فيليب سوليرز: رواية ”وسيط روحي”
ترجمة: سعيد بوخليط
يوم السبت 3 أبريل 2014، تواجد فيليب سوليرز في لوكسمبورغ بدعوة من معهد بيير فيرنر، هكذا انخرط في نسج متواليات خطاب بلا منهجية مقيَّدة، أسفر عن هذا اللقاء الحواري بمناسبة إصدار سوليرز لروايته: ”وسيط روحي”.
س- عملكَ المعنون بـ”وسيط روحي”، من خلال المعجم الذي استشهدت به، يحيل معنى ذلك على شخص قادر ضمن سياقات معينة، على نسج علاقات مع الأرواح”. تكشف الرواية عن سارد يشبهكَ كثيرا، ويملك تحديدا هذه السمة. فما الذي يثير اهتمامكَ بهذا الخصوص؟
ج- من المعلوم أنَّ هذه الكلمة تنطوي على تاريخ كبير، لقد استعملت خاصة خلال القرن التاسع عشر. لنتحدَّث عن شاعر كبير مثل فيكتور هيغو الذي امتلك حقَّ أن يحظى بمراسيم جنازة وطنية. فلماذا أضحى شرسا وقلب الطاولات خلال فترة نفيه إلى جيرزي؟ يتعلق الأمر بالسِّحر والتنجيم. لا أوظف قط ذلك المفهوم وفق هذا المعنى، بل أستلهمه حسب تصور شخص يمكنه توقع الظواهر والتنبُّؤ بها، سواء عبر الأشخاص، أو في إطار تواصله مع الزمن الماضي. أن تكون وسيطا روحيا، يعني أساسا القدرة على رؤية المستقبل انطلاقا من الماضي. هنا تكمن أهمية الشخصية الرئيسة في هذا العمل مثلما يجسِّدها القائد سان سيمون (1675 -1755).
س- لماذا هذا الاهتمام ب سان سيمون؟
ج- لأنه حسب تقديري يعتبر أكبر كاتب فرنسي. ومن جهة أخرى فقد كتب خلال لحظة ميَّزها الانهيار الشامل، وقد بدأت إشارات سقوط لويس الرابع عشر. تشغل مذكراته بأجزائها الثمانية حيِّزا داخل مكتبة لابلياد. تخبرنا صفحاتها عن مدى إلمامه الشديد بما يحدث داخل قصر فرساي، الذي شكَّل مركزا للعالم، مملكة صارت فيما بعد وطنا كبيرا لنابليون، الوطن، ثم الوطن الصغير وحاليا بلدية تقع بجانب نهر كوريز، هل أدركت ما أودُّ استنتاجه. إنَّنا بصدد تفكُّك شامل. أرى مفيدا تأمل الوجه المغاير لتاريخ اليوم، تحديدا مثلما رصد سان سيمون معالم تفكُّك المملكة الذي أفضى إلى الثورة.
س-ليس سان سيمون الوسيط الوحيد في روايتكَ ”وسيط روحي”. بل تضمَّنت كذلك إحالات على كتَّاب آخرين.
ج- هناك بالتأكيد ميشيل دي مونتين الذي عاش في بوردو مثلما الشأن معي. أتذكَّر زيارتي وأنا في سنِّ الثانية عشر إلى البرج الذي كان يقطنه، حيث أغلق على ذاته، بكيفية معينة. انطوت أعمدته على نقوش باللغتين اللاتينية والإغريقية. ندرك بأنِّه شخص خشي من انقراض الثقافتين اللاتينية واليونانية. هاهو نموذج وسيط روحي، أحسَّ بانتمائه إلى سياق حقبة تضمر تحوُّلا معتبرا، يمكننا نعتها إذا أردنا بـ”النهضة”. كذلك، ورد اسم بروست كوسيط روحي أساسي، الذي وصف في رواية ”البحث عن الزمن الضائع”، تفكُّك حضارة بأكملها قبل مذبحة (1914 -1918).
س- كنَّا حينها عشية ثورة؟
ج- إنَّها أكثر من ثورة، بل طفرة تغيير وجهة حقبة.
