في ذكرىَ رحيل سيرفانتيس وعودة إلى رائعته ضُونْ كِيخُوتِه

في ذكرىَ رحيل سيرفانتيس وعودة إلى رائعته ضُونْ كِيخُوتِه

السّفير  د. مُحمّد مَحمّد الخطّابي

        في الثاني والعشرين من شهر أبريل الفارط من السنة الحالية 2024 صادف الذكرى 408 لرحيل أشهر وأبهر، وأكبر اللرّوائييّن  الإسبان ميجيل دي سيرفانتيس صاحب رواية “ضون كيخوته دي لا مانشا”، الذائعة الصّيت، هذا الرّوائي العبقري الذي طبع العالمَ الأدبي والرّوائي في إسبانيا على وجه الخصوص بطابعه الخاص الذي لا ينازعه فيه أيّ مبدع آخر من طينته في هذا القبيل. سيرفانتيس من مواليد 29 سبتمبر 1547 بمدينة ألكالا دي إناريس( قلعة النهر)، والمتوفىّ بتاريخ 22 أبريل بمدريد 1616.

تظاهرات واحتفاليات

    كانت اسبانيا ومختلف الأوساط الأدبية في العالم الناطق باللغة الإسبانية قد احتفلت مؤخراً على أوسع نطاق بذكرى رحيل هذا المبدع الفريد وذلك – بتنظيم معرض فوتوغرافي كبير للفنان الإسباني خوسّيه مانويل نافيا، تحت عنوان “ميجيل دي سيرفانتيس.. أو الرغبة في الحياة، أمكن لزوّاره أن يقفوا فيه على جميع الأماكن، والمواضع، أو الجهات، والمناطق التي زارها سيرفانتيس أو عاش فيها أو صادفته فيها مختلف أنواع الظروف، والملابسات التاريخية التي لها صلة بحياته، مثل وجوده في ليبانتو (خليج باتراس)، أو في الجزائر، أونابولي، أو ألكالا دي إناريس، (قلعة النهر)، أوفى مدريد، أوطليطلة، أو في سهول وسهوب أرض “لا مانشا” حيث ينحدر هذا الإسم من الكلمة العربية (المنشأ)، كانت هذه الصور قد قدِّمت  للزوّار في مقرّ “معهد سيرفانتيس الثقافي” بالعاصمة الإسبانية مدريد مختلف المعايشات التي عاشها سيرفانتيس في هذه الأمكنة، والتأثير البليغ الذي خلفه فيها من حيث خلق الأجواء والفضاءات التي لها صلة بروايته، فضلاً عن شخصيات هذه الرّواية وطقوسها أو بعض الأحداث التي نجدها فيها. وقد تمّ نقل هذا المعرض إلى العديد من المدن الإسبانية وبعض العواصم العالمية التي تُعنى بالثقافة الإسبانية خاصة في بلدان أمريكا اللاتينية..

    عاش سيرفانتيس بمدينة “فيالدوليد” أو ( بلد الوليد) في الفترة المتراوحة بين 1604 و1606 وفيها حصل على الإمتياز الملكي لنشر الجزء الأول من روايته الشهيرة. كما عاش قبل ذلك في مدينة طليطلة، حيث تعرّف هناك عام 1584 على المرأة التي ستصبح زوجته وهي “كاتالينا دي بالاثيوس”  التي لم يكن عمرها يتجاوز بعد 19 ربيعاً، فى هذه المدينة الفريدة التي عرفت معايشات نموذجية بين الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام إبّان الوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية، عاش سيرفانتيس إلى جانب زوجته في منزل أحد أقاربها، الذي كان يحمل اسم “ألونسو كيخادا دي سالاثار” وهو الاسمُ، و- على ما يبدو أيضاً- الطبعُ كذلك اللذان استوحي منهما الكاتب المادة الخام لتشكيل وصياغة شخصية بطله في روايته دون كيخوته ..

