتقافز حولي …” ص 26،وتحول الطائر إلى فرن ، وتحول الفرن إلى فرج في قصة ” ابّا المحجوب ” : ” لكن الطائر لا يلبث أن يتحول إلى فرن ويتحول الفرن إلى فرج هائل ونابض هو فرج أمي السعدية … ” ص 69، وتقمص حرفة الشحاذة بادعاء العمى وفقدان البصر : ” ها قد صرت أعمى” ص72، في تفاهم مع شحاذ آخر أبدى عدوانية في المطالبة بإخلاء مكانه ليشكلا ثنائيا يستجدي المارة بعاهات مصطنعة لم تخف على البعض الذي أسر بذلك على شكل تلميح بمسحة أدبية كملاحظة المرأة التي همست في أذنه: “ـ كان أبو الفتح الإسكندري أجلى فصاحة” ص  72، عبارة لم يتردد رفيقه الشحاذ  في تفسيرها: “هو (أي أبو الفتح الإسكندري) أحد أسلافك اقترنت لديه الشحاذة بالفن…” ص 72، في إشارة إلى أبي الفتح الإسكندري البطل (الوهمي) لمقامات بديع الزمان الهمذاني، فضلا عن توظيف سلوكيات وأفعال ميزتها  الغرابة كاعتقال السعال داخل كيس انتقاما مما سببه له من ألم، عانى منه قبل ذلك والده: “أسعل في كيس ما تيسر لي السعال وأشد عليه… أضحك في شماتة وربما أخاطبه قائلا: (لا داعي للفطفطة أيها السعال، أنت الآن طائر صغير في قفص)” ص55، كما تمت الإشارة والتلميح إلى ما يعيشه واقع الكتابة، وتداول الكتاب والتعاطي معه من تراجع وانحسار مختزلا ذلك في سؤال: “… ألا تنوي أن تضمن روايتك زنزانة سجن؟” ص 73، وما يفتحه هكذا سؤال من آفاق حول وضع الكتاب، وواقع الكتابة المتردي والمترنح، ومما يغني مكونات المتن السردي بما يضيفه من عناصر وتيمات تجعله أكثر سعة وتشعبا وانفتاحا، وكلها عناصر ومكونات إلى جانب أخرى، لا يتسع حيز هذه القراءة  للإحاطة بها، أسهمت في منح قصص المجموعة ميزة التأسيس لنمط قصصي بأساليب جديدة، وأشكال مغايرة تمتح من مرجعيات فكرية وأدبية ومعرفية مختلفة المجالات والمشارب لتصهرها داخل بوتقة نص أدبي (قصة قصيرة ) موسوم بالغنى والتنوع والتعدد، صادر عن رؤية إبداعية تروم الانفتاح والتجديد والتغيير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حكاية جميلة الجميلة (قصص قصيرة) لحسن البقالي ـ مطبعة بلال ـ فاس  2024/ الناشر : دار الوطن ـ الرباط

Visited 30 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد النبي البزاز