س- لكن الطفرات تشكّل جانبا من تاريخ الأفراد. فما الذي يمكنه إثارة الذعر أكثر بصدد مانعيشه؟
ج- يقودنا هذا السؤال إلى العولمة. وألاحظ وقع أثرها على الفرنسيين بكيفية مؤلمة جدا.تظهر باقي الشعوب الأخرى، بما فيها التي تعيش وضعية أزمة حادة، أقل إحباطا مقارنة مع الفرنسيين. أفضت هذه العولمة نحو إعادة توزيع للخرائط مثلما لم يحدث قط سابقا. مثلا الصين، أول قوة افتراضية.
س- هذا من شأنه أن يبهجك، وأنت المولع جدا خلال فترة الشباب بالثقافة الصينية و الماوية، وربما لازلت فعلا كذلك.
ج- ماوي،وضع لايعني شيئا. أكثر مايهمني باستمرار الفكر، فن الخطِّ، القصيدة، طريقة الوجود، باختصار الثقافة الصينية التي لايعرفها سوى القليل من الناس بينما تتجاوز ثلاثة آلاف سنة.
س- قصور على مستوى الثقافة، معناه افتقاد البشر لأسلحة قصد مواجهة المستقبل؟
ج- يستند تشخيصي على أنَّنا نعيش تحت كنف عالم مجنون. المال المجنون، التقنية المجنونة وقد بلغت مرتبة إعادة معالجة الجثث داخل المصانع. رصدتُ في الفصل الذي جاء عنوانه ”مصنع الجثث” ممارسات لم تحرِّك مشاعر أحد. فسرت ذلك بأنَّ الكائن البشري صار مجرد سلعة مختلف أعضائه قابلة للتحويل. المفارقة، تواجد المصنع الأساسي لإعادة المعالجة في ألمانيا.
س- ماهي مرجعياتك؟
ج- أعمل على استئناف استقصاء إنجليزي جدِّي للغاية، أستشهد به دون إيديولوجية، إلى أقصى حدِّ ممكن.
س- أنت على سبيل المثال ضد زرع الأعضاء؟
ج- لست ضد، بل أصف الأشياء، وألاحظ لامبالاة الناس. ليس أسهل من الاكتفاء بإبداء الاستياء. أنا ساخر وهادئ. خاصية فعالة للغاية.
س- مع ذلك أخذت أوصافك وجهة قوية!
ج- نعم، تجلَّى سعيي قويا، لكن دون غضب مثلما فعل سان سيمون.
س- ألا ينطوي كتابكَ على تصفية حسابات، حينما تتحدث مثلا ”عن بلاهة الصحفيين”، أو النوع الأسوأ مثلما تجسِّده ”البورجوازية الفرنسية الصغرى”؟
ج- إنها لوحات، وصور تتعلق بحقبة. لاحظتُ بأنَّ البورجوازية الصغيرة الفرنسية للطبقة المتوسطة قد امتلكت قوة خطيرة.
س- هذا يساهم في تدهور المجتمع؟
ج- ليس تدهورا، وهو مفهوم ينتمي إلى القرن التاسع عشر. عندما نقول بأنَّ كل شيء بصدد التَّدهور، يفصح ذلك عن رجعية شائخة وسخيفة،على منوال تصورات الجبهة الوطنية، وقد افترضت إمكانية حدوث نهضة. أنا أقول: لا.ليس بتدهور، لكنه أسوأ، يتعلق الأمر بتحلُّل (قهقهات)!
س- مما يعني؟
ج – مثل قطعة السكر في القهوة، ستلاحظ كيف تذوب؟
س- كيف يمكن الاحتفاظ بالهدوء أثناء الوصف؟
ج- لا أتطلَّع صوب أيّ شيء من معطيات المجتمع، المجتمعي أو الاجتماعي، كيفما جاءت التسمية. لذلك، أنصح كل واحد قصد تعضيده قدر مايمكن فرادته وحياته الخاصة. غير ذلك، يبقى غبار بارود وثرثرة فارغة.