بين صاحب عُطيْل وصاحب ضُون كيخوته

    وتجدر الإشارة أن الاحتفال بذكرى رحيل مجيل دي سيرفانتيس كان قد تصادف عام 2016 مع احتفال الأوساط العالمية في ذلك الإبّان بالذكرى 400 لرحيل عبقريّ آخر في الإبداع السردي الروائي والخلق الأدبي وهو وليم شيكسبير. حيث تمّ الإحتفال في كل من إسبانيا وإنجلترا بهذا الحدث الأدبي الكبير، وتمّ تسليط الأضواء على وجه الخصوص على التأثيرات العميقة التي أحدثتها أعمال هاذين العبقريين العالميين في الآداب العالمية، كما تمّ في العديد من المناسبات قبل هذا التاريخ دراسة نصوصهما الإبداعية وتحليلها من طرف المتخصّصين في كل من إسبانيا وإنجلترا، ومعروف أنّ تأثيرهما وصورتهما قد أصبحتا أمراً مألوفاً ومعروفاً في الأدبين الإسباني والإنجليزي منذ سنين بعيدة خلت، وكان قد تمّ بهذه المناسبة اختيار إثني عشرة كاتباً معاصراً 6 من الناطقين باللغة الإنجليزية، و6 آخرين من الناطقين باللغة الإسبانية، كُلِّف كلّ واحد من هؤلاء بكتابة نصّ دراسيّ نقديّ وتحليليّ لتسليط الأضواء على الأعمال الأدبية لهاذين الكاتبين العملاقين وذلك بهدف تتبع ورصد وإقتفاء، وإظهار تأثيرهما في العالم، حيث غالباً ما تعود الشخصيات الأدبية من الناطقين باللغة الإنجليزية إلى أعمال سرفانتيس، في حين يتمّ الرجوع إلى شكسبير من طرف الشخصيات الأدبية من الكتاب الناطقين بالإسبانية. وقد إصدر هؤلاء الكتّاب كتاباً يضمّ هذه الأعمال في طبعة باللغة الإسبانية، وطبعة أخرى في اللغة الإنجليزية.

في عوالم الأحلام

    رواية “ضون كيخوته دي لا مانشا”،  لـ”ميجيل دي سيرفانتيس” الذائعة الصّيت “نالت إعجاب عباقرة الأدب، وفرسان الإبداع العالمي في مختلف انحاء المعكور أمثال: “غوته” و”روسّو” و”فلوبير” و”لاروتشي” و”هين” وكوتيير” و”تين ” و”كونديرا ” و”رولفو” وغارسيا ماركيز” و”باشيكو” و”بورخيس” وميغيل أنخيل أستورياس، والقائمة طويلة. كما كان لهذه الرّواية تأثير بليغ وواسع في الآداب العالمية على اختلافها، وكانت وما تزال محطّ عناية واهتمام الدارسين والنقّاد منذ صدورها حتى الآن. ومن بين هؤلاء الباحث والقاصّ المكسيكي “هيرنان لاسابالا” الذي وضع عنها كتاباً هامّاً تحت عنوان: “الحكايات في دون كيخوته” عالج فيه جوانب الحبّ في مختلف أشكاله، والحريّة في معناها الواسع، والخيال المجنّح الطليق.

    يتّسم نصّ ”لاسابالا” بالثّراء والتنوّع والعمق، وهو يتطلّب تعدّدية لا حصر لها من القراءات، وقد سلك الباحث عند دراسته لرواية سيرفانتيس أسلوباً نقدياً تحليلياً يعتمد على المقارنة، وتتبّع مختلف القصص والروايات والطرائف والأخبار التي حيكت حول هذه الرواية. يشير الباحث المكسيكي: أنّ رواية “سيرفانتيس” تقوم في الأساس على ثلاثة محاور أو أبعاد أساسية هي: الحبّ، الحريّة والخيال. وهي العناصر التي طبعت حياة بطل الرّواية التائه المتجوّل الهائم على وجهه في قرى ومداشر وضيعات قشتالة، في مكان لا يريد أن يتذكّر إسمه وهو ” لامانشا ” (المنشأ)!. 

    هناك العديد من النظريات التى تُحاك حول أخبار رواية “دون كيخوته”، وحول مؤلّفها “ميغيل دى سيرفانتيس ساهافيدرا

   من الإدّعاءات التى  كانت قد راجت في هذا السّبيل حول هذه الرّواية أنها لا يمكن أن تكون سوى عمل” مسيحي جديد”، إذ كما هو معروف فإنّ رودريغو دي سيرفانتيس والد الرّوائي، كان جرّاحاً وتلك هي المهنة التي يمتهنها المرتدّون حديثاً. أضف الى ذلك عنصراً آخر وهو أنّ مؤلّف “دون كيخوته” كان يعشق إمرأة كانت تسمّى “آنا رودريغو دي روخاس” التي تنحدر من أصل “فيرناندو دي روخاس”، وهو يهودي مرتدّ كذلك، صاحب الرّواية الشهيرة في الأدب الإسباني “لا ثيليستينا”، ومن المدافعين عن هذه النظرية الناقد المستعرب والمؤرّخ الاسباني المعروف “أمريكو كاسترو”، وهكذا يلجأ المؤلف المكسيكي إلى إختيار أمريكو كاسترو كأوّل مصدر في كتابه للإشارة، والاستدلال على تداخل الروايات أو الحكايات في “دون كيخوته”. وهناك من يقبل بهذا التداخل، كما أنّ هناك من يرفضه مثل المؤلف”سابالا” نفسه الذي يلجأ إلى البحث والتحرّي عن الصلة الداخلية بين مختلف الفصول وبين المجموع ككلّ.

سيدي أحمد ابن برنجل أو ابن الأيّل!

    يتتبّع المؤلّف في هذا القبيل” الفهرس التحليلي” للرّواية الذي وضعه “خورخي بارغوا” الذي جمع فيه قصصاً وروايات وحكايات قصّة سيرفانتيس، حيث يشير “بارغوا” في البداية إلى أنّ “دون كيخوته” نشر لأوّل مرّة على مرحلتين أو دفعتين إثنتين الأولى (1605) في مدريد، وقد أعيد طبعه في العام الواحد خمس مرّات، ثم جاءت ترجماته إلى اللغتين الفرنسية والانجليزية فضلاً عن 16 طبعة جديدة.

   ويشير “لاسابالا” أنّ النجاح مثل العسل يجلب الذباب إذ في عام (1614) ظهر ما أطلق عليه بـ:” دون كيخوته ” المزوّر، الذي شكّل تكملةً أو استمراراً لمغامرات “الفارس المتجوّل النبيل” ظهر في مدينة ” طرّاغونة” وكان يحمل توقيع ” ألفونسو فيرنانديث دي أفيانيدي”.

    وكان “سيرفانتيس ” منهمكاً في كتابة الجزء الثاني الذي يكمّل روايته الحقيقية ويعجّل باستكمالها حيث ظهر هذا الجزء منشورا سنة (1615) أيّ بسنة واحدة قبل وفاته. ويعترف المؤلف “لاسابالا” بأهمية المعلومات التي قدّمها “بارغوا” في هذا القبيل حيث نراه يعتمد على تحليلاته الأدبية والتاريخية. كما أنّ المؤلف المكسيكي يلجأ في الوقت ذاته إلى تتبّع كافة الأخبار والنظريات المتعلّقة بالتأثيرات المتداخلة والمتشابكة في كتاب “دون كيخوته”، ويقدّم في هذا الصدد وجهات نظر متعدّدة أخرى حول هذا الكتاب الذي يعتبره من أكثر الكتب قراءةً في العالم. ولإعطاء مثال على ذلك نجد المؤلف يسرد مصدراً آخر لرواية “سيرفانتيس” وهو كتاب ” أسير الجزائر “. ويؤكّد من جهة أخرى التأثيرات العربية في رواية سيرفانتيس حيث تكثر وتطفو على سطح هذه الرّواية العديد من الأسماء، والأخبار، والأماكن، والحكايات، والعادات، والتقاليد، والأعراف العربية، بل حتى مؤلفها ميغيل دي سيرفانتيس يعيد ويكرّر فيها إسم عربي أو أمازيغي موريسكي وهو”سيدي أحمد إبن الأيّل” (حسب المستشرق خوسّيه أنطونيو كوندي والباحث عبد الرّحمن بدوي )، أو “سيدي أحمد بن برنجل” وهو اسم عائلة أندلسية من دينية “(حسب المرحوم الدكتور محمود علي مكّي). وقد ورد هذا الإسم في رواية دون كيشوت بحروفه اللاتينية كما يلي: (cid hamete benengeli). ونظراً لغموض بعض النّصوص، فإن “سابالا” يقول: إنه من الصّعب مثلاً قبول عدم الإكتراث الذي تعامل به مع “سورايدا” والدها (تحريف عن الاسم العربي ثريّا) بحجّة إنصرافها إلى أرض المسيحييّن أو النصارى، فسورايدا تبدأ في سرقته ثم تغشّه وتسمح للآخرين بسرقته، وينتهي بها المطاف بالقرار المجحف، وتقبل بأن يصبح أبوها من الرهائن.