س- هل سيكون فيليب سوليرز رجعيا؟
ج- إطلاقا.على العكس جلّ ماكتبته يظل ثوريا جدا. لقد انطوى هذا العمل الجديد على دليل تحت عنوان ”ضد الجنون”.
س- استشهدتَ بعبارة باسكال، ووضعتها كبداية لتدبيج كتابك: ”الذي أمكنه العثور على سرِّ الابتهاج بالخير دون استيائه من الشرِّ النقيض، فقد وجد التموضع. إنها الحركة الدائمة”. عبارة ملغزة قليلا تختزل فلسفتك؟
ج- عبارة هائلة! يتعلق الأمر بنقطة ميتافيزيقية إذا شئنا، حيث نكون فيما وراء الخير والشرِّ.
س- كيف تشكَّلت معالم روايتك”وسيط روحي” هل تبنى النص، فيما وراء القصد، هيكلا محدَّدا سلفا؟
ج- لا أستند في الانطلاقة على مخطَّط.أسير متعقِّبا هدى جمل أولى ثم ”ينساب السِّحر”. هذا ينقلني صوب حيٍّ خارج مركز مدينة البندقية، فضاء مناقض تماما لمختلف المعتاد القائم حين الذهاب إلى هناك: مدينة البندقية من خلال معرض مؤسسة بينالي، ثم معارض اللوحات الفنية العاصرة للسيد فرانسوا بينو في جمرك البحر، مبديا ابتسامة عريضة جراء مفعول المال الكثير المتداول خلف ذلك. حتما، يقف الرَّاوي هنا وحيدا وهادئا.
س- الرَّاوي هو أنت؟
ج- بالتأكيد أنا،لكن من أنا؟
س- أنت تنحدر من منطقة بوردو. هل انطوى المكان على تأثير بخصوص مابلغته؟
ج- حتما.أنا كاتب فرنسي، لكن لديَّ علاقة خاصة مع إنجلترا. يلزمني الإقرار، وحده العَلَم الانجليزي الذي أوجِّه له التحية بعواطف جياشة، لأنه ينبغي التأكيد حقا بأنَّ الانجليز ربحوا الحرب العالمية الثانية نتيجة التزامهم بين سنتي 1940 و1942.
س- ماذا يعني أن تكون كاتبا فرنسيا؟
ج- هي اللغة.إنَّها لغة مدهشة.لاتنطوي أيّ حضارة أخرى على كتَّاب مهمِّين بقدر تناقضات آرائهم وكذا طريقة تعبيرهم عن تصوراتهم. يعتبر ذلك خاصية للأدب الفرنسي، بينما تفتقد الآداب الأخرى هذا الثراء.
س- رغم ذلك، لم تتضمن صفحات كتابك ثناء معتبرا بخصوص الإنتاج الأدبي الفرنسي المعاصر.قلتَ بأنَّه في فرنسا: ”نصدر أكثر فأكثر، أو بالأحرى ننسى”.
ج- مثلما يقول هيراقليطس، يكفي وجود كاتب واحد، وإذا تبلور ذلك فعليا فإنَّه يساوي عشرة آلاف.
س- من هو؟
ج- أنا (يضحك !)
س- ثم بجانب اسمك؟
ج- يوجد كثيرون. لكن الأكثر جلاء حضور التميُّز الأدبي. رغم كل شيء، هناك كتَّاب يستحقون الذِّكر، يقفون عند زاوية مغايرة لما أقوم به. أهتم حقا بميشيل ويلبك، كريستين أنغوت، باتريك موديانو، باسكال كينيارد، إضافة إلى كونهم أصدقاء. إشكالية الأدب، في الوقت الحالي، افتقاده المعنى التاريخي. أو ربما هي روايات تاريخية، ليس بالتأويل الصحيح. ينصب اهتمامي على التاريخ، سواء الفرنسي أو العالمي. إذا ألغي التاريخ، قد تحصل على كتب جيدة، لكنها من النوع النفسي.
س- تشرف داخل مؤسسة غاليمار على إدارة إصدار سلسلة وتساهم بالتالي في إثراء نتاج اعتبرته سابقا جدّ مهم.
ج- نصدر ستمائة رواية خلال الدخول الثقافي، ونعلم سلفا بأنَّه فقط أربعة إلى خمسة عناوين ستثبت جدارتها على مستوى الجوائز الأدبية. أعرف مسبقا فرضية الجواب القائل، بأنَّها عملية ترتكز على خلق الالتباس! لن يستهويني الزمن الحالي قصد المبادرة إلى مباشرة مهنة أدبية. افتُقِدَ الكثيرون ضمن مثلث برمودا. فيما يخصني، أقوم بما وسعي القيام به. أتحمَّل مسؤولية إصدار أعمال شباب في مقتبل العمر.
س- تصدر أعمالا بكيفية منتظمة. هل تحتفظ ضمن أدراج خزانتك، مثلما فعل أستاذك سان سيمون، بكتابات تصدر بعد وفاتك؟
ج- لديَّ مسودَّات. بيد أنِّي التجأت إلى ترتيبات أخرى نظرا لعدم إيماني تماما بالمؤسَّسات كما الشأن مع المكتبات التي تعاني من وضعية سيِّئة. خلال هذه اللحظة، أبيع إلى هوَّاة جمع التحف مسودَّات أعمال صدرت لي سابقا. مثلا اهتموا بمسودة روايتي ”نساء”، التي شهدت رواجا. بعد مرور أربعين أو خمسين سنة، سنرى إن تأتت لهم إمكانية بيع تلك المسودة بثمن أغلى. إنَّها طريقة للعب مع الموت ضمن مدى طويل جدا.
س- بالتالي سيفتقد الجمهور لرصيد حول تراث سوليرز يمكنه الرجوع إليه؟
ج- صحيح، لكني أراهن كليا على المابعدي. لا تهمني السُّلالة، أستمتع فقط باللعب مع الموت. لا أتطلَّع صوب ”اعتراف” المؤسَّسات. أراهن وحدي، على أمر من هذا القبيل، ”كاوبوي وحيد”.
س- ماهو كتابكَ المفضَّل حاليا؟
ج- أعمال مدام دي لافاييت، وقد انضمَّت إلى عناوين مكتبة لابلياد. تحفة مهمة للغاية، لم تفقد بعد طراوتها مع الزمان. أقرأ أيضا الأجزاء الثلاثة عشرة لمراسلات فولتير. إنَّها متعة. شكَّلت خزانتي مؤلفات يبدو أنَّها كتبت صباحا.
شذرات مختارة: رواية”وسيط روحي”، منشورات غاليمار. 2014
”يعتبر الجنون نفسه إلها، يعرف ويحيط بكل شيء، منذ الوهلة الأولى. لا يملك أيَّ فضول، فقط جنسيّ أو غير صحيّ. يعتقد امتلاكه مفتاح أحلام الرؤى، السلوكات، الرغبات، الوجود. الجنون لايفكر قط، بل يحكم، يستبق الحكم، يمتلك جوابا بخصوص كل شيء. يعيد بجرَّة قلم كتابة الأرشيف البشري”(ص 49) .
”ليست التقنية من أحدثت الاضطراب وعمَّمَته بل البشر. نادرا، مايستحق هؤلاء البشر أجهزتهم، لقد صاروا أجهزة اصطناعية بلا فاعلية تقريبا”.
”ستصادف الصحفيين التافهين، المفضَّلين لديكَ. هنا، لايوجد جوار، أنتَ أو هُمْ أو هُنَّ، بالسِّلاح الأبيض” (ص 65).
”تقرُّ جدا بالزواج للجميع، بمعنى الغباء بالنسبة لهذا الجميع، طبعا تحت يافطة الحب” (ص 71) .
”امتياز الفرنسي، إيجازه واهتزازه. ليس مؤهَّلا للتواصل لكن بهدف التخلُّص، الاختزال إصدار الرأي، ثم القتل” (ص 96).
_________________________________
مرجع الحوار :
PILEFACE.com : 04 Juin 2014