    إنّ المؤلف “لاسابالا” في تحليله وتأويله لهذا العمل يرجع بنا إلى “شكسبير ” (1546-1616) ذلك أنّ تصرّف “مُورَا سُورايدا” يشبه بشكل واضح تصرّف “جيسيكا” مع أبيها “شايلوك” في مسرحية “تاجر البندقية”، الفرق القائم في هذه الحالة هو أنّه إستبدل المغاربة أو المسلمين باليهود.

ما يتراءى للنائم في أضغاث أحلامه

    إنّ بطل قصّة ميجيل دي سيرفانتيس “دون كيخوته” قد تكون نتاج حلم من الأحلام التي تتراءى للنّائم في الكرى. كان الأقدمون يعتقدون أنّ الحلم إن هو إلاّ رحلة الأرواح خارج أسرها الجسد، و”دون كيخوته” عندما ينزل في مغارة “مونتيسينوس” فإنّما هو يقوم برحلة تمتدّ وتستمرّ في أحلامه، أين توجد الحقيقة، وأين يوجد الخيال في هذا الأمر..؟ إنّ موضوع الخلق أو الإبداع في الأحلام قد تعرّض له كثيرون منهم “خورخي لويس بورخيس” الذي يقول: “في الأحلام نبتدع بطريقة سريعة نخادع معها تفكيرنا، ونغالطها بما نحن بصدد إبتداعه”. ويقول كذلك ”لا شكّ أنّ الأحلام عملية جمالية، بل إنها أقدم تعبير جمالي للإنسان”، فالظرف الإبداعي لدى “دون كيخوته” يتقوّى عنده بدخوله وإنغماسه في حلم طويل في مغارة مونتيسينوس. إن عنصر الحلم في عصر “سيرفانتيس” أمر معروف كمصدر أدبي وإبداعي، وهناك العديد من الأسماء الأدبية التي إستعملت الحلم كمادة لإبداعاتها، وكمنهل لإنتاجاتها الأدبية مثل ” لوبيّ دي فيغا “، و”فرانسيسكو كيبيدو”، و”ميدرانو”، و “خوان كولونا “، و”بيدرو دي طابلاريس”، و”خوان أنييس”، وخيرونيمو دي لوماس” و”بورخيس” نفسه، وقبلهم “المعرّي”، و”ابن طفيل”، و”إبن عبد ربّه”، و” دانتي” كل هؤلاء وسواهم جعلوا من الأحلام مواضيع لأعمالهم الأدبية، والفنّان الإسباني الكبير “فرانسيسكو دي غويا”كان يقول: ”إنّ حلم العقل ينجب صوراً غريبة الخلقة”!

    و”دون كيخوته” نفسه يروي أنّه عندما كان نازلاً داخل المغارة شعر بنوم عميق. وعنصر الزّمن من الأهمية بمكان في الحلم، فساعة منه قد تساوي أيّاما، وهو الذي يؤكّد لرفيقه “سانشو”: “لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال مقارنة شيء بشيء”، إنه بذلك كان يزرع بذور نظرية النسبية أربعة قرون قبل “أنشتاين”. فدون كيخوته في قصّة سيرفانتيس هو بطل وراوية في آن واحد. والكاتب في خضمّ خياله المجنّح يقف على أرض الواقع، أيّ أنه يبدأ بحادثة قد تكون حقيقية ليعطي لخياله نوعاً من المصداقية، المغارة ومحيطها السّحري والزماني هي في الوقت ذاته: المتاهة، الجحيم، أو العالم الآخر، كما يسمّيه “سانشو”. هذه المغارة ليست أفقية، بل إنها عمودية، وعند نزول “دون كيخوته” فيها يعيد للأذهان رحلات عشتار، وجلجامش، وابن عبد ربه، ودانتي، وأبي العلاء المعرّي. إنّ دون كيخوته يجد في الأسفل أشياء تذكّره بما هو موجود في السّطح. إنّ البطل يدخل في قدر يقوده من الحمق إلى التعقل، أي من الحياة الى الموت.

بعضُ النوم.. موتٌ مؤقت!

    يقول أحد أبطال شكسبير في عصر قريب من عصر سيرفانتيس: “أن تنام، أن تموت”، وهكذا يلتقي النوم مع الموت، ويفسّر ذاك بذاك، فدون كيخوته قد دخل في موت عابر، وحلو يناسب عصره ويتماشى مع زمانه، وبالتالي يمكن قراءته، وفهمه، وإستساغته، وقبوله كمخلوق من مخلوقات العالم الآخر، وهو في الجزء الثاني من الرواية يجعله سيرفانتيس يحضر جلسة من جلسات السّحر، والتنجيم، فهو إذن مهيّأ ومتأهّب للدخول في عالم الأموات – مملكة الكثيرين- كما يسمّيه الأقدمون، والخروج منه، والمسافة تبدو بعيدة وسحيقة في الوهلة الأولى بين عالم اليقظة والحلم، أو بين عالم الأحياء والأموات، وهي في الواقع مسافة قريبة جدّاً، تصفها شاعرتنا العربيّة الخنساء في أعمق، وأبلغ، وأدقّ وصف مجسّدةً بذلك الشعورَ التراجيدي والدرامي المتناوش الضّارب في القدم، فتقول:

حَسْبُ الخليلين نأيُ الأرضِ بينهما / هذا عليها وذاكَ تحتها بالي.

وجاء البيت في رواية أخرى كما يلي:

حَسْبُ الخليلين كون الأرضِ بينهما / هذا عليها وهذا تحتها رِممَا!

    إنّ نظرة “دون كيخوته” الزّائغة والضبابية  والغائرة في المغارة لها تفسيرعلمي لا محالة بعيداً عن خيال الإبداع وقوّته وزخمه، فالمغارة بنتوءاتها الجيولوجية الضاربة في القدم توحي بتركيب الأجسام وتشكيلها ببقايا الحيوانات الفوسيلية، والنباتات الفطرية المبللة العالقة بها منذ آلاف السنين والتي لابدّ أنها قد تحلّلت فأنتجت مواداً كربونية عندما يستنشقها دون كيخوته يشعر بنوع من التسمّم يبدو أثره الأوّل في الشعور بالإسترخاء، والرّغبة في النوم، فتتبدّد وتتبعثر الصّور أمامه، فيعتريه بعض الدّوار أو التخدير، وهذه الحالة يذكرها ويكرّرها دون كيخوته من أوّل القصّة إلى آخرها، وهو الشعور نفسه الذي يصفه مكتشفو المغارات، فالبخار الكاربوني جعل ”الفارس المتجوّل النبيل ببلاد المانشا“ يفتح مغاليق العقل ويرخي لخياله العنان. ولابدّ أنّ “دون كيخوته“ خلال رحلته إلتقى ورأى في نومه العديد من الشّخصيات التي يذكرها في سياق مغامراته، وشطحاته التي أذهلت وأخذت بمجامع وقلوب الملايين من القرّاء في العالم. إنّ سيرفانتيس إذا لم يكن قد ثبت أنه قد زار ورأى مغارة مونتيسينوس، فلابدّ أنه عرف مغارات أخرى شهيرة توجد على مقربة من مدينة ” الجزائر ” عندما كان أسيراً بها والتي تجعل من يدخلها يشعر بنفس التأثيرات المذكورة.

     ويرى الكاتب المكسيكي ”أليخاندرو أكوستا” من جهته معلّقا على هذا الموضوع: أنّ سيرفانتيس في الواقع عندما كتب روايته الشهيرة، فإنّما هو ربّما كان يصف ويسترجع معايشات شخصية، فهو يتحدّث عن الأحداث كأنّه عاشها بالفعل، ولابدّ أنه ظهرت له رؤى ومشاهدات انطبعت ورسخت في ذهنه وخياله فبسطها في قصّته.

   ويشير الباحث أنّ “دون كيخوته” تتوفّر فيه كلّ الشروط بأن يكون رائياً أو مشاهداً أو مبتكرَ أوهامٍ وأضغاث أحلام بقامته، وهامته، ووجهه المستطيل، الذي يذكرّنا ببيت ابن الرّومي المشهور، وعينيه الغائرتين، وحساسيته المفرطة، وطبعه الهائم، وميله للتعظيم والأنفة والخيلاء، إنّ حمقه اللحظي يتفجّر في حالةٍ من الحمق الدائم، ويتساءل الباحث:هل كان سيرفانتيس في حاجة إلى تنويم “دون كيخوته” ليريه شطحاته، وخيالاته، وأوهامه، وهواجسه في حين أنه قبل ذلك في جنح الليل أمكنه مشاهدة طواحين الرّياح العملاقة والعجيبة التي تدور وتدور بدون توقّف أو انقطاع..؟!.

Visited 46 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا